بول إيدون**
رغم فقدان تنظيمِ داعش السيطرةَ على جميع الأراضي التي كانت تُشكِّل في السابق خلافته المزعومة، فلا يزال لدى التنظيم قواتٌ سرية تشكل تهديدًا أمنيًا كبيرًا لمنطقة الشرق الأوسط، وشمال أفريقيا. يُعزى ذلك إلى حدٍ كبير إلى الصراعات الداخلية التي تزعزع استقرار العديد من الدول الرئيسية في المنطقة، والتي في حال ترُكت دون حلّ فإنها قد تقود عن غير قصد، إلى إفساح المجال لعودة تنظيم داعش على نطاقٍ واسع. إن إلقاء نظرة على حالات أربع في هذا الصدد، وهي مصر، وليبيا، والعراق، وسوريا، يكشف عن اتجاهٍ مقلق للغاية.
مصر
يبدو أن الفرع المصري لتنظيم داعش، والذي يتخذ من منطقة سيناء، ذات الكثافة السكانية المنخفضة، لا يزال يجد هناك موطئ قدم. ورغم المداهمات والعمليات العسكرية المستمرة من قِبل الحكومة المصرية والتي حققت انتصاراتٍ تكتيكية في حربها ضد تنظيم داعش، والجماعات الجهادية الأخرى الناشطة في شبه جزيرة سيناء، فإن تحليلًا حديثًا للأوضاع هناك، حذّر من إمكانية أن ينشط التنظيم هناك مرة أخرى، وأن سيناء لا تزال أرضًا خصبة لتنظيم القاعدة وتنظيم داعش، والجيل القادم من الجهاديين العالميين1“.
من جانبٍ آخر، تحذر تقارير من إمكانية استغلال داعش للسجناء من تنظيم الإخوان والمتهمين في عملياتٍ إرهابية، عبر تجنيدهم، حيث قال سجناء سابقون إن تنظيم داعش “يستغل السجناء وغضبهم ويقدم لهم وعودًا بالانتقام”. ونتيجة لذلك، وفقًا لبعض التحليلات فإن التنظيم “أصبح يسيطر بحكم الواقع على أجزاء من السجون”2. من جانبه، يؤكد النظام المصري تدابيره الخاصة بملاحقة الإرهابيين وعناصر الأخوان بأنها ضرورية للحفاظ على الاستقرار وحماية الدولة من المتطرفين.3 لكن الوضع لا يزال مقلقًا، وبما أن مصر دولة كبيرة جدًا، فإن عواقب هذا من شأنها أن تؤثر على المنطقة بأسرها4.
ليبيا
يوجد لدى داعش فرع صغير في ليبيا استولى على مدينة سرت، مسقط رأس الديكتاتور الليبي السابق العقيد معمر القذافي، في مطلع عام 2015، وفي وقتٍ من الأوقات، سيطر على 150 ميلًا من الساحل الليبي الطويل على البحر الأبيض المتوسط. وفي نهاية المطاف، قام رجال الميليشيات الليبية المناهضة لتنظيم داعش، بدعمٍ من الغارات الجوية الأمريكية، بطرد التنظيم من سرت بحلول ديسمبر 2016، لكن مؤشرات جديدة تشير إلى أن التنظيم لا يزال له حضور في ليبيا، ويستغل الاضطرابات التي لا تزال موجودة هناك5. فعندما شنّ الجيش الوطني الليبي هجومًا كبيرًا على حكومة الوفاق الوطني في أوائل أبريل، وفرض سيطرته على العاصمة الليبية طرابلس، فإن هذه المعارك يبدو أنها خففت الضغط على فلول تنظيم داعش هناك. وفي أوائل يونيو، أشار بول سيلفا، نائب رئيس هيئة الأركان المشتركة للولايات المتحدة، إلى “لقد شهدنا عودة طفيفة لمعسكرات [داعش] في المنطقة الوسطى6“.
وفي مايو، أعلنت جماعة «داعش» الليبية مسؤوليتها عن هجومٍ على معسكر تدريب للجيش الوطني الليبي، مما أسفر عن مقتل تسعة أشخاص7. وفي أوائل أبريل، بعد وقتٍ قصير من سيطرة حفتر على طرابلس، اغتنم التنظيم الفرصةَ لشنّ هجوم على بلدة الفقهاء، وهي بلدة نائية تقع على بعد 400 ميل جنوب شرق العاصمة الليبية، أسفر عن مقتل ثلاثة أشخاص، وإضرام النار في عدة مبان.8
ورغم أن هذه الهجمات لم تكن ضخمة، فإنه ليس من قبيل الصدفة أن فلول تنظيم داعش في ليبيا قد شعروا بالجرأة بسبب استمرار الصراع في ليبيا وتأخر الحل السياسي، ومن المرجح استمرار التنظيم في الاستفادة من هذه الأوضاع في ليبيا.
العراق
عندما صوّت الأكراد العراقيون بأغلبية ساحقة لصالح الاستقلال في استفتاءٍ غير ملزم أجرته حكومة تلك المنطقة التي تتمتع بالحكم الذاتي في سبتمبر 2017، اتخذ العراق على الفور خطوات لمعاقبتهم. بدأ ذلك بإغلاق مطاري كردستان الدوليين. وبعد ذلك، وبتوجيهات إيرانية، استولت قوات الأمن العراقية عسكريًا على محافظة كركوك الغنية بالنفط، وهي منطقة متنازع عليها بين الحكومة في بغداد، وحكومة إقليم كردستان. وأدى هذا الإجراء الأخير إلى إطلاق القوات العراقية والبيشمركة الكردية النار على بعضهما البعض، للمرة الأولى منذ حكم صدام حسين العراق. كان هذا بعد مضي عام واحد فقط على تنسيق الجانبين لجهودهما ضد داعش في الموصل -وهي أكبر مدينة استولى عليها التنظيم على الإطلاق، ومنها أعلن الخلافة لأول مرة- في خطوة تم الترحيب بها على أنها تاريخية.9
وفي حين أن العلاقات بين بغداد وحكومة إقليم كردستان قد تحسنت بشكل كبير منذ أزمة كركوك، فقد تم تحطيم المحرمات المتعلقة باستخدام العنف لحل الخلافات السياسية في العراق الجديد، وفُقدت الثقة التي تراكمت منذ سقوط صدام. ومن غير المرجح أن يتم استعادتها. ينعكس جزء من عدم الثقة هذا في عدم قيام قوات البيشمركة الكردية والقوات العسكرية العراقية بتنسيق أي من أعمالها ضد داعش منذ ذلك التاريخ.
نتيجة لذلك، ظهرت ثغرات أمنية كبيرة بين خطي الدفاع، العراقي والكردي، في كركوك والأراضي الأخرى المتنازع عليها مما أتاح لداعش القدرة على العمل باستمرار في وسط العراق.10 ففي هذه المنطقة المهمة، تمكن التنظيم من “فرض إتاوات” على السكان المحليين لتمويل أنشطته وحرق المحاصيل واغتيال شيوخ القرى– أعيان القبائل- لتقويض الثقة في قدرة الدولة العراقية وقواتها الأمنية.11
لو لم تحدث أزمة كركوك، واستمر التعاون ضد عدو مشترك بين العراق وحكومة إقليم كردستان -وهو أمر أرادت أربيل الحفاظ عليه وتعزيزه، حتى لو حصلت كردستان على استقلالها الكامل عن العراق12– فمن غير المرجح أن يظل داعش يُشكل مثل هذا التهديد الكبير في تلك المنطقة بعد مضي أكثر من 18 شهرًا من إعلان العراق دحر التنظيم في ديسمبر 2017.
سوريا
لم يُركز الرئيس السوري بشار الأسد جهوده أبدًا على مكافحة التهديد الذي يُشكّله داعش طوال فترة النزاع الطويل في بلاده. وقبل اندلاع الصراع، سهّل النظام عبور الجهاديين عبر بلاده لقتل الجنود الأمريكيين والمدنيين العراقيين في العراق.13 وقد شكّل العديد من هؤلاء الجهاديين في نهاية المطاف تنظيم القاعدة في العراق، المنظمة التي سبقت ظهور تنظيم داعش. وبدلًا من محاربة الإرهابيين، ركّز الأسد على سحق جماعات المعارضة في جميع أنحاء الدولة.
وفي الفترةِ بين عامي 2013 و2014، سُمح لداعش ببناء دويلته في شمال شرق سوريا في الوقت الذي ركز فيه النظام على قصف المعارضة الأكثر اعتدالًا في الغرب. وفي عام 2016، سُمح لداعش بالاستيلاء على مدينة تدمر في الوقت الذي هاجم فيه الأسد المتمردين الرئيسيين في حلب. وكان الأسد يرمي إلى ترك الجهاديين، مثل تنظيم داعش و”هيئة تحرير الشام”، كبديل وحيد لحكمه حتى لا يكون أمام العالم خيار سوى مساعدته على قمع التمرد.
وعندما تدخلت روسيا نيابة عن الأسد في عام 2015، لم تبذل جهود تُذكر لمواجهة داعش. وفي وقتٍ مبكر من الحملة الروسية14، حقق التنظيم بعض المكاسب من حيث الاستيلاء على أراض في أجزاء من شمال غرب البلاد التي قصفتها الطائرات الحربية الروسية. وحاولت قوة عسكرية صغيرة من المقاتلين الموالين للنظام استعادة أجزاء من محافظة الرقة في صيف عام 2016، لكن هجومًا مضادًا سريعًا ومدمرًا من تنظيم داعش صدها وأوقفها تمامًا.15
وتجدر الإشارةُ إلى أن قوات سوريا الديمقراطية، التي يسيطر عليها الأكراد، بدعم من القوات الجوية الأمريكية، كانت الأكثر فعالية في محاربة وتدمير خلافة تنظيم داعش في سوريا. وفي يناير 2018، عندما قام الجيش التركي بغزو جيب عفرين في شمال غرب سوريا، مدعيًا أن قوات سوريا الديمقراطية يسيطر عليها حزب العمال الكردستاني، وأنها منظمة إرهابية، وفي حالة حرب مع تركيا منذ عقود، أدى ذلك إلى تشريد 100,000 من المدنيين الأكراد، ووقف حملات قوات سوريا الديمقراطية ضد داعش في شرق سوريا في محاولة لتعزيز خطوطهم الدفاعية لحماية عفرين.
وفي هذا الصدد، أشار تقرير لوزارة الدفاع الأميركية إلى أن تنظيم داعش قد نجح في “استغلال وقف القتال لمدة شهرين” في ظل انتقال مقاتلي قوات سوريا الديمقراطية من شرق سوريا إلى شمالها، “لتجنيد أعضاء جدد، وكسب الموارد، وتنفيذ الهجمات”.16 وعندما بدأت تركيا قصف مواقع قوات سوريا الديمقراطية في المدن الحدودية، في أواخر شهر أكتوبر الماضي، ترك المتمردون الأكراد الخطوط الأمامية لفترة قصيرة.17 غير أنه في هذه المرة، بدأ الجيش الأمريكي بسرعة تسيير الدوريات العسكرية على طول تلك الحدود، فيما استأنفت قوات سوريا الديمقراطية على الفور هجومها ضد داعش، ودمرت أخيرًا بقايا الخلافة في شرق سوريا بحلول مارس مع سيطرتهم على بلدة الباغوز.
وختامًا، يمكن القول إن التوتر بين قوات سوريا الديمقراطية وتركيا مثالٌ آخر صارخ -وهو مثال لا يزال قائمًا ومستمرًا- يكشف عن كيف أن الصراعات الفرعية، في المناطق التي يحتفظ فيها داعش بوجوده، يمكن أن تخفف الضغطَ عن التنظيم وتزيد من خطر أن تتمكن خلاياه النائمة العديدة، والمتعاطفون معه من إعادة تجميع صفوفهم، وإعادة تنظيم أنفسهم، وإحياء التنظيم. إن براعة الجماعة في استغلال هذه الانقسامات السياسية المحلية هي التي مكنتها من احتلال منطقة في شمال شرق سوريا وشمال غرب العراق. وهكذا، إذا ما سُمح لهذه الصراعات بأن تستمر، قد يتمكن التنظيم من العودة إلى الظهور بقوة وأن يُشكّل، مرة أخرى، تهديدًا لهذه المناطق وللعالم.
* يسعى موقعُ «عين أوروبية على التطرف» إلى نشرِ وجهاتِ نظرٍ مختلفة، لكنه لا يؤيد بالضرورة الآراء التي يُعبِّر عنها الكتّابُ المساهمون، والآراء الواردة في هذا المقال تُعبِّر عن وجهةِ نظر الكاتب فقط.
** صحفي مقيم في منطقة الشرق الأوسط
المراجع:
[1] Zack Gold, Sisi Doesn’t Know How to Beat ISIS, Foreign Policy, November 30, 2017, accessible at: https://foreignpolicy.com/2017/11/30/sisi-doesnt-know-how-to-beat-isis/
[2] Egypt: Unprecedented crackdown on freedom of expression under al-Sisi turns Egypt into open-air prison, Amnesty International, September 20, 2018, accessible at: https://www.amnesty.org/en/latest/news/2018/09/egypt-unprecedented-crackdown-on-freedom-of-expression-under-alsisi-turns-egypt-into-openair-prison/
[3] Brian Dooley, Egypt’s President Is Crushing Dissent — and fueling ISIS, Defense One, April 3, 2019, accessible at: https://www.defenseone.com/ideas/2019/04/egypts-dissent-crushing-president-fueling-isis/156035/
[4] ibid.
[5] Patrick Wintour, Isis loses control of Libyan city of Sirte, The Guardian, December 5, 2016, accessible at: https://www.theguardian.com/world/2016/dec/05/isis-loses-control-of-libyan-city-of-sirte
[6] Jack Detsch, Pentagon sees Islamic State resurgence in Libya amid Tripoli fighting, Al-Monitor, June 26, 2019, accessible at: https://www.al-monitor.com/pulse/originals/2019/06/pentagon-islamic-state-resurgence-libya-tripoli-hifter-1.html
[7] Libya crisis: Islamic State group says it attacked Haftar camp, BBC News, May 4, 2019, accessible at: https://www.bbc.com/news/world-africa-48161935
[8] John Pearson and Arthur MacMillan, With eyes on Tripoli battle, ISIS attack kills Libyan officials, The National, April 9, 2019, accessible at: https://www.thenational.ae/world/mena/with-eyes-on-tripoli-battle-isis-attack-kills-libyan-officials-1.847016
[9] President Barzani hails historic coordination between Kurdish and Iraqi forces, Rudaw, October 17, 2016, accessible at: https://www.rudaw.net/english/kurdistan/171020161
[10] Robert Edwards and Mohammed Rwanduzy, Is ISIS winning hearts and minds in Iraq’s Makhmour? Rudaw, April 18, 2019, https://www.rudaw.net/english/kurdistan/180420192
[11] Krishnadev Calamur, ISIS Never Went Away in Iraq, The Atlantic, August 31, 2018, accessible at: https://www.theatlantic.com/international/archive/2018/08/iraq-isis/569047/
[12] Campbell MacDiarmid, Masoud Barzani: Why It’s Time for Kurdish Independence, June 15, 2017, accessible at: https://foreignpolicy.com/2017/06/15/masoud-barzani-why-its-time-for-kurdish-independence/
[13] Mamoon Alabbasi, Iraq asked Syria’s Assad to stop aiding ‘jihadists’: Former official, Middle East Eye, October 20, 2015, accessible at: https://www.middleeasteye.net/news/iraq-asked-syrias-assad-stop-aiding-jihadists-former-official
[14] Anne Barnard and Thomas Erdbrink, ISIS Makes Gains in Syria Territory Bombed by Russia, The New York Times, October 10, 2015, accessible at: https://www.nytimes.com/2015/10/10/world/middleeast/hussein-hamedani-iran-general-killed-in-syria.html
[15] Islamic State counter-attack ‘pushes Syrian regime forces from Raqqa province’, AFP, June 20, 2016, accessible at: https://www.telegraph.co.uk/news/2016/06/20/islamic-state-counter-attack-pushes-syrian-regime-forces-from-ra/
[16] Lead Inspector General Report to the United States Congress, Operation Inherent Resolve And Other Overseas Contingency Operations, November 5, 2018, p.14, accessible at: https://media.defense.gov/2018/Nov/05/2002059226/-1/-1/1/FY2019_LIG_OCO_OIR_Q4_SEP2018.PDF
[17] Ryan Browne, Key US allies ‘temporarily’ halt campaign against ISIS in Syria following clashes with Turkey, CNN, November 1, 2018, accessible at: https://edition.cnn.com/2018/10/31/politics/sdf-halt-syria-isis-turkey/index.html