إسحاق كفير*
أبرزتِ الانتخابات الرئاسية الأمريكية لعام 2020 ظهور النزعة القبلية المتنامية في الولايات المتحدة؛ حيث يرى المراقبون أنها تمثِّل استفتاءً على روحِ الدولة، وهويتها ومستقبلها. ولعل أحدَ أسباب الانقسامات المتصاعدة هو أن الأمريكيين يعزلون أنفسهم عن الآخرين بشكلٍ متزايد. فهم يعيشون في مجتمعاتٍ تعزِّز وجهاتِ نظرهم السياسية والاجتماعية والدينية والفلسفية، ما يسهِّل تناميَ الغضب السياسي بشكلٍ تلقائي، وشيوع خطاب العنف والعنصرية. وبالتالي، فإن كلَّ شيء يصبح سياسيًّا وشخصيًّا، وتضحي الحلولُ الوسطُ مستحيلةً تقريبًا.
لقد سلّطت الانتخابات، والنتيجة التي أسفرت عنها، الضوءَ على أن ملايين الأمريكيين، رغم أن الكثير من الأدلة الوقائعية تشير إلى عكس ذلك، يتبنون وجهاتِ نظرٍ لا تستند إلى أدلةٍ تجريبية. ذلك أن الملايين يعتقدون أن انتخابات عام 2020 لم تكن حرَّةً ولا نزيهةً، وأن الديمقراطيين يؤيدون عصابات العولمة والاتجار بالأطفال والميل الجنسي إلى الأطفال.
النزعة القبلية في الاستجابة لكوفيد-19
النزعة القبلية هي الأكثر وضوحًا في الطريقة التي استجاب بها العديد من الأمريكيين لجائحة كوفيد-19، حيث يؤكد 76% من الجمهوريين والمستقلين الذين يميلون إلى الحزب الجمهوري أن الولايات المتحدة قد قامت بعملٍ جيِّد في التعامل مع تفشي فيروس كورونا، على الرغم من أن الفيروس لا يزال متفشيًا في جميعِ أنحاء الدولة. ورغم وجود أدلة كثيرة على العكس من ذلك، يعتقد قرابة 29% من الأمريكيين أن “كوفيد-19 هو هجوم بيولوجي متعمد، في حين يعتقد آخرون أن بيل جيتس خطط للجائحة أو أن تكنولوجيا الجيل الخامس هي المسؤولة عن تفشي المرض.
ومن دون التصدي لوباء المعلومات ]انتشار المعلومات الدقيقة وغير الدقيقة بشكل مفرط وسريع[ (infodemic)، فإن إدارة بايدن سوف تواجه صعوبات جمّة لأن أنصار التضليل (النشر المتعمد للمعلومات المغلوطة) وأتباع المعلومات المغلوطة (الاعتقاد في المعلومات المغلوطة) قد انتقلوا على نحوٍ متزايد من الهامش إلى المركز. وفي هذا الصدد، حددت دراسة أجراها “تحالف كورنيل للعلوم” الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بأنه أكبر ناشر للمعلومات المضللة عن كوفيد-19 في العالم. لذا، فلا غرابة في أن يشكك الكثير من الأمريكيين، ليس فقط في جذور الجائحة، بل في كيفية مكافحتها.
أعلن الرئيس المنتخب جو بايدن، بعد وقتٍ قصير من إعلان فوزه، عن إنشاء مجلس استشاري للتصدي لكوفيد-19، يتألف من خبراء في الصحة العامة، يتولى المساعدة في تنسيق الاستجابة للجائحة. ومع ذلك، فإن الاعتماد على العلم يمثل إشكالية لأن فرط التسييس يعني أن العديد من الأمريكيين لا يثقون بالنتائج العلمية، ويعتقدون أنها متحيّزة.
عقبات قضائية
بصرف النظر عن التحزّب الشديد في الكونجرس الذي من المرجح أن يعطِّل العديدَ من سياسات بايدن، ستحتاج الإدارة أيضًا إلى التعامل مع الإرث القضائي لترامب. ذلك أن ترامب لم يكتف بتعيين ثلاثة قضاة في المحكمة العليا، ما أدَّى إلى تغيير الميول السياسية للمحكمة، بل عكس اتجاه تعزيز التنوع. على سبيل المثال، في عام 1977، كان معظم أعضاء السلطة القضائية من البيض والذكور، ولكن الرؤساء المتعاقبين عملوا بجد لجلب الأقليات إلى منصة القضاء لتعكس الطبيعة الحقيقية لتنوع المجتمع الأمريكي. وقد ينتهي الأمر بمرشحين ترامب إلى إبطاء الأجندة الإصلاحية الطموحة أو نسفها. إن الطعن في شرعية المحاكم لن يؤدي إلا إلى زيادة الانقسام، خاصة وأن الدراسات تشير إلى أن أكثر من 60% من الأمريكيين يثقون في السلطة القضائية.
ومن ثم، ينبغي أن تكون المهمة الرئيسة لبايدن هي استخدام منبر البيت الأبيض للتحدث إلى الناس والتواصل معهم وإقناعهم بالتخلي عن تحزّبهم المفرط. وينبغي عليه أن يرفض استخدام ترامب للأوامر التنفيذية والسلطة التقديرية التنظيمية، لا سيما عندما تصبح الأمور صعبة، مثل رفض مجلس الشيوخ التصديق على مرشحيه. وباعتباره متمرسًا في بناء جسور التواصل، يتعين عليه جلب الناس إلى المكتب البيضاوي لإقناعهم بدعم السياسات السليمة تجريبيًا وتذكير خصومه بأنه حصل على دعم أكثر من 80 مليون أمريكي.
هل بايدن مناسب لسد الفجوة السياسية؟
قد يكون بايدن مناسبًا لمواجهة العديد من هذه التحديات. أولًا، يمكن اعتبار عمره ميزة، فقد عاصر العديد من التغييرات، ويمكنه الاعتماد على تلك التجارب في التواصل مع الناس. ثانيًا، لديه جذور تجعله ينتمي لذوي الياقات الزرقاء، وحقيقة أنه لم يلتحق بإحدى جامعات رابطة اللبلاب سوف تستهوي العديد من الأمريكيين الذين يشكُّون في النخب. وأخيرًا، فإن التزامه الديني يمنحه قدرة فريدة على التحدث إلى العديد من مؤيدي ترامب الملتزمين دينيًا، وهنا فهو يحتاج فقط إلى العثور على لهجة الخطاب المناسبة.
في المقابل، ستواجه إدارة بايدن العديد من التحديات، منها المطالب من التقدميين الذين يزعمون أنهم عملوا بجد من أجل انتخاب بايدن. وسوف يجادلون، بجدارة، بأن وجود أجندة معتدلة- واحدة تهدف إلى كسب الجمهوريين والمستقلين المعتدلين- هي خيانة. ومع ذلك، ذكر بايدن أن هدفه هو تعافي أمريكا وتحقيق بعض الاستقرار. ولتهدئة التقدميين، عليه أن يؤكد أنه يشرف على إدارة انتقالية تهدف إلى استعادة الحوار المتحضّر، والوحدة، ووضع الأساس لترشح كامالا هاريس للرئاسة.
وختامًا، فالعمل على عكس مسار وباء المعلومات سوف يستغرق بعض الوقت؛ لأنه يتطلب رأب الانقسامات وتشجيع العديد من الأمريكيين على التخلي عن العديد من الأفكار الراسخة؛ الأمر الذي يتطلب التعاطف بين الناس. فهل سيكون لبايدن المهارات اللازمة لإحداث تغيير إيجابي، وهل ينجح في هذه المهمة الحرجة التي قد ينتج عنها في حال فشله فوضى وخطاب من الكراهية والعنف؟
* عضو المجلس الاستشاري، والأستاذ المساعد بالمعهد الدولي للعدالة وسيادة القانون، جامعة تشارلز ستورت.