أعلن الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، الذي تصنّفه مختلف دول مجلس التعاون الخليجي منظمة إرهابية، أن رئيسه ومؤسسه السابق، يوسف القرضاوي، قد تُوفي يوم الاثنين 26 سبتمبر 2022، عن عمر يناهز 96 عامًا. كان القرضاوي أحد أكثر رجال الدين السُنّة نفوذًا في العالم، وعضوًا في جماعة الإخوان المسلمين، وتعتبر أفكاره وفتاواه مسؤولة عن تمكين التطرف الجهادي والإرهاب وتعزيزه.
الجدير بالذكر أن الحكومة القطرية قد ساعدت القرضاوي في نشر أفكاره، حيث منحته مكانًا بارزًا على منصة قناة الجزيرة التلفزيونية الحكومية. وفي حين أن القرضاوي كثيرًا ما يوصف من قبل أنصاره بأنه “معتدل”، فلا يمكن القول إن خطابات القرضاوي وفتاواه قد شجّعت السلام والتسامح؛ بل على العكس من ذلك. خذْ ليبيا، على سبيل المثال، ففي حين أيد الكثيرون ثورات الربيع العربي بشكلٍ عام، وكان هناك شعورٌ خاص بعدالة الانتفاضة في ليبيا نظرًا للتعامل الفوري الوحشي للعقيد معمر القذافي معها، لكن القرضاوي ذهب إلى أبعد من ذلك بكثير، حيث حرّض الشعب الليبي على قتل القذافي، ووصف ذلك بأنه واجب ديني، ووسيلة للتقرب إلى الله.
هذه ليست الفتوى الوحيدة التي أصدرها القرضاوي التي أشعلت الأوضاع المتوترة بالفعل، ما أدّى إلى إراقة المزيد من الدماء في العالم العربي أكثر مما كان يجب أن يكون. في يونيو 2013، بعد أسبوع من شن حزب الله، الفرع اللبناني للحرس الثوري الإسلامي الإيراني، هجومًا مفتوحًا على المعارضة السورية في القصير، رد القرضاوي على هذا الاستفزاز الطائفي بالمثل، داعيًا جميع القادرين على الانضمام إلى الجهاد في سوريا. دعوة القرضاوي هذه أسهمت في تضخيم موجة المقاتلين الأجانب من مختلف أنحاء العالم الذين يصلون إلى سوريا للانضمام إلى تنظيمي القاعدة وداعش.
ما فعله القرضاوي في سوريا في عام 2013 كان من نواحٍ كثيرة تكرارًا لما فعله قبل عقد من الزمن مع العراق. ففي يناير 2003، وبينما كان “تحالف الراغبين” بقيادة الولايات المتحدة يستعد لغزو العراق للإطاحة بصدام حسين، أصدر القرضاوي فتوى أعلن فيها أن “الذين قتلوا وهم يقاتلون القوات الأمريكية هم شهداء.. أولئك الذين يقاومون محاولات السيطرة على الدول الإسلامية ينوون الجهاد ولديهم روح الدفاع عن وطنهم”. وفي حين أن اللوم على معظم البؤس في العراق الذي أعقب سقوط صدام حسين يجب أن يقع على صدام نفسه، وثانيًا على أسلاف داعش وإيران الذين شرعوا على الفور في تخريب التجربة الديمقراطية في الدولة، فإن القرضاوي، الذي أتيحت له الفرصة لمساعدة قوى النظام، ألقى بدعمه خلف أولئك الذين زرعوا الفوضى والدمار.
في حين أن العديد من المسلمين وحتى الإسلامويين أعادوا النظر في جوانب من أيديولوجيتهم، خاصة فيما يتعلق بإسرائيل، حيث أصبح من الواضح أنه لا يمكن إلقاء اللوم في مشكلات المنطقة على “المشروع الصهيوني”، ظلّ القرضاوي مصرًا على آرائه. وعلى الرغم من أن القرضاوي تراجع في وقت لاحق عن فتوى تبرر التفجيرات الانتحارية ضد الإسرائيليين، فإنه فعل ذلك فقط لأنه قال إن الفلسطينيين لديهم الآن أسلحة أفضل، وبعبارة أخرى، لم يندم على التفجيرات الانتحارية التي وقعت، وذلك لسببٍ بسيط هو أن القرضاوي لم يعترف بالمدنيين الإسرائيليين على أنهم “أبرياء”؛ وأعرب عن اعتقاده بأنهم جميعًا أهداف مشروعة للقتل.
ورغم أن القرضاوي “خفّف” في بعض النواحي من مواقفه في كتاب صدر عام 2009، فقد بقيت شرعية الجهاد دونما تغيير. وفي العام نفسه، دعا القرضاوي الله أن “يأخذ هذه العصابة الصهيونية اليهودية القمعية.. ولا يذر منهم أحدًا”.
وكونه عضوًا مخلصًا في جماعة الإخوان المسلمين، وملتزمًا بأيديولوجية مؤسس الجماعة، حسن البنا، والجهود المبذولة لتعزيز “الروح الجهادية” بين الشباب، اتخذ القرضاوي مواقف بشأن القضايا الراهنة وفّرت غطاءً دينيًا للممارسات والأفكار التي غالبًا ما كانت تسير في اتجاهاتٍ خطيرة ولا يمكن التنبؤ بها. ذلك أنه بعد عزل الرئيس الإخواني في مصر، محمد مرسي، في عام 2013، مباشرة أصدر القرضاوي فتوى تحرّض على شن هجمات على الجيش والشرطة. وكرر القرضاوي هذا التحريض في إحدى الخطب التي ألقاها من مسجد في الدوحة، ونفّذت جماعات الإخوان بالفعل عمليات إرهابية قاتلة ضد الجيش والشرطة.
علاوة على ذلك، أصدر يوسف القرضاوي عددًا من الفتاوى الغريبة بشأن الوضع في تركيا، خاصة فيما يتعلق برئيسها الاستبدادي، رجب طيب أردوغان. إذ قال القرضاوي ذات مرة إن أردوغان كان مدعومًا على الأقل من سيدنا جبريل، وربما يكون تجليًا دنيويًا للملاك، الذي أرسل لحل الأزمات.
وألمح القرضاوي على نطاقٍ واسع إلى أنه يعتبر أردوغان خليفة المسلمين خلال استضافته في برامج على قناة الجزيرة. وأصدّر القرضاوي فتوى تدعو الأتراك إلى التصويت لأردوغان خلال الانتخابات الرئاسية التركية لعام 2014، وهو أمر لافت للنظر، خاصة أنه قال القرضاوي إنه لا يجوز المشاركة في الانتخابات المصرية بعد عام. واعتبر القرضاوي أن المشاركة في الانتخابات المصرية خطيئة.
وتقدم مذكرات أسامة بن لادن دليلًا على تأثير القرضاوي على التنظيمات الإرهابية ومساعدته لها. يقول بن لادن إنه كان “ملتزمًا” بجماعة الإخوان المسلمين في سنواته الأولى، وإنها أثّرت فيه عن أي جماعة أخرى. “لم يرشدني أحد مثل الإخوان”، هكذا كتب بن لادن. كما ذكر بن لادن على وجه التحديد أن فتاوى القرضاوي ووجوده على قناة الجزيرة كانت مفيدة للجهاديين. وقال بن لادن: “إذا تحدّث [القرضاوي]، فإن هذا من شأنه أن يعزز الثقة الشعبية”، ومع ترويج قناة الجزيرة للثورات العربية، فهذا يعطي فرصة “لأنصاف الحلول مثل الإخوان”، التي يمكن أن تكون بمنزلة بوابة “لنشر الأيديولوجية السليمة”، أي الجهاد. “لذلك، فإن عودة الإخوان المسلمين إلى صحيح الإسلام هي مسألة وقت”، حسبما كتب بن لادن، الذي حذّر أتباعه من الدخول في أي مواجهات مع الإخوان. جماعة الإخوان المسلمين، بدورها، نعت علنًا مقتل بن لادن.
حياة القرضاوي المهنية كانت تتسم بقدرٍ من الاستخفاف والانتهازية السياسية: فقد ساعد في تدثير سياسة قطر بعباءة إسلامية. وكان دور القرضاوي مدى الحياة كعضو في جماعة الإخوان المسلمين يعني أنه كان يكرّس نفسه لما يمكن اعتبارها قضايا سياسية بدلًا من الدينية (بالمعنى الروحي)، لكن القرضاوي كان رفض فكرة الفصل بين الأمرين.
وفي نهاية المطاف، كان القرضاوي يؤمن بمبادئ خاصة، لكن تلك المبادئ التي كان يتمسك بها وفّرت غطاءً للقتل والتدمير على نطاقٍ واسع في جميع أنحاء الشرق الأوسط وخارجه، وهو عارٌ كبير بالنظر إلى أنه كان بإمكانه استخدام منصبه لتعزيز قضايا السلام والرحمة والتسامح.