خالد بن سليمان العضاض**
ملحوظات استفتاحية:
أولًا: حينما تتم المقارنةُ بين طرفي نقيض، كما يبدو للوهلة الأولى، مثل داعش؛ وهو التطبيق السني الأشدّ تطرفًا للسلفية الجهادية، مع ولايةِ الفقيه النظرية التي مكَّنت الفقيهَ الشيعي من ابتلاعِ السياسة والاقتصاد، فإننا نقفُ أمام مثالين شبه متطابقين على مستوى العمل على الأرض، من جهةِ منطلقات التحرك والنتائج، وهذا يبدو أشدَّ وضوحًا حين يتم التعامل مع الآخر المختلف في النظريتين، مما يعطي انطباعًا بأن ثمة مشتركاتٍ نظرية غير منظورة للمراقب أو المتابع العادي، وهو ما نسعى إلى مقاربته في هذه المحاولة.
ثانيًا: قد يظن القارئ أنَّ ثمة ضعفًا منهجيًا في المقارنةِ بين نظرية ممتدة تاريخيًا وجغرافيًا؛ كنظريةِ ولاية الفقيه الشيعية، وتطبيقٍ حديث كداعش، والذي يعتبر تكثيفًا لنظرية العنف السنية، ويدعم هذا الظنَّ الاختلافُ العقَدي الأيديولوجي بين المدرستين، وسيكون -غالبًا- منبعُ هذا الظن أن عملية المقارنة تمت بين نظريةٍ من سياق ثقافي معين، وتطبيقٍ من سياق ثقافي آخر؛ أي أنه ليس بين نظريتين أو تطبيقين، ولو اختلف السياق الثقافي، غير أن الكاتبَ يرى أن ثمة اتصالًا وثيقًا بين نظريةِ ولاية الفقيه، والاستمداداتِ النظرية المتنوعة لتطبيقاتِ داعش؛ إذ إن المدرستين السنية والشيعية هما الوريثان السياسيان لفترةِ الإسلام الأولى؛ إسلام الرسول محمد صلى الله عليه وسلم أو إسلام تنزُّلِ الوحي، وكان الافتراقُ أو الانشقاقُ في جذره الرئيس خلافًا حول الإمامة والولاية في بداية الأمر[1]، تطور إلى اختلافٍ في الأصول والفروع، بشكلٍ متراكم عبر قرون الإسلام الأربعة عشر الماضية، مما يعني أن منطلقاتِ المدرستين واحدة، وروح الحركة واحد. كما أن الدراسةَ توخت المقايسةَ وهي تستبطن تطبيقاتِ نظريات ولاية الفقيه، وفي الوقت ذاته تضع عينًا فاحصةً على الاستمدادِ النظري لتطبيق داعش، وذلك لتلافي اختلالِ سياق المقارنة.
ثالثًا: حيث ذُكر في الدراسةِ صيامُ الفقه الشيعي عن السياسةِ لمدة ألف عام على الأقل، تجدر الإشارةُ إلى أن النقلةَ الحقيقية في الفكر السياسي الشيعي، كانت في الفترة الزمنية الواقعة بين عامي 1890 و1909 والتي حدثت فيها انعطافةٌ كبيرة في الفقه الشيعي، وإمكانية تعاطيه الحر مع السياسة، بدأت هذه الانعطافة بفتوى الميرزا حسن الشيرازي عام 1890 بتحريم تدخين التبغ؛ لأن ناصر الدين شاه منح للبريطانيين حقوقًا حصرية على تجارة وتصنيع التبغ في إيران. انتهت مرحلةُ ثورة التمباك بانتصارٍ سياسي للفقيه على الشاه، ثم بعد ذلك بسنواتٍ قليلة، وتحديدًا في عام 1906 بدأت بوادر ثورةٍ أخرى تستهدف الحكمَ الملكي المطلق، وتطالب بتقييده، وأُطلق عليها “ثورة المشروطة[2]” وكان من أبرز الشخصيات الدينية المؤيدة للحركة الدستورية تلك، مرجع التقليد الكبير في زمانه محمد كاظم الخراساني، ومحمد حسين النائيني، وهذه جولة أخرى حقق فيها الفقيه المعارض انتصارًا ساحقًا على الشاه، وعلى من حالفه من مراجع التقليد أمثال محمد كاظم اليزدي.
رابعًا: تُشكِّل داعش -كما يرى الكاتب- نتوءًا تطبيقيًا لمجموعةِ أفكار، استمدت غطاءَها النظري، من عدّة اتجاهاتٍ سنية؛ أهمها السلفية الجهادية، والتي استمدت منها الاستراتيجيات العامة على مستوى الحركة والتقدم وفقه الجهاد، كما استمدت أيضًا من السلفية العلمية، بمختلف تشعباتها؛ الفتوى، وأسس التعليم، والتربية السلوكية، واستمدت حركةُ داعش من نظرياتِ جماعة التكفير والهجرة المعاملةَ مع الآخر المختلف مليًا والمختلف عقديًا، والأهم في نظر الكاتب استمدادها من الحاكمية طريقة تعاطيها مع فرض نفسها كمرشحٍ أصلح للحكم من بقية الدول الإسلامية التي تعتبرها جاهلية وكافرة، ومن بقية التنظيمات الجهادية الأخرى التي تختلف معها في التوجهات والمنطلقات.
خامسًا: يمكن اعتبارُ نظريةَ الحاكمية هي الأرضية التي تجمع شعثَ الاختلاف العقدي بين طرفي داعش وولاية الفقيه، إذ إن الحاكمية تقضي بتولية الثُّلة المؤمنة حكمَ الدنيا والدين نيابة عن الله، والحاكمية ترى أن الله تعالى هو المستحق والمخوَّل الوحيد للحكم في الأرض، وفي الوقت ذاته، تقرر ولايةُ الفقيه إطلاقَ يد الفقيه في حكم الدنيا والدين، باسم الإمام الغائب والمعصوم، والذي يستندون على ثبوت توليه الأمر والولاية بالضرورة العقلية والشرعية، وهو عينُ ما تحاول داعشُ فرضَه بلسانِ الحال حتى على نظرائها في التوجه من الجهاديين.
فالحاكمية؛ هي الخيط الناظم للنظرية السياسية الشيعية التي جاءت على يد ولاية الفقيه الخمينية، ونظرية الإمامة السنية أو الخلافة، والتي هي قالب سياسي يبدأ بتكفير الحاكم بغير ما أنزل الله، وخارجية[3] رافضي مبايعة الخليفة، وينتهي إلى وجوب القتل وإثخان كل معترضي طريق تحقيق الخلافة.
وعلى الرغمِ من أن منطلقات الحاكمية في الأساس سنية، فإن ثمة ظرفًا تاريخًا مهمًا جعل نظريةَ الحاكمية تتسرب إلى الفكر الشيعي عبر مؤسس (فدائيان إسلام، تأسست عام 1945) الشيعي نواب الصفوي، والذي أُعدم في عام 1956، بسببِ محاولةٍ لاغتيالِ رئيس الوزراء الإيراني، آنذاك.
لا أظنّ أن نواب الصفوي، قد نقل نظرية الحاكمية السنية إلى الفكر الشيعي؛ إذ إن أول بروز عربي للنظرية كان على يد سيد قطب في العام 1962 في الطبعة الثالثة لتفسيره «في ظلال القرآن»؛ أي بعد وفاة نواب صفوي بعدة سنوات، غير أن نواب صفوي ألهم أبرز القيادات الدينية الشيعية في إيران كالخميني، الذي بدأ تحركه السياسي بعد عام 1961 تقريبًا، ولا ننسى حرص خامنئي على ترجمةِ كتب سيد قطب، وكل هذا بتأثير من نواب الصفوي القائل في دمشق عام 1954: (من أراد أن يكون جعفريًا حقيقيًا فلينضم إلى صفوف الإخوان المسلمين)، وهو العام ذاته الذي التقى فيه سيد قطب، الرئيس الحركي لجماعة الإخوان حينها.
أخيرًا: المشترك الأهم بين ولاية الفقيه، وبين داعش، كان على مستوى التطبيقات والذي جاء في الأثر المدمر على مقدرات الأوطان والشعوب، ابتداءً بالأرواح البريئة، وانتهاء بنشر الفوضى والرعب والخوف.
وإليكم هنا دراسة مبسطة وسريعة، تستعرض أهم جوانب التشابك النظري بين ولاية الفقيه كتطبيق؛ وبين داعش؛ في ثلاثةِ مفاصل رئيسة في الشريعة الإسلامية؛ وهي الإمامة، والمرجعية، والجهاد.
نظرية ولاية الفقيه:
جاءت نظريةُ ولاية الفقيه كرد فعل على ألف سنة تقريبًا عاشها الشيعةُ الاثنا عشرية في مقاطعةٍ تامة للسلطة. فبعد “غيبةِ” الإمام الثاني عشر محمد بن الحسن العسكري، والذي غاب غيبته الكبرى في عام 329ه، أفتى كبار علماء الشيعة بحرمة العمل السياسي، والثورة، وإقامة الحكومة؛ باعتبارها من مهام الإمام الغائب، بالإضافة إلى الفتاوى القديمة التي تحرم التعاون مع السلطة باعتبارها غاصبة لحقوق الإمام، والإفتاء بحرمة “الجهاد” وتنفيذ الحدود وجمع أموال الزكاة، بل حتى إقامة صلاة الجمعة؛ لأنها مهام تتوقف على وجود الإمام المعصوم (نظرية الانتظار).
لكن مع طول غيبة المهدي، والحاجة الملحة للخروج من نظرية الانتظار تلك، بدأ بعض علماء الشيعة، بناءً على أحاديث ومرويات عن أئمتهم، في التأصيل لإمكانية تصدي الفقيه المجتهد الجامع للشروط المعتبرة في كفاءته وكفايته، لأمورِ الدولة، فظهر ما سُمي “بـالنيابة العامة” للفقيه عن الإمام الغائب على يد الشيخ أحمد بن مهدي النراقي (ت: 1829) والتي تحولت فيما بعد وتطورت إلى نظرية “ولاية الفقيه” بشكلها الذي جاء على يد الخميني، ففي كتابه «عوائد الأيام»، دعا النّراقي الفقهاءَ إلى تولي زمام الأمور، واعتبر أن للفقيه ما للإمام من ولايةٍ عامة وصلاحياتٍ دينية وسياسية[4].
وبعد 150 عامًا من وفاة النراقي، جاءت “الثورة الإسلامية” في إيران على يد الخميني لتمثل أول تطبيقٍ عملي لولاية الفقيه. غير أن الخميني جعل ولاية الفقيه -بعد دمجها مع نظرية النيابة العامة للفقيه- ولايةً مطلقة للفقيه، لا ولاية عامة أو نيابة عامة فحسب، إذ جعل ولاية الفقيه العالم العادل كولاية الرسول محمد في حياته[5]، ومن هنا هيمن الولي الفقيه، من خلال ولاية الفقيه على السلطة السياسية والدينية، في الجمهورية الإسلامية الإيرانية، رغم وجود رئيس للبلاد وبرلمان منتخب ومجلس للشورى. ويتمتع “الولي الفقيه” أو “المرشد الأعلى” في إيران بصلاحياتٍ واسعة منحه إياها دستور البلاد[6].
فالخميني أعطى للفقيه الحاكم، باعتباره نائبًا عن الإمام المعصوم، الولاية المطلقة وكل صلاحيات الإمام والرسول الأعظم، واعتبر الولاية شعبةً من ولاية الله، وسمح له بتجاوز الدستور وإرادة الأمة”[7].
ويتلخص تعريف ولاية الفقيه، في آخر تطوراتها، كما جاء في المادة الخامسة من دستور إيران في التالي:
“في زمن غيبة الإمام المهدي (عجَّل الله تعالى فرجه) تكون ولاية الأمر وإمامة الأمة في جمهورية إيران الإسلامية بيد الفقيه العادل، المتقي، البصير بأمور العصر؛ الشجاع القادر على الإدارة والتدبير[8]…”
داعش النظرية[9]:
ما يُعرف اختصارًا “بداعش” أو “الدولة الإسلامية في العراق والشام”: هو تنظيمٌ مسلَّح يتبع فكر جماعات السلفية الجهادية، ويستمد نظريته من النظرية السلفية العامة، والتي تبلورت بشكلٍ واضح على يد ابن تيمية، ثم محمد بن عبد الوهاب، ويهدف تنظيمُ داعش ببساطة إلى تحقيق أمرين هما: إعادة الخلافة الإسلامية، وتطبيق الشريعة، وذلك عبر استمدادات ومحددات عامة[10]، أهمها:
- التراث الفقهي والعقدي السني، الزاخر بالأقوال والمذاهب المتعددة والمتجاذبة فيما بينها، والذي يستمد منه الجهاديون استراتيجيتهم النظرية العامة، إذ خصص شرَّاح الفقه الإسلامي أبوابًا خاصة وطويلة في الجهاد والسير والمغازي، درسوا فيها أدق المسائل بتفاصيلها الصغيرة، كما تطرقت كتبُ العقائد إلى مسائل تعتبر “أرضية” ومنطلقًا لتأسيسِ رأي متشدد حول بعض المسائل التي تعتبر من أيديولوجيا الجماعات الجهادية، مثل باب الأسماء والأحكام، وأبواب التكفير، وباب الولاء والبراء، العذر بالجهل، وغيرها.
- تراث ابن تيمية، وهو الاستمداد والامتداد الأبرز لمنظومة الرأي الشرعي فقهيًا أو عقديًا عند الجماعات الجهادية ومنها داعش، وهذا ملاحظ في الكم الهائل من النقولات عن فتاوى ابن تيمية وبعض تلاميذه، وتطبيق تلك المقولات والنقولات.
- الأدبيات الخاصة بدعوة محمد بن عبد الوهاب، خصوصًا في مجالات: التكفير، والعذر بالجهل، والولاء والبراء، وغيرها.
- فتاوى بعض المعاصرين، المنحوتة خصيصًا لدعم توجهات الجماعات الجهادية، والتي قامت على أسسها داعش، وأذكر أمثلةً على ذلك فتاوى بعض السعوديين؛ مثل: حمود العقلاء الشعيبي وبعض دراساته، وناصر الفهد، وسليمان العلوان، وبشر بن فهد البشر، وعبد الرحمن البراك، وعبد الله السعد، مع وجود كثير من غير السعوديين في المغرب، ومصر، وباكستان.
وعلى كلٍّ لا توجد جماعةٌ قتالية تتبنى الجهادَ -كسبيلٍ للتغيير- إلا وتمر عبر مرشحات وفلاتر السلفية لزامًا وحسب التوجهات السلفية المتعددة اليوم، فقبل أن تكون جهاديًا خالصًا يجب أن تكون سلفيًا خالصًا، ولو في الظاهر على الأقل[11]، وعلى هذا تشترك كلُّ الجماعات القتالية الجهادية، ومنها داعش، في مجموعة قضايا مركزية، ذكرناها إجمالًا في بداية الحديث عن “داعش النظرية”، ونفصِّلها بعضَ الشيء هنا، وهي[12]:
- تحكيم الشريعة الإسلامية.
- إقامة الخلافة الإسلامية.
- مواجهة الأنظمة الاستبدادية (الطواغيت).
- مواجهة مؤامرات الغرب على الإسلام وأهله.
- الجهاد كوسيلة لتغيير واقع المسلمين المتردي.
الحاكمية ملهمة ولاية الفقيه وداعش
اعترض الكثير من علماء الشريعة على مصطلح “الحاكمية”؛ كونه لم يرِد في أيٍّ من كتبِ أصول الدين قديمًا، بل بمسح بسيط لكل كتب التراث السياسي الإسلامي، خلال القرون العشرة الأولى، سواءً ما تعلق منها بالأحكام السلطانية أو السياسة الشرعية، لا نجد كتابًا واحدًا احتوى على مفردة الحاكمية، هذا المفهوم الحديث والمنحوت من قبل سيد قطب، في تعريبه للمودودي، والذي طارت به مختلف الأصوليات الراديكالية المعاصرة، سنية وشيعية، على السواء[13].
وضع المودودي مصطلحي “الحاكمية” و”الجاهلية” كمصطلحين متقابلين متنافرين، إذا تحقق أحدهما انتفى الآخر، وجعل حاكمية الله لا تكون إلا في يد الفئة المؤمنة، كما قرر ذلك سيد قطب في كتابه «معالم في الطريق»، وفي تفسيره «في ظلال القرآن»[14].
ولا نحتاج إلى كبير مشقة لنرى أن “ولاية الفقيه” عمدت إلى السيطرة على أمر الدنيا والدين، بإقامة إمامة معصومة بحجة “نيابة الإمام الغائب” بكل صلاحياته، والأمر نفسه حصل مع “داعش” التي سَعَت إلى السيطرة على أمر الدنيا والدين بحجة إقامة “دولة الخلافة الإسلامية”، والفارق أن “ولاية الفقيه” استطاعت منذ بداية انطلاقتها الميدانية الاستيلاء على دولة كبيرة وغنية، واتخذتها منصة للانطلاق وكسب الأتباع ومناطق النفوذ، إما بالاستقطاب أو السيطرة باستخدام كل أدوات الإغراء والترغيب والإرهاب والحروب، وهذا ما نشاهده في عدة دول عربية وأفريقية وآسيوية، وسارت داعش على نفس الخط في محاولة الاستيلاء على مناطقَ تنطلق منها، تمويلًا وقدراتٍ، حيث يبايعون “خليفة”، وإن لم يدّعوا عصمته صراحةً، فهو كالمعصوم مطلق الصلاحيات، وينفذون أحكامًا باسم الشريعة، ويمارسون كل أنواع الإرهاب والحروب، ضد المسلمين وغير المسلمين.
والواضح -بما لا يدعُ مجالًا للشك- تماثلُ النظريتين؛ نهجًا وتوجهًا وأهدافًا، ووسائل وأدواتٍ وممارساتٍ ونتائجَ كارثية، يجلبانها على العالم.
لذلك، فإن الصراع حقيقة -رغم الخلاف المذهبي بين السنة والشيعة- هو بين كل المذاهب الإسلامية، المعترف بها، من جهة، والإرهاب، سواء من “داعش وأشباهها” أو “ولاية الفقه”، من جهة أخرى[15].
الإمامة في النظريتين
جَعلتِ الشيعةُ أمرَ الإمامة أمرًا عظيمًا في الديانة، إذ جعلته واجبًا على الله لا على خلقه، يقول الكُلَيْني: (ما ترك -أي الله تعالى- أرضًا منذ قبض آدم عليه السلام إلا وفيها إمامٌ يُهتدى به إلى الله، وهو حجته على عباده)[16].
أما السنة، فقد كان أول المتحدثين في مفهومها هو أبو الحسن الأشعري، والذي جعلها واجبةً على الخلق لا على الله تعالى.[17]
وأفضل تجلية لمفهوم الإمامة، واختلاف الفريقين فيها، هو رفض ابن تيمية في كتابه «منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية»، وضع مسألة الإمامة ضمن مسائل الأصول الكبرى في الشريعة الإسلامية، بل عدّها مسألة فرعية، مع إقراره بأهميتها لصلاح أمور الناس في دينهم ودنياهم، بل ذكر إجماع أهل الإسلام، سنيهم وشيعيهم، على أن الإمامة مسألة فروعية لا أكثر[18].
وهذا بعكس قول دعاة أصولية الإمامة من أهل ولاية الفقيه، وأهل الحاكمية، وإقامة الخلافة في الأرض، والذين واجهوا ردًا ومعارضة كبيرة، كلٍّ من أهل مذهبه، ولا يخفى أن هذه المسألة تكاد تكون أساس افتراق المسلمين.
وبالقولِ بفرعية مسألة الإمامة، يسقط القول بكفر الحكم بغيرِ ما أنزل الله، والقول بأصولية تكفير من لم يحكم بما أنزل الله ركن أساس في نظرية الحاكمية، ونظرية الجاهلية، وكذلك يعد مسألة رئيسة في تولي الفقيه الشيعي أمر الأمة في دينها ودنياها.
والقولُ بعدم كفر الحاكم بغير ما أنزل الله، أخذ به أبرز شخصيتين سلفيتين معاصرتين؛ هما ابن باز، والألباني.
والقول بفرعية الإمامة، وعدم كفر من حكم بغير ما أنزل الله، ينسف نظرية الحاكمية، وتطبيقاتها العملية الكثيرة، ومنها محاولات الاستيلاء على الحكم بالقوة، واغتيال رؤساء الدول، وتكفيرهم، أو تكفير الحكومات بالجملة.
المرجعية بين النظريتين
تتطابق الجماعاتُ السنية والشيعية؛ الحركية والجهادية المتطرفة، بأنها ليست جماعات دعوة وهداية، غالبًا، بل هي مؤسسات تجنيد تنظيمي عسكري، يقوم على أساس السمع والطاعة، بينما جهد الهداية الروحية تعتبره تلك الجماعات جهدًا تقليديًا تتركه للتقليديين.
والحقيقة أنه لا توجد في العالم الإسلامي السنّي مرجعية واحدة، بل مرجعيات متعدّدة وفضاء مفتوح من المفتين، يرجع إليهم الأفراد بحريّة كاملة، قد يكونون رسميين أو غير رسميين. ولا يمثل تقليدهم أو اتباعهم إلزامًا عقديًا لدى السنة، وهذا ما يجعل الفضاء الديني السنّي واسعًا وفضفاضًا، يصعد فيه الاختلاف والتنوّع، وتصعد فيه وجوه جديدة كل مرة. وكذلك تستمر فيه وجوه، وتصعد فيه أصوات، وتخفت من آن لآخر، وقد تصعد فيه أفكار التطرف حرة طليقة بعيدًا، في شكل تنظيماتٍ ذاتِ أدبيات ومرجعيات خاصة، أو فتاوى فردية لأفراد في مسائل معينة، لكنها لا تمثل -في الغالب- رأيَ المؤسسة الرسمية تاريخيًا والتي تتفق في طرحها وممارساتها مع توجّهات الدولة التي يكفرها هؤلاء.
وعلى العكسِ من ذلك، تمثل المرجعية عند الشيعة، وتقليدها، اعتقادًا وتوجيهًا والتزامًا. إلا أنها ظلت ساكنة وتقليدية ومحافظة حتى ظهر حراكها مع ولاية الفقيه، والتي نجحت في التمكين لمرجعيتها، وتفجير الثورة من سواكن التقليد بالتعاون مع القوى المدنية والسياسية المعارضة للشاه، ثم صفّت تلك القوى وأخرجتها من الساحة فيما بعد، وصارتِ الدولة التي أنشأتها تمثل مرجعية وولاء دينيًا قبل أن تكون ولاءً دنيوًيا وسياسيًا.
وبينما تكون مرجعيةُ الولي الفقيه رسميةً وأساسيةً وشعبية، في شكل تنظيم يشبه الدولة، تمثِّل سلطةُ الأمير المرجعية الوحيدة لدى التنظيمات السنّية المتشددة، والتعامل مع الأمير يشبه إلى حد كبير التعامل مع المرجعية، ويتضح ذلك في النصوص الفقهية الكثيرة الملزمة لطاعة الأمير طاعةً عمياء، وعدم الاختلاف عليه.
والجهتان قادرتان على طردِ وإقصاءِ مخالفيهما، وتحقيق ما تريدانه من عناصرهما وأتباعهما. لكن بينما التنظيمات السنّية ترفض السياسة، وتكفر بها وبمفرداتها، وتبدو محشورة ومحصورة في أهداف التنظيم الضيقة، فتضرب خبطَ عشواء حيثما استطاعت وفي كل مكان، نرى أن التنظيمات الشيعية صارت جزءًا من استراتيجية دولة وثورة إسلامية عالمية هي الثورة الإيرانية، ذات نزعة سياسية توسّعية لا ترفض السياسةَ بل توظفها، وبالتالي فهي لا تمتلك أهدافًا خاصة، ولا تستنزف جهودها وأعداءَها إلا فيما يخدم مصالح نظام الولي الفقيه، وحلفائه وتوجهاتهم.[19]
الجهاد في النظريتين
في كتابه الموسوعي، والذي يعتبر مرجعًا غير معلن للجماعات الجهادية، «الجهاد والقتال في السياسة الشرعية»، يعرِّف الدكتور محمد خير هيكل الجهادَ على أنه:
(القتال في سبيل الله ضد الكفار الذين لا عهد لهم ولا ذمة، وما يمت إلى القتال بصلة من دعوة إليه، ومساعدة عليه، وذلك بعد توفر الشروط المطلوبة لمشروعية ذلك القتال)
ويرى هيكل أن الغاية من الجهاد هي: إقامة المجتمع الإسلامي، وحمايته، وحماية المسلمين من العدوان.[20]
ويعتبر هذا الكتاب، مع «كتاب العمدة في إعداد العدة» لعبد القادر عبد العزيز، وكتاب «فقه الجهاد» للقرضاوي، حاوية لأهم ما ورد في الفقه السني عن الجهاد، على مختلف مشاربه على الساحة الجهادية.
أما في الجانب الشيعي، فيرى الخميني أن الجهاد في اللغة؛ يعني القتال في سبيل الله، ويضيف أن الجهاد في الثقافة الإسلامية؛ يعني نضال الإنسان الواعي ضد العدو من أجل الله، وعلى طريق إصلاح المجتمع. ومن حيث الأهداف ينقسم الجهاد إلى: الجهاد الدفاعي في مواجهة العدوان المسلح، والجهاد الابتدائي من أجل الدعوة للإسلام، وجهاد أهل البغي (أي الجماعة التي تريد الهيمنة على جماعة أخرى بغير حق، أو الغطرسة وممارسة الظلم والجور)، ويكمن الهدف الرئيس لجميع أنواع الجهاد في الإسلام، بالتصدي للقهر والظلم والاساءة، وإن من يُقتل في سبيل الله يُسمى شهيدًا. ويُطلق على الجهاد في ساحة النضال وفي القتال مع الكفار والمشركين بالجهاد الأصغر، حسبما نقل عن رسول الله. وفي المقابل ينعت الجهاد مع النفس (محاربة الرذائل الأخلاقية) بالجهاد الأكبر، وهو أعظم وأصعب بكثير من الجهاد الأصغر[21].
ويفرق الخميني بين قسمي الجهاد في الفكر الشيعي، بالتالي:
- الجهاد الابتدائي: وهو الجهاد الذي يتم فيه دعوة غير المسلمين إلى الإسلام. استنادًا لرأي عموم فقهاء الشيعة فإن الجهاد الابتدائي لا يتم إلا في عصر الإمام المعصوم وبأمره.
- الجهاد الدفاعي: عندما تتعرض حدود بلد إسلامي ما إلى أي اعتداء من قبل الغرباء أو تسلب حقوقهم، فإن على الجميع (سواء الرجال أو النساء-الصغار والكبار) القيام للدفاع عنه بأي وسيلة كانت، ويُسمى هذا النوع من النضال بالجهاد الدفاعي.[22]
وهذا تطابقٌ شبه تام بين التقسيم السني، والتقسيم الجهادي، فالسنة يقسمون الجهاد إلى جهاد طلب، وجهاد دفع، ويبدأ جهاد الطلب عند الفريقين بتقديم الدعوة إلى الإسلام أولًا، والتي يرى السنة، كما سبق معنا، أنها في حكم القتال، وإن لم تكن قتالًا حقيقيًا.
كما أن الشيعةَ يرون ما تراه السنة في مسألة الجهاد الأكبر جهاد النفس لذا فصل فيها القرضاوي في كتابه المذكور آنفًا، بشكل موسع.
وأضيفُ، أن المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية الإيرانية الحالي علي خامنئي، يرى إمكانية إقامة الجهاد الابتدائي في هذا العصر، بخلاف فتوى الخميني إذ يقول عن حكم الجهاد الابتدائي في زمن غيبة الإمام المعصوم: لا يبعد القول بجواز الحكم به للفقيه الجامع للشرائط الذي يلي أمر المسلمين إذا رأى أن المصلحة تقتضي ذلك، بل إن هذا القول هو الأقوى[23].
خاتمة:
- ولاية الفقيه، جاءت بعد تطور نظري سبقه ركود في الفكر الشيعي على التعاطي مع الشؤون العامة لأمة.
- ولاية الفقيه على يد الخميني نقلت النظرية الشيعية من الولاية العامة إلى الولاية المطلقة التي جعلت في يد الفقيه كافة صلاحيات الرسول محمد صلى الله عليه وسلم في حياته.
- داعش تطبيقٌ لخليطٍ نظري ملفَّق من عدّة نظريات سلفية وجهادية وتكفيرية سنية، أخذت على عاتقها إخراج النزعة المتطرفة في الفقه الإسلامي من مكامنها.
- الحاكمية، مرشحة لتكون أرضية جامعة لفكر تنظيم داعش وتطبيقات ولاية الفقه، بحكم الجامع بين الأطراف الثلاثة، في جعل الثلَّة المؤمنة أو الفقيه أو الخليفة هو الحاكم بأمر الله.
- لا تستقيم الحاكميةُ إلا بوجود طرفين؛ ثلّة مؤمنة، ومقابل مشرك أو كافر، ولا تستقيم المناهج التي بنت عليها داعش نظامها وحركتها إلا بوجود طرفين يتمايز بينهما الكفر والإيمان، وفي ولاية الفقيه تبرز نظرية التولي والتبري لتعزز ذات المعنى المشترك.
- الإمامة في النظريتين واجبة لا يستقيم أمر الدنيا والدين إلا بهما، غير أن النظرية الشيعية جعلتها من واجبات الله؛ إذ هو المسؤول عن تعين الإمام، وأما في النظرية السنية فقد جعلتها واجبًا أكبر، ولكنه من واجبات الخلق، وهو ما نقضه ابن تيمية، وعدَّ الإمامة مسألة فرعية في الشريعة.
- الولي الفقيه، والأمير، ومسائل الفقه التي تبين وجوب التقيد بأمرهما وعدم مخالفتهما، تجعل فكر المرجعية شبه متطابق في الفكرين في هذه المسألة، بل ويمتحان من ذات النصوص أحيانًا.
- تعريف الجهاد على الرغم من تعطيله عند الشيعة، إلا إن تعريفه وتقسيم في نظرية ولاية الفقيه طابق ما جاء في الفقه السني الذي توسع في رصد جميع المسائل الممكنة في باب الجهاد.
* يسعى موقعُ «عين أوروبية على التطرف» إلى نشرِ وجهاتِ نظرٍ مختلفة، لكنه لا يؤيد بالضرورة الآراء التي يُعبِّر عنها الكتّابُ المساهمون، والآراء الواردة في المقالات والدراسات تُعبِّر عن وجهةِ نظر أصحابها.
**باحث مختص بعلوم الشريعة وأصول الدين، ومهتم بتاريخ الصحوة الإسلامية، وقضايا الإسلام السياسي، وكذلك قضايا التطرف والإرهاب.
المراجع:
[1] يراجع كتاب: روجرسون، برنابي، ورثة محمد، جذور الخلاف السني الشيعي، ترجمة: د. عبد الرحمن عبد الله الشيخ، 2015، الهيئة المصرية العامة للكتاب.
[2] تشيع كلمة “المشروطة” في الأوساط الثقافية والسياسية، وهي تشير إلى معنى (الشرط) ومعناها السياسي -كما يذكر الباحث العراقي سلمان هادي آل طعمة- (الدستور والمجلس) فالحكومة المشروطة هي الحكومة الدستورية، ثم أطلق على الحكومة الملتزمة بالشرط (المشروطة) أي التي يشترط التزامها بالدستور، وأصبح هذا الاسم الرسمي لها. وهي أول دعوة قامت في إيران تنادي بالدستور والحكم بموجبه وترك العمل الفردي، والاستبداد بالرأي، والابتعاد عن رأي عامة الناس (الشعب) الذين هم الأساس في الحكومة ونظام الحكم، وعليهم تدور رحى العمل، وهي تلفظ في تركيا (مشروطية) وفي إيران (مشروطة).
[3] نسبة لمذهب الخوارج.
[4] النّراقي، أحمد بن مهدي، عوائد الأيام في بيان قواعد استنباط الأحكام، أولى، 2000، بيروت، دار الهادي للطباعة والنشر والتوزيع، 2/86.
[5] الخميني، السيد روح الله، الحكومة الإسلامية، الثالثة، ص 49، وينظر كذلك: الخميني، آية الله العظمى، كتاب البيع، أولى، 1421ه، مؤسسة تنظيم ونشر آثار الإمام الخميني، 2/617 وما بعدها.
[6] دستور إيران الصادر عام 1979 شاملا تعديلاته لغاية 1989، ترجمة المؤسسة الدولية للديمقراطية والانتخابات، ص 3.
[7] الكاتب، أحمد، تطور الفكر السياسي الشيعي من الشورى إلى ولاية الفقيه، السادسة، 2008، بيروت، مؤسسة الانتشار العربي، ص 205.
[8] دستور إيران، مرجع سابق، ص 22.
[9] يمكن مراجعة تاريخ تأسيس داعش في عدة مراجع منها: عالم داعش، هشام الهاشمي، داعش وأخواتها، محمد علوش، خلافة داعش، الدكتور هيثم مناع، داعش عودة الجهاديين، باتريك كوكبيرن، داعش مجموعة مؤلفين، كتاب المسبار، الدولة الإسلامية “داعش”، لوريتا نابوليوني.
[10] مجموعة من الباحثين، داعش والجماعات القتالية: دراسات عربية وغربية، الأولى، 2016، بيروت، مركز نماء للبحوث والدراسات، ص 83.
[11] يمكن استعراض ثلاثة كتبٍ تُعتبر من أهم أدبيات الجهاد المعاصر، لاستجلاء النفس السلفي في جميع الحركات الجهادية، على مختلف مشاربها؛ وهي:
- «العمدة في إعداد العدة»، لعبد القادر بن عبد العزيز، أولى، 1999، الأردن، دار البيارق.
- كتاب «الجامع في طلب العلم الشريف»، لعبد القادر عبد العزيز، ثانية، 1415ه.
- «الجهاد الفريضة الغائبة»، محمد عبد السلام الفرج، 1415ه.
[12] المرجع السابق، ص 100.
[13] هاني نسيرة، فشل «الوعد الأصولي» من ولاية الفقيه إلى «داعش»، صحيفة (الشرق الأوسط) اللندنية، الاثنين 12 ديسمبر 2016.
[14] يُنظر في ذلك المراجع التالية، على سبيل المثال لا الحصر:
- «نظرية الإسلام السياسية» للمودودي
- «منهاج الانقلاب الإسلامي» للمودودي
- «نحو الدستور الإسلامي» للمودودي
- «في ظلال القرآن» لسيد قطب
- «معالم في الطريق» لسيد قطب
- «جاهلية القرن العشرين» لمحمد قطب.
[15] https://shabwaah-press.info/news/33329
[16] العماري، عبد العزيز، «في الفكر السياسي العربي الإسلامي»، أولى، 2015، بيروت، لبنان، جداول، ص 161.
[17] المرجع السابق، ص 337.
[18] ابن تيمية، أحمد بن عبد الحليم، «منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية»، ت: محمد رشاد سالم، الثانية، الرياض، جامعة الإمام محمد بن سعود، 1/75.
[19] المركز الأوربي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات، عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنية.
[20] هيكل، الدكتور محمد خير، «الجهاد والقتال في السياسة الشرعية»، الأولى، 1993، بيروت، دار البيارق، 3/1703.