د. عمار علي حسن*
على مدار نصف قرن تقريباً، ظلَّ الدكتور يوسف القرضاوي له يد طولى بين الجماعات الدينية السياسية على امتداد خريطة العالم الإسلامي، بدءاً بـ”جماعة الإخوان” وانتهاءً بــ”السلفية الجهادية” على اختلاف ألوان طيفها؛ فالرجل حاز ما لم يتوفر لغيره من نفوذ أو مكانة لدى أتباع هذه الجماعات والتنظيمات، وكثير منهم تقلبوا يمنة ويسرة على وقع أفكاره ومواقفه، وهم إن لم يأخذوا ببعضها أحياناً متحيزين لمصلحتهم ومنفعتهم المباشرة، فإنهم جميعاً قد حرصوا على أن تبقى أقوال القرضاوي دون “جرح وتعديل” أو بمعنى أدق دون نقد ونقض، تستعاد وتوظف وتلقي أثراً كبيراً في الأذهان.
ويمكن أن نعزو المكانة التي حازها القرضاوي لدى أتباع ما يُسمى “الإسلام السياسي”، بل تلك التي انتقلت عبر أوردة هذا التيار وشرايينه، إلى رحاب المجتمع المسلم من غانا حتى فرغانة، لعدة أسباب؛ هي:
1- المعرفة الدينية؛ فالقرضاوي، بغض النظر عن اتجاهاته وتحيزاته وطبيعة أدواره، فإنه قد حصَّل تكويناً معرفياً في الفقه والتفسير وعلم الكلام والحديث وغيره من العلوم الدينية التقليدية، وهو أمر لا ينعكس فقط في كتبه، إنما في خطابه الشفهي، وزاد على هذا بالاطلاع على بعض المعارف الحديثة والمعاصرة.
2- الإمكانات، فالقرضاوي توفرت له إمكانات هائلة، مالية ومؤسسية وإعلامية، لم يحصل عليها غيره، أعطته قدرة فائقة على أن يصل بصوته إلى كل الأصقاع، وأضفت على هذا الصوت قوة ومشروعية أحياناً؛ لارتباطه إما بسياسات رسمية، منها سياسة دولة قطر، وإما توجهات منظمات مسلمة رسمية كان من أهمها “الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين”.
3- الحركية؛ فالقرضاوي لم يكتفِ بدوره كباحث أو فقيه أو مختص في العلوم الدينية والشرعية، بل أرفق هذا بمسار حركي، حيث انتمى إلى جماعة الإخوان منذ شبابه المبكر، وعرض عليه غير مرة منصب مرشدها العام لكنه اعتذر عن الطلب، لكن ظل مخلصاً لها حتى بعد خروجه من تنظيمها الدولي، كما تساوق مع تنظيماتٍ أخرى على مدار عمره الطويل؛ حيث لم يعدم في أية مرحلة من مراحل عمره اتصالاً بها، وتفاعلاً معها.
4- العمر المديد؛ فالقرضاوي من مواليد 1926، وهذا أعطاه فرصة ليرى أجيالاً من مؤسسي “الإسلام السياسي” ورموزه؛ بدءاً من حسن البنا وسيد قطب وكل مرشدي الجماعة، وأمراء الجماعات والتنظيمات الإرهابية منذ تكوين تنظيم الجهاد في سبعينيات القرن الماضي وحتى “القاعدة” و”داعش”، ولم يعطه هذا موقع الشاهد على أحداث كثيرة، والمؤرخ لها فقط، إنما بدا أشبه بهمزة وصل بين مراحل وحالات مرَّت بها هذه الجماعات والتنظيمات.
5- شبكة روابط قوية، حيث استطاع القرضاوي، من خلال العناصر السابق ذكرها، أن يكوِّن شبكة علاقات واسعة النطاق وعميقة في الوقت نفسه، امتدت من أعلى مناصب في بعض الدول حتى مسؤولين عن جمعيات ومؤسسات إسلامية في دول عديدة؛ سواء داخل العالم الإسلامي أو خارجه، فضلاً عن بعض المختصين في العلوم الدينية من كبار الأساتذة الجامعيين وطلابهم.
6- المتابعة؛ فالقرضاوي كان مُسيَّساً طوال الوقت، يتابع الأحداث ويعلق عليها، أو يصدر بيانات مواكبة لها، تبثها شبكة “قنوات الجزيرة” وغيرها، وجعل هذا اسمه ورأيه يترددان في مختلف وسائل الإعلام؛ لا سيما مع الأحداث الساخنة، التي تحظى بأعلى قدر من الإنصات والمشاهدة.
7- الخطاب الميسر المعبر، الذي يزاوج بين الفصحى السهلة والعامية، وبين التراثي والمعاصر، والوجداني والغرائزي، والعقلي والنقلي. وقد امتلك القرضاوي في هذا مهارة واضحة، دمج فيها بين طريقة الخطابة المنبرية واللقاءات المتلفزة وطريقة الحديث في الندوات الدينية، وكذلك المؤتمرات واللقاءات السياسية؛ فأكسبه هذا مهارة في استمالة مَن يستمع إليه دون أن يكون لديه عقل نقدي قادر على تفكيك خطابه، وتبيُّن مثالبه.
وَفق هذه الأسباب، سار القرضاوي مؤثراً بقوة في خطاب “الإسلام السياسي” وحركته، سواء من خلال التنظير له، والتساوق معه، ثم انتقاده من الداخل، ليس لدفع أتباعه إلى العدول عنه باعتباره مساراً أضرّ بالإسلام كدعوة ورسالة خاتمة، إنما لتصويب خطاهم في سبيل أن يكونوا أكثر قوةً وتمكناً، حتى يصلوا إلى غاياتهم.
ففي كتابه “جيل النصر المنشود” يعوِّل القرضاوي على جماعة الإخوان، التي يزعم أنها المعادل المعاصر لجيل الصحابة الذين تحلقوا حول الرسول (صلى الله عليه وسلم)، في إخراج المسلمين من واقعهم البائس، الذي يصفه بأنه غارق في الضلال والانحراف والهزائم جراء ابتعاده عن “النموذج الإسلامي”، ويضع ما يعتقد أنها قوانين قرآنية لتحقيق النصر؛ وهي: النصر من عند الله، وأن الله ينصر مَن ينصره، والنصر لا يكون إلا بالمؤمنين. ثم يجعل من الدعوة والجهاد طريقاً للانتصار، والذي لا يكون إلا بالعودة إلى ما يراها “الينابيع الصافية” للإسلام، وهو هنا يتطابق مع جوانب كثيرة من أفكار سيد قطب؛ لا سيما في كتابه «معالم في الطريق»، لا سيما حين يطالب ببناء العقيدة من جديد، ثم تكوين “الجماعة المؤمنة” التي تغير واقعها عنوة، أو بالسيف، ثم تحوز السلطة، وتواجه “الردة” و”العلمانية”، وتُقيم “الدولة الإسلامية”، ولا يجعل هذا تحصيلاً لمسار دعوي، إنما قتالي أو حربي، ويتمنى لهذا حضور أيام القتال، فيقول: “كيوم خالد في اليرموك، أو سعد في القادسية، أو عمرو في أجنادين”.
وطوال الوقت كان القرضاوي يتراجع عن كل الأفكار الأكثر تطوراً التي يقدمها تحت ضغط الجماعات المتطرفة من ناحية، ووَفق تغيُّر الظروف السياسية التي يعمل في ركابها من ناحية ثانية. ففي بعض الأوقات قدَّم آراء مستنيرة نسبياً في كتابه «الحلال والحرام في الإسلام»، و«الحركة الإسلامية بين الجحود والتطرف»، و«في فقه الأقليات الإسلامية»؛ حيث قدم مصالحة بين الفقه والفن ووضع شروطاً للجهاد، مائلاً به إلى “الدفع”، وأعطى تيسيراً واسعاً للمسلمين في المجتمعات غير المسلمة؛ بما يجعلهم أكثر تآلفاً؛ لكنه عاد ليميل إلى “جهاد الطلب” ويدافع عما تفعله ميليشيات “السلفية الجهادية”؛ وعلى رأسها “داعش”، ويحمِل بشدة على المجتمعات الغربية، مبدياً تعاطفاً مبطناً وظاهراً مع استهدافها من قِبل تنظيمات إرهابية، في سياق ما اعتبره رداً على ضرب الولايات المتحدة ومعها دول غربية لبلدان إسلامية.
والغريب أنه عاد وبرر تدخل الغرب نفسه لضرب سوريين؛ فاعتبر أن القوى الأجنبية سلاح سخره الله للانتقام من بشار الأسد، وزعم أن النبي محمد لو بعث من جديد سيضع يده في يد “الناتو”، وأن “الله وجبريل وملائكته يساندون أردوغان”، وما هذه الأقوال إلا مناصرة منه للتنظيمات المتطرفة المسلحة التي كانت تقاتل الجيش السوري، ومَن يشجعها ويساندها من القوات الأجنبية.
وقد انبرى القرضاوي للرد على كتاب محمد الغزالي «السُّنة بين أهل الفقه وأهل الحديث» الذي يعد خطوة مهمة على طريق التجديد؛ فكتب «كيف نتعامل مع السنة النبوية؟»، فأعاد الأمور إلى الوراء خطوات، وبدا متناقضاً مع تصوره السابق في «الحلال والحرام في الإسلام». وكانت أُذن القرضاوي طوال الوقت مع ألسنة أتباع الجماعات السياسية الإسلامية، فهم ما إن لاموه على ما كتبه في مجلة “العربي” الكويتية عام 1982 في نقد التطرف، بدعوى أنه “حق أريد به باطل”، حتى تراجع مبدياً اعتذاره؛ لا سيما لأتباع الجماعة الإسلامية المتطرفة في مصر الذين وزعوا مقالة مطولة له عن تصويت “الصحوة الإسلامية” على معسكر لشبابهم في صيف 1981، واعتبر هذا هو دليل على “وعي محمود من هذا الشباب، ومناصرة لخط الاعتدال”، ثم عاد ليدافع عن هذه الجماعة وأمثالها في بلدان العالم الإسلامي كافة، رافضاً اتهامها بـ”التطرف”، وهاجم ما أثاره مَن تصدوا لها فكرياً، وقال عن جهدهم ومنتجهم إنه قد “شارك فيه مَن يحسنون ومَن لا يحسنون، ممن لهم بالدين نسب، ومَن ليس لهم بالدين صلة إلا صلة الجهل والغباء، أو الخصومة والعداء، أو السخرية والاستهزاء”، واصفاً أقلامهم بأنها “جاهلة أو حاقدة أو مأجورة، خاضت في الموضوع بغير علم ولا هدى، ولا كتاب منير”.
ويبرر القرضاوي الطريق التي سلكها شباب “الإسلام السياسي” تحت لافتات “الصحوة “والنهضة” و”الإحياء”.. وغيرها، فيقول: “ضاق الشباب ذرعاً بنفاقنا وتناقضنا، فمضى وحده في الطريق إلى الإسلام دون عون منا، فقد وجد الآباء له مثبطين، والعلماء عنه مشغولين، والحكام له مناوئين، والموجهين به ساخرين؛ ولذا، كان علينا أن نبدأ بإصلاح أنفسنا ومجتمعاتنا وَفق ما أمر الله، قبل أن نطالب شبابنا بالهدوء، والتزام الحكمة والسكينة والاعتدال”.
إن القوة أو السلطة المعرفية للقرضاوي، التي جمع فيها بين القديم والمعاصر، قد حدَّت منها رهاناته وارتباطاته السياسية، سواء بحكم الانتماء إلى مشروع “الإسلام السياسي” على ما فيه من عيوب وثقوب أضرَّت بدعوة الإسلام وصورته، أو بتعبير الرجل في كثير من آرائه؛ لا سيما في العقود الأخيرة، عن توجهات سياسية معينة، اقتناعاً أو في ركاب بحثه عن منفعة شخصية.
وظني أن آراء القرضاوي، لتنوعها وتساوقها مع مواقف متناقضة تعطيها إطاراً تفسيرياً وتبريرياً، ستكون قابلة للقراءة والتوظيف والاستعمال ما دام مشروع الجماعات الدينية السياسية قائماً، إلى أن يأتي أحد يحوز المكانة ذاتها، وينتج الخطاب نفسه في شكله ومضمونه.
*روائي، وباحث في علم الاجتماع السياسي