فريق التحرير: التقرير التالي هو الثالثُ في سلسلةِ تقارير تناقش مرحلةَ ما بعد مقتل قاسم سليماني، وتعالج الموضوعَ من زوايا وتوجهاتٍ مختلفة، وتتبنى أيضًا تقييماتٍ متباينة لتأثيرات هذه العملية على استقرار المنطقة. التقرير الأول يمكن قراءته على الرابط التالي، والثاني يمكن قراءته على هذا الرابط
كولن كلارك(**)
في خطوةٍ نادرة، ألقى المرشد الإيراني علي خامنئي خطبة الجمعة يوم 17 يناير، في المصلى الكبير في طهران. كانت المرة الأولى منذ ثماني سنوات التي يتحدث فيها في موقفٍ مشابه. مجَّد خامنئي الجنرال قاسم سليماني، قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني، الذي تم اغتياله في هجومٍ بطائرة أمريكية مُسيَّرةٍ في مطلع يناير. ولا تترك قراءة ما ورد بين السطور في خطبة خامنئي انطباعًا بالتصالح أو خفض التصعيد… بل العكس.
مسار التصعيد
قد يقود مقتلُ سليماني إيران لأن تصبح أكثر نشاطًا من ذي قبل في العمل من خلال شبكة وكلائها، التي يُشار إليها أحيانًا بشبكة التهديد الإيرانية، وتشمل منظماتٍ إرهابية، وميليشيات مسلحة، ومقاتلين أجانب. ومن المحتمل أن تعمل هذه الشبكة على زعزعة استقرار المنطقة، وتوسيع النفوذ الإيراني في الخارج. وعلى هذا النحو، على المدى الطويل، قد يؤدي اغتيال سليماني إلى تقويض المصالح الاستراتيجية الأمريكية في الشرق الأوسط. ورغم أن الإدارتين الأمريكيتين السابقتين رغبتا في إخراج قواتها من المنطقة، فإنهما لم يتمكنا من ذلك، بل إن إدارة ترامب نشرت 14,000 جندي في الخليج العربي، خلال الأشهر القليلة الماضية.
وفي حين أن مقتل سليماني يُشكِّل في الواقع ضربةً قوية لإيران ولفيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني، فإن غيابه لن يمنع إيران من مواصلة شن حملة إرهاب وعنف لترهيب خصومها، وتحقيق أهداف قيادتها. ولا يمكن إغفال التأثيرات السلبية لتصفية مخطط استراتيجي رئيس بمستوى سليماني من ساحة المعركة على المنظمة التي يقودها. ومع ذلك، وعلى مدى العقود الأربعة الماضية، أسَّست إيران جهازًا متطورًا وممتدًا له القدرة على استعراض القوة الإيرانية. وبناءً على ذلك، وعلى عكس الدول الأخرى في المنطقة، بما في ذلك العديد من خصومها، نجحت إيران في بناء “جهاز استخباراتي متطور للغاية موجه نحو إنتاج الوكلاء والحفاظ عليهم”، كما أشار تحليل مفصل في دورية “بوليتيكو”.
وقت مقتله، كان سليماني قد قطع بالفعل شوطًا كبيرًا في طريق تحقيق رؤيته -شبكة وكلاء لإيران من المقاتلين الشيعة الأجانب والمتمردين، والميليشيات في العراق ولبنان وسوريا واليمن- لديها الاستعداد والقدرة على شنّ هجمات في جميع أنحاء المنطقة ضد مجموعة متنوعة من الأهداف المحتملة. تدعم إيران الوكلاء في الشرق الأوسط، من خلال تمويلهم وتدريبهم وتجهيزهم، مع ضمان توفرهم كامتداد للسياسة الخارجية والأمنية الإيرانية. وهذا يعني أن الجنرال إسماعيل قاآني سوف يتسلم دورًا كان سلفه قد وطَّده، ما يخفف العبء عليه من خلال تولي بنية تحتية وشبكات ومؤسسات جاهزة لتنفيذ عمليات إرهابية عابرة للحدود الوطنية.
ومن الضروري أن نفهم أن وكلاء إيران ليسوا متساوين في القدرات، في الواقع هناك مستويات متفاوتة من القيادة والسيطرة بين الوكلاء الناشطين، ذلك أن حزب الله اللبناني، والمتمردين الحوثيين في اليمن، والميليشيات الشيعية العراقية، تتنوع وتتفاوت فيما بينها من حيث النطاق الجغرافي، والقدرات العسكرية. وهذا يعني أن إيران لديها مجموعة من الخيارات في كيفية سعيها لمواصلة الانتقام من المصالح الأمريكية، وأين، ومتى شاءت.
ومن المرجح أيضًا أن يؤدي مقتل سليماني إلى تفاقم الطائفية وإلى ضغطٍ متزايد يدفع القوات الأمريكية في نهاية المطاف إلى مغادرة العراق. وبعباراتٍ لا لبس فيها، سيكون انسحاب القوات الأمريكية من العراق هديةً لتنظيم داعش، الذي قد يغتنم الفرصةَ لتجديدِ شبكاته. وفي المقابل، ستشعر إيران بالتهديد جراء عودة النزعة العسكرية السنية، ومن المرجح أن تتحرك لمضاعفة جهودها لدعم القوات الشيعية العميلة.
ليس هناك شك في أن رد إيران على مقتل سليماني لن يقتصر على الهجمات التي شنَّتها بالصواريخ الباليستية على قاعدتين عراقيتين تستضيفان القوات الأمريكية. وستواصل إيران شنّ هجماتٍ، وستعتمد على قدراتها غير المتكافئة لإثبات أن الخطوة الجريئة التي أقدمت عليها واشنطن لتحييد النفوذ الإيراني لم تردعها. ولدى طهران عدة خيارات كما يلي:
أين يمكن أن ترد طهران؟
لبنان
رغم تكبد “حزب الله” خسائر كبيرة من حيث القوى البشرية خلال الحرب الأهلية السورية المستمرة، فقد اكتسب أيضاً خبرة كبيرة في ساحة المعركة في القتال في مناطق متنوعة ضد العديد من الخصوم، بما في ذلك تنظيم داعش. ورغم الاحتجاجات المستمرة في لبنان، ما يزال “حزب الله” يتمتع بشعبية، لا سيما في بيروت وضواحيها، وبين المسلمين الشيعة في لبنان.
إن ما يُسمى بـ “حزب الله” هو منظمة هجينة بمعنى الكلمة، منظمة تتمتع بالسلطة السياسية مع الاحتفاظ بميليشيا مسلحة ومدربة جيدًا وذات امتداد عالمي. وكما أظهر “حزب الله” في الماضي، من خلال الهجمات التي نفَّذها في أمريكا اللاتينية وأوروبا، والمؤامرات التي جرى إحباطها التي تتراوح بين قبرص وتايلاند، يمكن له أن يضرب في الوقت والمكان اللذين يختارهما، ويمكنه أن يفعل ذلك بطريقة مذهلة. وهنا، تجدر الإشارة إلى أن إسرائيل قصفت أهدافًا لحزب الله في لبنان، في شهر سبتمبر، بما في ذلك مكتب إعلامي للحزب، ولن يتردد الإسرائيليون في شنّ هجمات أخرى إذا شعروا بأنهم مهددون من قبل أقوى وكيل لإيران.
العراق
لقد عانت صورةُ إيران في العراق، بشكلٍ كبير، منذ اغتيال سليماني، والهجمات الانتقامية الإيرانية بالصواريخ الباليستية على الأراضي العراقية هدفت إلى تعديلِ هذه الصورة. ما زالت طهران تحتفظ بنفوذ كبير على مجموعة من “قوات الحشد الشعبي” العراقية، و”كتائب حزب الله”، الميليشيا المسؤولة عن الضربة الصاروخية التي أثَّرت على الجولة الأخيرة من الصراع بين الولايات المتحدة وإيران، و”عصائب أهل الحق“، وهي جماعة صنَّفتها واشنطن مؤخرا كمنظمةٍ إرهابية أجنبية.
اليمن
من بين الجماعات الإيرانية العميلة جميعها، يتمتع المتمردون الحوثيون في اليمن بأقصى قدر من الحكم الذاتي، كما أنهم من بين الأكثر قدرة عسكريًا، كما يتضح من الأسلحة المتطورة التي يمتلكونها، بما في ذلك الطائرات المسيرة، ومجموعة متنوعة من الصواريخ الباليستية. وقد أظهر الهجوم الصاروخي في سبتمبر 2019 على البنية التحتية للطاقة السعودية، في بقيق، قدرة إيران على العمل بشكلٍ غامض. وقد نُسبت الهجمات في البداية إلى المتمردين الحوثيين، ولكن تبين فيما بعد أنها انطلقت من الأراضي الإيرانية.
سوريا
في سوريا، عكفت إيران على إعداد عدد كبير من المقاتلين الأجانب الشيعة للمساعدة في دعم نظام بشار الأسد. وفي حين تم تجنيد وتدريب كل من “لواء فاطميون” و”لواء زينبيون” للقتال على وجه التحديد في سوريا، هناك احتمال أن يتم نشر هذه الميليشيات للقيام بعملياتٍ في أفغانستان وباكستان، لمساعدة إيران على تعزيز أهدافها في جنوب آسيا. وثمة خيار آخر يتمثل في إرسال المسلحين إلى ساحات قتالٍ أخرى، حيث يقاتل الإيرانيون أو يدعمون الجماعات العميلة، بما في ذلك العراق واليمن.
خاتمة
ما زالت منطقةُ الشرق الأوسط، التي طالما عانتِ الهشاشةَ وعدم الاستقرار، برميل بارودٍ حقيقي. وبمساعدة القوة الجوية، والقوات الخاصة الروسية، اقترب الأسد أكثر من أي وقت مضى من السيطرة مجددًا على سوريا. وهذا من شأنه أن يوفر لطهران إمكانية الوصول إلى ما وصفه الكثيرون بـ “الجسر البري الاستراتيجي” الذي يمتد من إيران، مرورًا بالعراق وسوريا، إلى لبنان.
ومن خلال الهجمات بالوكالة ضد الولايات المتحدة، والمملكة العربية السعودية، وإسرائيل، أثبتت إيران استعدادها لتجاوز الحدود والخطوط السابقة والدفع بالمنطقة إلى حافة الحرب. تهدف “قواعد اللعبة” الإيرانية إلى تجنب الصراع التقليدي مع قوى عسكرية أكثر قدرة وبأسًا، لا سيما الولايات المتحدة، وقد تسعى طهران إلى استهداف حلفاء الولايات المتحدة، حيث هدَّدت دولة الإمارات العربية المتحدة. ومن المهم القول إن هناك قلقًا بالغًا من أنه بمجرد أن يبدأ التصعيد بشكل جدي، كما شهدنا مع مقتل سليماني، قد يكون من الصعب إيجاد مخرجٍ، ونزعِ فتيله.
وختامًا، يقول القائد السابق للقيادة المركزية الأمريكية؛ ديفيد بترايوس، إن مقتل سليماني ربما ساعد الولايات المتحدة على إعادة الردع في الشرق الأوسط. ومع ذلك، وفي ظلِّ أن خطة العمل الشاملة المشتركة أو الاتفاق النووي الإيراني، لا تزال هشةً أكثر من أي وقتٍ مضى، فقد تفسر إيران مقتل سليماني على أنه مؤشر على أنها بحاجة إلى ممارسة واستعراض المزيد من القوة العلنية ضد خصومها. ولتحقيق ذلك، يمكن لطهران تفعيل شبكة وكلائها لشن هجمات ضد المصالح الأمريكية، ما يزيدُ من فرصِ اندلاع حريقٍ أوسع يغرق المنطقة في مزيدٍ من الفوضى.
* يسعى موقعُ «عين أوروبية على التطرف» إلى نشرِ وجهاتِ نظرٍ مختلفة، لكنه لا يؤيد بالضرورة الآراء التي يُعبِّر عنها الكتّابُ المساهمون، والآراء الواردة في هذا المقال تُعبِّر عن وجهةِ نظر الكاتب فقط.
** باحث في المركز الدولي لمكافحة الإرهاب في لاهاي ومؤلف كتاب «ما بعد الخلافة».