ملاحظة المحرر: مؤلف المقال بريطاني متخصص في مكافحة التطرف، ويعمل في القطاع الحكومي. وقد منحه “موقع عين أوروبية على التطرف” حق عدم الكشف عن هويته حتى يتسنى له الكتابة بصراحة عن هذا الموضوع الحساس.
يقول الفيلسوف المحافظ الراحل السير روجر سكروتون بإمكانية فهم النزعة المحافظة بشكلٍ أفضل باعتبارها شيئًا فطريًا، وليس مجموعة من الأفكار المحددة. ولعل أبرزها غريزة الحفاظ على ما يعتقد المرء أنه جيد، أو كما قال سكروتون: “الشعور بأن الأشياء الجيدة يمكن تدميرها بسهولة ولكن ليس من السهل تكوينها”.
وعلى غرار ذلك، يرى إدموند بيرك، فيلسوف محافظ آخر، أن المجتمع هو “شراكة ليس فقط بين من هم على قيد الحياة، ولكن بين الأحياء، والموتى، وأولئك الذين سيولدون”. يُطلق على هذا النوع من المنظور المحافظ الذي يجسده سكروتون أحيانًا اسم “المحافظين التقليديين” -وفي الولايات المتحدة الأمريكية “المحافظين الأصليين أو القدامى”- وكما قال الرجل نفسه، يحاول التيار العثور على إجاباتٍ لأسئلةٍ من قبيل “من نحن، وكيف ننتمي، وأسئلة الهوية، وأسئلة الولاء، وما الذي يربطني بجاري؟” تُشكّل مثل هذه الأسئلة جزءًا أصيلًا من النقاش حول التطرف. والواقع أن هذا الافتقار إلى مشاعر الفرد بالهوية والانتماء والمجتمع هو الذي يجعلهم عُرضّة للاستغلال.
ألّف سكروتون كتاب “ Eulogy to England“تأبين لإنجلترا”، كتاب مثير للمشاعر، عبّر فيه عن حزنه على عما يعتبره موت إنجلترا. تحدث سكروتون في كتابه هذا بحنين عن الثقافة الإنجليزية، ولكن دون مشاعر اليمين المتطرف العنصري أو الشوفيني. قد يُنظر إلى التعبير عن المشاعر الحساسة بفقدان ثقافة المرء أو وطنيته أو ببساطة الحزن على التغيير، على أنه نوع من صمام التنفيس، أي تخفيف مشاعر الخسارة التي قد تتطور إلى حالة من الاستياء والسخط. ومن شأن الحد من مثل هذه الاستياءات أن يقلِّل عدد المظالم التي يمكن أن يستخدمها المحرضون اليمينيون المتطرفون كسلاح.
من جانبٍ آخر، لا غرابة أن يستمتع اليمين البديل في الولايات المتحدة الأمريكية بفرصة مهاجمة المحافظين، ويصيغ ويروّج للمصطلح المسيء (Cuckservative)، أو “المحافظ الديوث”. فلقد افترض البعض أن المحافظين كانوا خانعين أكثر مما يجب لمطالب الليبراليين. أما بالنسبة للعنصريين البيض، فقد اتهموا المحافظين بأنهم خونة للعرق. وتسرد أنجيلا ناجل كيف تلقى ديفيد فرينش، الكاتب المحافظ في مجلة “ناشيونال ريفيو”، بعد انتقاده دونالد ترامب، تهديداتٍ كثيرة بالقتل والنعوت العنصرية (الموجهة إلى ابنته) لدرجة دفعته إلى تدريب أطفاله المراهقين على استخدام المسدس.
في غياب أصوات أكثر اعتدالًا من يمين الوسط، مثل سكروتون، التي تقدم حلولًا بديلة للمظالم المتصورة للمحافظين، فإن اليمين المتطرف سيقدم سمومه لا شك. ولقد صعّبت الحروب الثقافية على المحافظين إبراز صوتهم بين القطاعات الغفيرة والأعلى صوتًا من اليمين التي تهيمن على ثقافة العصر. كما أدّى التلاشي التدريجي للمؤسسات، التي اعتادت إعطاء معنى للحياة دون قيد أو شرط، إلى حرمان الضعفاء من المزيد من الضمانات.
في أوساط البريطانيين البيض، يمكن القول إن الدين والأسرة لم يكونا أبدًا أضعف ثقافيًا. بالنسبة لأولئك الذين لا يهتمون بمواصلة الدراسة في الجامعة، لم تعد وظائف التصنيع توفر المعنى والأمان القوي الذي كانت توفره في السابق. وعلاوة على ذلك، اختفت نوادي ونقابات العاملين، التي كانت ترافق مثل هذه الوظائف، إلى حدٍّ كبير أيضًا. بالنسبة لأولئك الذين ليس لديهم حرية تعليمية أو مالية للتنقل، لم تترك لهم هذه التغييرات سوى خيارات قليلة جدًا.
بالطبع، لا يشارك الكثيرون المشاعر المحافظة لهذه التركيبة الديموغرافية، ولكن من الصعب على هؤلاء الأشخاص أن يُقدّروا مدى عمق هذا الشعور لدى الآخرين. مفهوم ديفيد جودهارت “في أي مكان” مقابل “في مكان ما“، الذي طوّره في كتابه “الطريق إلى مكان ما“، مفيد في إظهار كيف يمكن لقطاع واحد من السكان أن يفتقر إلى فهم الأولوية الحقيقية للقيم المحافظة ثقافيًا للآخر:
يقول جودهارت: “تنقسم بلادنا الآن إلى كتلتين متنافستين، في أي مكان مقابل في مكان ما“، ثم يواصل جودهارت شرح ذلك:
“لقد حقق الناس الذين ينتمون إلى فئة “في أي مكان” هوياتهم… فإحساسهم بأنفسهم يأتي من نجاحهم التعليمي والوظيفي. إذا كان لديك هوية محققة، فإنها تصبح محمولة… يمكنك العيش في أي مكان، يمكنك العيش بين أشخاص مختلفين جدًا عنك دون الشعور بعدم الراحة. بينما إذا كان لديك هوية منسوبة، إذا كان إحساسك بنفسك يأتي من المكان المحدد الذي وُلدت فيه أو المجموعات التي تنتمي إليها، أعتقد أن هويتك أكثر عُرضة للانزعاج من التغيير السريع. يميل الأشخاص الذين ينتمون إلى فئة “في مكان ما” إلى النظر إلى التغيير على أنه خسارة، في حين أن الناس الذين ينتمون إلى فئة “في أي مكان” يميلون إلى… الاستفادة من التغيير”.
ضمن هذا الانقسام الثنائي، يكون لفئة في أي مكان هويات محمولة، وبالتالي فهي ليست في وضعٍ جيد لفهم الشعور العميق بالمعنى والانتماء والهوية لثقافة أولئك الذين ينتمون إلى فئةِ في مكان ما المستمدة من المكان. الانزعاج الذي يعبّر عنه من ينتمون لفئة في مكان ما بشأن وتيرة التغيير في حي معين، على سبيل المثال، أو تدنيس العلم البريطاني، يترك من ينتمون في أي مكان في حيرة. إذ يبدأون في التساؤل عن الخطأ في مثل هؤلاء الأفراد. ويمكن أن يؤدي هذا الارتباك إلى تلميحاتٍ زائفة بالعنصرية تجاه فئة في مكان ما؛ ولا شك في أن الشعور الوحيد الذي يمكن أن تستنبطه فئة في أي مكان من هذه المشاعر هو الوصم.
ميل فئة في أي مكان هذا لإضفاء الطابع المرضي على من ينتمون لفئة في مكان ما هو مشكلة ويمكن أن يسهّل التطرف. وهنا، يرى جودهارت بأنه في حين أن فئة في أي مكان لا تمثل سوى قرابة ربع السكان -فيما تمثل فئة في مكان ما قرابة نصف السكان- فإن فئة في أي مكان هي المهيمنة ثقافيًا وتحتل معظم المناصب القيادية في مؤسسات الدولة. وهذا يشمل أولئك الذين يتعاملون مع قضايا مكافحة التطرف العنيف.
في هذه الحالة من حكم الأقلية بحكم الأمر الواقع، إذا أساءت الأقلية الحاكمة فهم الأغلبية التابعة -ولم تر نظرتها على أنها اختلاف في وجهات النظر، ولكن على أنها تعصب غير مشروع يجب نبذه- فإنها تخاطر بخلق مجموعة أكبر بكثير من الأشخاص الذين يشعرون بالظلم بشأن “الصواب السياسي”، ويمكن بعد ذلك استخدام هذه المظالم (وهي بالفعل) كسلاح من قبل اليمين المتطرف للتجنيد من أجل قضيتهم المقيتة.
بالنسبة لأولئك الذين لا يشاركونهم المشاعر المحافظة، هناك عقبتان أخريان أمام التفاهم. أولًا، يستخدم حزب المحافظين كلمة “محافظ”، ما يعني أن الشخص غير المحافظ يجب أن يتجاهل الدافع نحو القبلية الحزبية التي يمكن أن تشتت تحليله بسهولة. ثانيًا، ما يزيد حالة الالتباس، على الرغم من الاسم، فإن حزب المحافظين لا يمثل حقًا النزعة المحافظة كما يفهمها معظم الناس.
والحقيقة هي أن حزب المحافظين -للأفضل أو للأسوأ، اعتمادًا على وجهة نظرك- قد انحرف منذ فترةٍ طويلة عن سلوكه المحافظ، وتبنى الاعتبارات البرجماتية للسياسات الحزبية الاحترافية، التي تعني في الممارسة العملية إلى حد كبير الإذعان، بدلًا من السعي إلى عكس، التغييرات التي أجراها الجانب الآخر. وبعبارة مُلطّفة، من غير المرجح أن تحتل موضوعات مثل الحفاظ على دعم قوي للأسرة والدين والزواج مكانة بارزة في أي مؤتمر لحزب المحافظين.
في معرض تأمله في الوضع الحالي للنزعة المحافظة في السياسة الحزبية، قال سكروتون ما يلي:
“لطالما كان حزب المحافظين متشككًا في المثقفين، على أسسٍ جيدة تمامًا مفادها أن المثقفين يفكرون والتفكير أمر خطير، فقد تتوصل إلى فكرة خاطئة. لذلك، كان حزب المحافظين متحفظًا جدًا بشأن ذلك [وجود جذور محافظة فكريًا]. وأعتقد الآن أن الافتقار إلى أساس فكري سليم لنظرتهم للعالم بدأ يظهر”.
لإعطاء مثالٍ آخر: يفترض الناس -وخاصة المنخرطون من فئة في مكان ما في السياسة- أن النزعة المحافظة تشير إلى التقشف المالي، ولكن تقليديًا لم يكن هذا هو الحال قبل مارجريت تاتشر. بالنسبة لحكومة إدوارد هيث المحافظة في فترة السبعينيات، كان أعلى معدل للضريبة 75%، بينما في الفترة من عام 1932 إلى 1980 -الفترة التي تولت فيها تسع حكومات محافظة- كان متوسط المعدل الأعلى 81%.
ومرة أخرى، سواء كان المرء يعتقد أن هذا أمرٌ جيد أو سيئ، فإن الفكرة القائلة بأن التيار المحافظ لديه الكثير مما يمكن أن يقدمه في الاقتصاد هي ظاهرة حديثة نسبيًا، بعيدة كل البُعد عن تقاليده التي تركِّز على الثقافة. لقد اعترف الرئيس الأمريكي الجمهوري جورج بوش الأب ذات مرة عن غير قصد بمحدودية السوق الحرة في الخيال المحافظ. وفي معرض حديثه عن “اليد الخفية” التي قال آدم سميث، عرّاب الاقتصاد الحر، إنها توجّه النظام، أشار بوش إلى أنها “لا يمكن أن تمس قلب الإنسان”.
لقد أظهر خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، إلى حدٍّ ما، الخط المحافظ الثقافي القوي في ناخبي حزب العمال أيضًا، حيث صوّت قرابة 61% من الدوائر الانتخابية لحزب العمال لصالح بريكست. إن وجود الحركة “العمالية الزرقاء” بقيادة موريس جلاسمان تدل على هذه النقطة أيضًا. وحتى جورج أورويل، أحد أشهر الاشتراكيين في بريطانيا، دافع بشدة عن المطبخ الإنجليزي (وهو ما يتعين على المرء أن يكون وطنيًا للغاية لاتباعه). لذا، سيكون من الخطأ الفادح الاعتقاد بأن الأفكار المحافظة ثقافيًا لا يتحلى بها سوى الناخبين المحافظين.
الطبيعة السائدة على نطاقٍ واسع، والمشتركة بين الأحزاب للأفكار المحافظة هي دليل قاطع على أنها ليست شيئًا يمكن القضاء عليه عن طريق الإقناع. في الواقع، تشير الأبحاث إلى أنه مع تقدم العمر، ينتقل الناس عمومًا من اليسار إلى اليمين. ومن منظورِ التطرف، هذا يشير إلى أن الطريق إلى الأمام يتطلب توفير مساحة لتنامي النزعة المحافظة القوية في روح العصر التي يمكن توجيهها نحو الاعتدال، وبعيدًا عن التطرف.
وفي حين أن هذا النهج قد يوفر بيئة وقائية لأولئك المُعرضين للانجرار إلى التطرف، إلا أنه قد يساعد أيضًا الأشخاص الذين هم بالفعل متطرفون أيضًا. ومن السذاجة أن نتوقع من شخصٍ ما أن ينتقل من دعم العنف في قضية الدولة العرقية إلى الابتهاج للمجتمع متعدد الثقافات. يجب أن يكون الحدّ من ميل الشخص إلى العنف هو الأولوية، وهذا يتحقق بسهولة أكبر من خلال الرحلة الأيديولوجية الأقصر إلى الالتزام بالنزعة المحافظة وفق الحدود الدستورية، بدلًا من محاولة حملهم على تبني ليبرالية ما بعد الحداثة. ويمكن للنزعة المحافظة أن توفِّر أرضية فلسفية وسطى، حيث يتم تهدئة بعض المظالم المشروعة -حول فقدان المعنى والانتماء والغرض وما إلى ذلك- وفي الوقت ذاته إزالة العناصر الأيديولوجية التي يمكن أن تفضي إلى دعم العنف، مثل التفوق العرقي أو الشوفينية.
من بين العقبات الكبيرة التي تحول دون تبني هذا التغيير في الاستراتيجية هي الهيمنة الساحقة للأشخاص ذوي الميول اليسارية في مجال مكافحة التطرف العنيف. عند السعي إلى نزع التطرف عن أولئك الذين ينتمون إلى اليمين المتطرف، يبدأ العديد من ممارسي مكافحة التطرف العنيف من فرضية خاطئة، والأهم من ذلك، أنهم يحاولون طرح حلول يسارية لقضايا بدأت كمشكلاتٍ يمينية.
تجادل نظرية الأسس الأخلاقية، التي اقترحها عالم النفس الاجتماعي جوناثان هايدت، بأننا مجبولون بالفطرة على التفكير وفق خمسة أسس أخلاقية. وتؤكد أبحاث مكثّفة عبر الثقافات أن الليبراليين يهتمون بشكلٍ كبير باثنين من تلك الأسس الأخلاقية (الضرر/الرعاية والإنصاف/المعاملة بالمثل)، لكنهم لا يهتمون بالثلاثة المتبقية (الولاء داخل المجموعة، والسلطة/الاحترام، والنقاء/القداسة).
على الجانب الآخر، يهتم المحافظون بالأسسِ الخمسة جميعها. وهذا يشير إلى أن الليبراليين يتجاهلون ما يُقدِّره المحافظون. ما أهمية هذا؟ الأشخاص ذوو الميول اليسارية لا ينضمون إلى اليمين المتطرف. الأشخاص ذوو الميول اليمينية ينضمون إلى اليمين المتطرف، ومكافحة التطرف تتعلق جزئيًا بعكس مسار التطرف.
في هذه الحالة، هذا يعني السؤال التالي: “ما المظالم التي قادت هذا الشخص نحو اليمين المتطرف؟” إذا كنت تفتقر إلى القدرة على الشعور بالعاطفة عندما يُحرق العلم، أو لا تستطيع فهم لماذا يُقدِّر الناس الاحترام للتقاليد، ويميلون نحو قدسية الثقافة، فإنك قد تتجاهل بعض عوامل التطرف، وبالتالي، فإن أي تدابير مقترحة لمكافحة التطرف محكوم عليها بالفشل.
إذا سُمح للسلفيين غير العنيفين، الذين غالبًا ما يكونون محافظين متشددين، بتقديم خدمات مكافحة التطرف للإسلامويين العنيفين، فإن الاتساق يتطلب أن يتمكن المحافظون من تقديم مكافحة التطرف إلى اليمينيين المتطرفين. الأشخاص الذين يربطون هويتهم بالعرق، يمكنهم بدلًا من ذلك التطلع إلى المكان، ومن ثم يمكنهم تنمية شعور بـ “نحن” الجماعية من القيم والتقاليد المشتركة، بدلًا من لون البشرة.
إن الأسئلة المتعلقة بكيفية إيجاد الضعفاء إحساسًا بالهوية والانتماء والمجتمع، والهدف والمعنى، هي الأسئلة الأكثر محورية بالنسبة للتيار المحافظ، والاحتياجات غير الملباة في هذه المجالات هي التي تدفع الناس إلى حدٍّ كبير نحو التطرف لأنهم غير واعين بطبيعتهم. وعندما تحوِّل هذه الاحتياجات اللا واعية إلى احتياجاتٍ واعية، فإنك تنزع عنها قوتها. وحتى الآن، لم يُستفد من المحافظين بشكلٍ كاف في جهود مكافحة تطرف اليمينيين المتطرفين. لقد حان الوقت لتغيير هذا.