يعد باراك مندلسون، أستاذ العلوم السياسية في كلية هافرفورد بالولايات المتحدة، من المتخصصين في دراسات مكافحة الإرهاب، وقد ألّف عددًا من الكتب في مجال مكافحة الإرهاب والأمن القومي، كان آخرها كتاب «وضع الجماعات الجهادية في حجمها الصحيح: حدود الحركة الجهادية العابرة للحدود الوطنية وما تعنيه لمكافحة الإرهاب». يتمحور الكتاب حول فكرة أساسية؛ مفادها أنه ينبغي للحكومات الغربية أن تضع تهديد الإرهاب الجهادي في حجمه الصحيح، وتقييم السياسات السابقة التي تم تبنيها في هذا الصدد، من أجل الوصول إلى استراتيجيات أكثر نجاعة.
كان من دواعي سرور موقع “عين أوروبية على التطرف” إجراء مقابلة مع البروفيسور مندلسون لمناقشة استنتاجاته وتوصياته في هذا الصدد.
____________________________________________
عين أوروبية على التطرف: لا تزال الجماعات الجهادية واحدةً من أهم القضايا على جدول أعمال الأمن الدولي منذ هجمات 11/9، ولكن في كتابك «وضع الجماعات الجهادية في حجمها الصحيح»، تسأل السؤال المعاكس بشكلٍ أساسي: لماذا لم تكن تُشكل تهديدًا أكبر لصناع القرار؟ وإحدى الإجابات التي تطرحها هي أن الجهاديين يعانون باستمرار من خلافاتٍ داخلية، وعندما يحدث ذلك، تساق حجج في ضوء خطابٍ ديني يميل إلى الانقسام، بدلًا من التسوية والمصالحة. هل يمكنك شرح هذه الفكرة بمزيد من التفصيل لنا؟
بروفيسور مندلسون: في كتابي «وضع الجماعات الجهادية في حجمها الصحيح» أوضح جزءًا من التجربة التي مررت بها منذ 11/9، والتفكير في قضايا العنف والإرهاب والسياق الجهادي. في المراحل المبكرة بعد 11/9، كنا جميعًا نميل إلى المبالغة في تقدير التهديد، وربما أعطينا أيضًا مجالًا أكثر مما يجب للدول، على اعتقاد أن بمقدورها حماية مصالحنا. ولكن مع مرور الوقت، بدأ يتنامى لديّ شعورٌ بأن تكاليف سياسة مكافحة الإرهاب قد تفوق فوائدها، بالنظر إلى مستوى التهديد. لقد شعرتُ بالرعب عندما رأيتُ أنه يمكن بسهولة إساءة استخدام دراسة التهديد الذي يمثله تنظيم القاعدة لزيادة الإسلاموفوبيا. لم يكن هذا شيئًا أطمحُ إليه كباحث. كما رأيت رؤساء الدول يستخدمون صفة “الإرهاب” لإسكات المنتقدين، وأولئك الذين لديهم اعتراضات مشروعة على حكمهم. لذلك، مع مرور الوقت، بدأت أنظر بشكلٍ نقدي، سواء فيما تفعله الدول أو في كيفية تقييمنا لقوة الخصوم الجهاديين الذين نجابههم.
بحلول الوقت الذي كتبت فيه كتابي هذا، كان قد مرّ قرابة عقدين من مراقبتي للحركة الجهادية وسياسات مكافحة الإرهاب، وتوصلت إلى استنتاج مفاده أن الدواء الذي قدمناه للمشكلة الجهادية قد يكون أسوأ من الداء الأصلي. إننا نشهد صعود الشعبوية اليمينية، والتهديد الأمني الرئيسي للولايات المتحدة هو، في رأيي، التطرف اليميني. لذا، اعتقدتُ أنه من المهم استخدام المعرفة -التي اكتسبتها على مدى عقدين من الزمن- لإعادة تقييم طبيعة التهديد الجهادي، ووضع الأمور في نصابها.
وبطريقةٍ ما ثبت صحة رأيي هذا من خلال بحث كيف استجاب الأمريكيون لأزمة كوفيد-19. ففي نهاية الأمر، ما نعتبره تهديدًا لا يُطاق هو أمر يرجع لنا. فالأمريكيون على ما يبدو قادرون على تحمل أكثر من مليون حالة وفاة بسبب تلك الجائحة. وقد عزَّز ذلك مخاوفي من أن الدول غالبًا ما تُبالغ في رد فعلها على تهديد الإرهاب. هذا هو الحال بشكلٍ خاص بالنظر إلى أن معظم الجماعات الجهادية لديها قدرات محدودة للغاية، وعادة ما تؤدي هجماتها إلى عددٍ أقل بكثير من القتلى من هجمات 9/11، التي تعتبر حالة شاذة من نوعها من حيث قوتها الفتاكة.
وكما أسلفت، قادني هذا إلى استنتاج أن التهديد ليس كبيرًا كما كنا نعتقد [في عام 2001] وأن الوقت قد حان لتكوين صورة أكثر دقة للتهديد، ووضع الأمور في نصابها، وفهم السياق العام حتى لا نذهب أبعد مما ينبغي. جزء من مشكلة الحركة الجهادية في العقدين الماضيين هو أن مبالغاتنا شجّعت الحركة، ووسعت نطاقها، وإن كان ليس بطريقة يمكن للجهاديين أن يحققوا فيها نجاحًا كبيرًا.
عين أوروبية على التطرف: هناك عاملان آخران مترابطان توثقهما باعتبارهما يقيدان الحركة الجهادية، وهما الهويات الوطنية، والقبلية، اللتان لم يتخل عنهما أعضاء الحركة أبدًا، وقصور الرؤية الاستراتيجية. هل يمكن أن تشرح لنا العلاقة بين العاملين؟
بروفيسور مندلسون: كنتُ أحاول بناء الحجة -بأننا نبالغ في مستوى التهديد الذي يشكِّله تنظيما القاعدة وداعش- بناء على ثلاثة أشياء.
أولًا، ما تريد هذه الجماعات تحقيقه كبير جدًا، ويتطلب تحول مفاهيمي ضخم في الطريقة التي نفهم بها السياسة والعالم من حولنا لدرجة أن الجماعات الجهادية تفشل في الحصول على الدعم الكافي. فهي لا تستطيع أن تحقق أهدافها بمفردها. إنها تريد الإطاحة بالنظام القائم على الدولة، واستبدال آخر قائم على الدين والتمييز الديني به. وللقيام بذلك، ستحتاج إلى موافقة واسعة النطاق من الأمة الإسلامية، لكنها فشلت في ذلك. هذا الشكل لا يقبله معظم المسلمين. فهناك الكثير من المسلمين الذين يرغبون في رؤية المزيد من الممارسات الدينية في حياتهم، ولكن هناك فرق كبير بين الرغبة في رؤية المزيد من المظاهر الدينية في الاحتفالات؛ مثل حفلات الزفاف والرغبة في العيش في عالم قائم على الضرورات الدينية. والأسوأ من ذلك بالنسبة للجهاديين، يوجد داخل الإسلام تنوع كبير، والجهاديون معادون للغالبية العظمى من هذه التفسيرات. إذن، لماذا يقبل المسلمون هذه النسخة القمعية من الإسلام؟
ثانيًا، بالنظر إلى ضخامة هذا المشروع، فهناك حاجة إلى التآزر بين المواقع الجغرافية المختلفة، فهو لا يمكن أن ينجح في موقع جغرافي واحد. هناك حاجة إلى دولة أو خلافة يمكنها الوقوف على قدميها والدفاع عن نفسها. وبهذا المعنى، كان أسامة بن لادن محقًا في قوله إن أيًا من الإمارات التي تمكن الجهاديون من إنشائها لم تكن قوية بما يكفي لتحمل هجوم من الغرب. ولهذا السبب أرجأ بن لادن العنصر الإقليمي/الجغرافي في رؤيته. لكن هذا يؤكد فقط أنه حتى عندما يحرز الجهاديون نجاحاتٍ في مواقع جغرافية مختلفة في العالم الإسلامي، فإنهم لم يتمكنوا أبدًا من ربط هذه الانتصارات معًا بطريقةٍ تشكل نظامًا سياسيًا عابرًا للحدود الوطنية، قادرًا على تحمل الهجوم الخارجي من قبل الغرب. أقرب شيء حققه الجهاديون هو كسر تنظيم داعش للحدود بين العراق وسوريا، وكانت النتيجة كما رأينا أنهم بمجرد أن فعلوا ذلك، استفزوا المجتمع الدولي، ودفعوه لتدميرهم. في الكتاب، أنظر إلى الاستراتيجيات الكبرى المختلفة التي قدمتها التنظيمات الجهادية، ولم تتمكن أيٌّ منها من تقديم حلٍّ لما أسميه “مشكلة التجميع”. لا يمكنهم تحويل النجاح في مواقع مختلفة إلى أثر شامل وموحّد.
من المثير للاهتمام بشكلٍ خاص أن ننظر إلى كتاب أبو بكر ناجي [إدارة التوحش]، الذي سمعنا جميعًا أنه كان نموذجًا لأفعال القاعدة ثم داعش. ومع ذلك، عندما تقرأ الكتاب، ترى في نهايته أن أبو بكر ناجي يقول: “هل تعتقد أن هذا غير ممكن؟ حسنًا، تاريخ الإسلام يظهر أن الأشياء العظيمة ممكنة إذا كنت تؤمن حقًا بها”. لذلك، حتى الشخص الذي من المفترض أن يكون الاستراتيجي الرئيسي للحركة الجهادية يقول في نهاية المطاف إن الحركة يجب أن تعتمد على الله لتحقيق النجاح. هذا غير معترف به حقًا بين الباحثين في مجال الأمن الدولي باعتباره العقيدة الأكثر موثوقية للنجاح في الحملات العسكرية. نظرتُ إلى المقترحات المختلفة -من بن لادن إلى [أبو مصعب] الزرقاوي، إلى أبو مصعب السوري- ولم تقترح أي منها إجابةً واقعية لمشكلة التجميع. في نهاية المطاف، دعوا جميعًا إلى الاعتماد على الإيمان بأن الأمور ستنجح بطريقةٍ أو بأخرى.
ثالثًا وأخيرًا، بالنظر إلى مدى صعوبة إقامة المدينة الفاضلة التي يريدها الجهاديون، فإنها ستحتاج على الأقل إلى أن تتوحد جميع التنظيمات الجهادية كقوة واحدة. ولكن كما يعلم أي شخص يدرس الحركة الجهادية، فإن هذا ليس واقعيًا: فهم يقضون وقتًا كبيرًا في قتال بعضهم بعضًا، بدلًا من العمل على تحقيق أهدافهم السياسية المعلنة. لذلك، إذا كان مشروع الجهاديين يتطلب قوة بشرية هائلة، ولا يمكنهم حتى الاتحاد مع بعضهم البعض، فمن الواضح أن نوع العالم الذي يتصورونه لن يتحقق.
بشكلٍ عام، إذن، أخلص إلى أننا نبالغ في تقدير الحركة الجهادية العابرة للحدود الوطنية، وأنه ربما حان الوقت لإعادة ضبط رؤيتنا للتهديد، حتى نتمكن من التعامل معه بطريقةٍ أفضل، وربما تخصيص بعض الموارد لأهداف أخرى.
عين أوروبية على التطرف: هل هذا الانقسام بين التنظيمات الجهادية فريدٌ من نوعه بالنسبة لها، أم يمكن رؤيته في الجماعات الإرهابية الأخرى؟
بروفيسور مندلسون: هذا ليس فريدًا من نوعه بالنسبة للحركة الجهادية، لكنني أعتقد أنه يتسبب في مشكلات للحركة الجهادية في ضوء نطاق ما يريدون تحقيقه. الجهاديون مثل جميع البشر، هناك مجموعة متنوعة من أنواع الشخصيات، وبعضها سوف يتصادم مع الآخر. وقد رأينا ذلك في العديد من المنظمات الأخرى. أعتقد أن ما يجعل الأمر مثيرًا للاهتمام بشكلٍ خاص في السياق الجهادي هو أن المبادئ الدينية المعمول بها للحد من الاحتكاك تقود في نهاية المطاف إلى تأثيراتٍ عكسية.
لنأخذ البيعة، على سبيل المثال. بدلًا من أن تسهم في الوحدة، تنتج فرصًا للاختلاف، وهذا عنصر فريد من نوعه في الإرهاب الديني. البيعة موجودة على وجه التحديد لضمان الطاعة، بحيث إنه حتى لو أخطأ الحاكم، فإنه لا يزال مُطاعًا. الظروف التي يمكن بموجبها إعلان أن البيعة “باطلة” صعبة جدًا لدرجة أنه يستحيل تحقيقها في الأساس. وهذا كان من المفترض أن يجعل الحركات الجهادية أقوى من غيرها. لكننا في الواقع، نجد أن طبيعة البيعة في الإسلام، وحقيقة أنها عبارة عن قسم من فرد إلى فرد، تعني أنه في كل مرة تفقد فيها منظمة أم أو فرع قائدًا، فإنها تشعل الدورة الكاملة لإعلان البيعة من جديد. وهذا يعني أنه بدلًا من تحقيق الاستقرار في التنظيمات، فإنها تتسبب في المزيد من الاحتكاك داخلها. وعندما يُقتل قادة الفروع، فإن احتمالات إعادة الاصطفاف تزيد المنافسة بين الفصائل المحلية، وبين أصحاب الثقل الجهادي العابر للحدود الوطنية.
عين أوروبية على التطرف: لقد أجبتَ بالفعل عن هذا السؤال، ولكن فقط لكي ننتهي من هذه النقطة، ألا تعتقد أن الجهاديين يستطيعون حلَّ هذه القضايا؟
بروفيسور مندلسون: لا أرى أي طريقة يمكنهم من خلالها التغلب على هذه المشكلات. ما يمكنك رؤيته هو العودة إلى الأجندة المحلية. أنا أجادل منذ فترة طويلة بأننا نرتكب خطأ عندما نحكم على قوة القاعدة وداعش من خلال تجميع قدرات الفروع والمركز. وهذا الكتاب يؤكد أن هناك اختلافات كبيرة، حتى بين المركز والفروع، داخل هذه التنظيمات، ما يجعلها أضعف مما تبدو عليه، لأن الفروع ليست القوة المضاعفة التي يريدها الجهاديون أن تكون. ما نراه هو أنه عندما تتمكن هذه التنظيمات من القيام بأكثر من مجرد البقاء على قيد الحياة، يكون ذلك من خلال التحول إلى الأجندة المحلية، بدلًا من السعي لتحقيق أهداف القاعدة المركزية أو داعش المركزي.
الجماعات التي تحقق أقوى المكاسب هي تلك التي تنأى بنفسها عن هذه الشبكات العابرة للحدود الوطنية، وأبرز مثال هيئة تحرير الشام في سوريا، التي قطعت جميع علاقاتها مع تنظيم القاعدة لتوضح للمجتمع الدولي أنها يمكن أن تكون جهة فاعلة مسؤولة، وتميّز نفسها عن الجهاديين العالميين. حجتي ليست أنك لن ترى جماعات جهادية ناجحة محليًا: فقد تنجح، وقد نرى أنظمة إسلامية جديدة في المستقبل، لكنها ستلتزم بقواعد نظام وستفاليا المتمثلة في التركيز على دولة محددة، والبقاء داخل حدودها، وفي الغالب احترام القانون الدولي. بعبارةٍ أخرى، الجماعات الناجحة هي تلك التي تقبل بالنظام الحالي، وليس تلك التي تحاول إنشاء شيءٍ جديد تمامًا. ما يعنيه هذا بالنسبة لنا هو أنه يجب علينا البحث عن سبل للتعامل مع الطفرات التي تحدث في الأنشطة الجهادية المحلية بطريقةٍ لا تقوي الحركة الجهادية الدولية. وهذا من شأنه أن يقلص معاركنا في الخارج، إذا فهمنا أن معظم الجماعات الجهادية المحلية تركز فعليًا على القضايا المحلية. وبدلًا من تدخل الولايات المتحدة، يمكننا أن نساعد دول المنطقة على تحقيق الاستقرار في الدول الضعيفة والمنهارة، وفي بعض الحالات، ربما يمكننا حتى قبول نظام إسلاموي. في الواقع، توجد العديد من الأشياء التي يمكننا القيام بها دون إرسال الجيوش للتصدي للتحديات الجهادية المحلية، التي تؤدي بعد ذلك فقط إلى زيادة التهديد.
عين أوروبية على التطرف: هل ترى أن التحديات التي يفرضها تنظيما القاعدة وداعش مختلفة؟
بروفيسور مندلسون: إنها مختلفة لأن داعش لا يبدو أن لديه أي خطوط حمراء ذات مغزى، ما يسهل على عليه قبول الفروع التي تتجاوز الحدود وتمارس أعمالًا شديدة الوحشية، وهو ما لا يفعله تنظيم القاعدة. كما أن تنظيم داعش مستعد لقبول المزيد من التركيز على محاربة “العدو القريب” -الأنظمة الإسلامية- في حين أن تنظيم القاعدة لا يزال أكثر تركيزًا على “العدو البعيد” [الغرب]. الفرق الأكبر هو أن مركز تنظيم القاعدة في هذه المرحلة لا يبدو أكثر من مجلس مستشارين يمكنه تقديم المشورة للفروع المختلفة، ولكن ليس من الواضح ما إذا كان لديهم أي سلطة حقيقية على تلك الفروع. بالتأكيد ليس لديهم أي سيطرة حقيقية. لذلك، أرى اختلافاتٍ بين التنظيمين من حيث الأيديولوجية، والاستراتيجية، والقدرات. في هذه المرحلة، القاعدة المركزية هي ظل لما كان عليه التنظيم في السابق.
عين أوروبية على التطرف: هذا يقودنا مباشرة إلى السؤال التالي: لقد مرّ الآن عقدان من الزمن على الهجوم الأكثر فظاعة، 11/9، لتنظيم القاعدة. هل تعتقد أنه من الممكن أن تتكرر فظائع إرهابية بهذا الحجم، سواء من قبل تنظيم القاعدة أو ربما داعش؟
بروفيسور مندلسون: أعتقد أن هجمات 11/9 كانت مجرد ضربة حظ، تضافرت مجموعة من المصادفات التي صبت في مصلحة الجناة، ومن غير المرجح أن تتكرر هذه الأيام. لكي تقع هجمات مثل 11/9، لا بد من توفر مجموعة ظروف مواتية للجهاديين، ولكن الآن، على سبيل المثال، هناك تعاون أفضل بكثير بين الأجهزة الأمنية في الولايات المتحدة. لذا، فإن عدم التنسيق الذي كان موجودًا من قبل -حيث كان لدى وكالة المخابرات المركزية الأمريكية معلومات استخباراتية لم تكن لدى مكتب التحقيقات الفيدرالي، والعكس صحيح- ما يعني فقدان معلومات رئيسة في الوقت الفعلي من غير المرجح أن تتكرر. هذا لا يعني أنه لا يمكن أن يكون هناك هجوم رهيب من شأنه أن يوقع مئات القتلى.
في الواقع، أنا مندهش لأننا لم نرَ المزيد من مثل هذه الهجمات. لكنني لا أعتقد أن هذا يجب أن يقودنا إلى انتهاج سياسات استثنائية. لم يكن في جعبة القاعدة الكثير مما يمكن أن تستغله بعد هجمات 11/9، لذلك حتى لو تمكّن تنظيم القاعدة أو داعش من شن هجوم ضخم، فإن العواقب متروكة لنا، وكيف نقرر الردَّ على ذلك. لقد قررنا قبل عشرين عامًا الرد بحربٍ على الإرهاب كانت غير مركزة للغاية، وبدون أهداف واضحة، ودون فهم واضح للحركة الجهادية. أما الآن، فلدينا معلومات أفضل تمكِّنُنا من الرد بشكلٍ أفضل. وكما أسلفتُ، أعتقد أن فرص وقوع مثل هذا الهجوم قد تقلصت -فنحن في وضعٍ أفضل بكثير لمنع هجوم كبير آخر- فنحن نفهم أيضًا طبيعة الحركة الجهادية بشكلٍ أفضل بكثير، لذلك فإن ردنا يمكن أن يحد من الجوانب السلبية لما حدث في المرة الماضية. ومع ذلك، فلا ينبغي للمرء أبدًا أن يقلِّل من شأن دور الغباء في التاريخ.
عين أوروبية على التطرف: ماذا عن التهديد الداخلي؟
بروفيسور مندلسون: أعتقد أن المسلمين في أوروبا يمثلون نوعًا مختلفًا من الناخبين، وأنا متأكد من أنك ستتمكن لفترةٍ طويلة من تحديد الأشخاص المحتملين لتنفيذ هجمات. لذلك، أتوقع أن نستمر في رؤية هجمات عرضية في أوروبا. حتى لو تمكنت من دمج معظم القادمين الجدد، ومساعدة مسلمي الجيلين الثاني والثالث على العثور على مكانهم المناسب في أوروبا، سيظل هناك الكثير من الأشخاص الذين يعانون من المظالم الذين سوف سيفلتون من منظومة المراقبة. لحسن الحظ في أوروبا، ليس لديك نفس سبل الوصول السهلة إلى الأسلحة كما في الولايات المتحدة. ومع ذلك، فالقتل لا يزال سهلًا والمظالم الحقيقة أو المظالم المتصوّرة لا تزال موجودة (للتوضيح، هذه المشكلة ليست حكرًا على المسلمين في أوروبا).
هناك الكثير من الأشخاص الذين يعتقدون أن الطريق لمعالجة مظالمهم، سواء تحقيق أهدافهم السياسة أو لمجرد التعبير عن الغضب، هي استخدام العنف. الجهاد لا علاقة له بذلك. في كثيرٍ من الحالات، يستغل المتدينون العلل الاجتماعية، ولا أرى أن هذه العلل الاجتماعية تُحل. بعض الناس يلجأون إلى العنف، خاصة عندما تُقدم لهم مبررات دينية لاستخدامه. ولكن هل يعني ذلك بالضرورة أن الهجمات الإرهابية سيكون لها آثار استراتيجية؟ أزعم أنها ليست كذلك. لا شك أننا يجب أن نسعى للحيلولة دون وقوع أي هجوم، ولكن إذا ما وقع، فنحن قادرون على الحد من عواقبه، من خلال ضبط طريقة ردنا عليه، وضمان أن تقتصر آثاره على التكتيكية فقط. لا شك أن الهجمات تكون مروّعة بالنسبة لأولئك الذين يفقدون أفراد أسرهم في هذه الهجمات. ولكن من منظور استراتيجي، لا يمكننا أن نرى كل هجوم كشرارة لحربٍ طويلة. هناك أشياء نحتاج فقط إلى تعلم التعايش معها، إذ يمكننا التعامل هكذا في الهجمات الصغيرة. لكن إذا بالغنا في تقدير التهديد، وبالغنا في رد الفعل، فسوف نبدأ من جديد، وبدلًا من تحقيق السلام والاستقرار، سنجلب المزيد من الاحتكاك إلى المجتمع.
عين أوروبية على التطرف: بشكلٍ عام، هل تعتقد أن تجربة “الخلافة” لداعش قد ساعدت أو أعاقت الحركة الجهادية؟ هل تعتقد أن الحجة القائلة بأنها كانت ممكنة هي الأكثر إقناعًا، أم أن وجهة نظر القاعدة، بأن ما حدث يثبت أنه ما كان ينبغي تجربتها في هذه المرحلة، هي التي ستنتصر؟
بروفيسور مندلسون: ما سينتصر سيكون الواقع على الأرض، وليس النقاش. إذا رأيت جماعة أخرى تمكنت من السيطرة على الأراضي، وإنشاء خلافة، سيبدو الادّعاء بالخلافة أكثر معقولية. لكن النقاش لن يحدد كيف يتصرف الجهاديون. في هذه المرحلة، يبدو أن تنظيم القاعدة قد أثبت صحة موقفه ضد وجهة النظر القائلة بوجوب إقامة الخلافة الآن. المشكلة بالنسبة للقاعدة هي أن هذا يُعرضه للانتقاد من داعش وغيره على غرار انتقاد جماعة الإخوان المسلمين بأنهم مثل طائفة المرجئة. علاوة على ذلك، تنظيم القاعدة نفسه فشل في تقديم بديل قابل للتطبيق.
عين أوروبية على التطرف: أردت أن أنهي موضوعًا آخر من الموضوعات التي تناولتها من قبل. لقد كتبت ورقة في عام 2021 بعنوان “حدود الشراكات غير المحتملة أيديولوجيًا”، حول تعاون نظام الأسد مع تنظيم داعش لتحويل الجهاديين إلى تهديدٍ يجعل الغرب ينظر إلى النظام على أنه أهون الشرين، وقد نجح في ذلك: تدّخل الغرب في نهاية المطاف لمساعدة الأسد في الواقع على إخماد التمرد ضده، حيث سمحت له الحملة ضد داعش في الشمال والشرق بتركيز قوته النارية على المتمردين في الغرب. وقد فعلت الحكومة الجزائرية شيئًا مشابهًا جدًا مع الجماعة الإسلامية المسلحة في فترة التسعينيات. لذا، فهناك سؤالان حول هذا الموضوع.
الأول هو، بالنظر إلى مدى تورط الدولة في الإرهاب، بشكلٍ عام، وعلى وجه التحديد مع الجماعات الجهادية- كان لتنظيم القاعدة علاقات مختلفة مع دول مثل إيران والسودان والبوسنة- لماذا يستبعد هذا الجانب بشكلٍ عام من مناقشة الإرهاب الدولي؟
بروفيسور مندلسون: أعتقد أنه يُستبعد لسببين. أولًا، أن رعاية الدولة للجماعات الجهادية ليست بهذه القوة. ثانيًا، هناك الكثير من الدول تدعم الإرهاب. القائمة الأمريكية للدول الراعية للإرهاب مزحة. إنها قصيرة جدًا. المستوطنون اليهود في الضفة الغربية مدعومون بالكامل من إسرائيل، وهذا دعم للإرهاب، لكنهم ليسوا مدرجين في القائمة. الكثير من الجهات الفاعلة المسلحة غير الحكومية التي دعمتها الولايات المتحدة وفرنسا وروسيا، انخرطت، على الأقل في بعض الأحيان، في الإرهاب. مشكلتي هي أن كل طرف مسلح من غير الدول تقريبًا يتحول إلى الإرهاب في مرحلة أو أخرى، إلى حد ما، وتتمتع جميع هذه الجهات الفاعلة تقريبًا بمستوى ما من الدعم والتعاون مع الجهات الفاعلة الحكومية. لذلك، ربما نحتاج إلى التمييز بين تلك الدول التي تموّل الأنشطة الإرهابية عن علم، وتلك التي تمول الجماعات التي تستخدم بعض الأموال للانخراط في الإرهاب. فالكثير من الدول تموّل الجهات الفاعلة المسلحة من غير الدول، لكنها لا تملك السيطرة الكاملة عليها: لذا تذهب الكثير من الأموال للأغراض التي تريدها الدول، ولكن بعضها قد يذهب إلى الهجمات الإرهابية التي تعارضها الدول، فهل هذا يجعل هذه الدولة راعية للإرهاب؟
هذه ليست سوى واحدة من المشكلات المفاهيمية التي تكتنف وصف “الدولة الراعية للإرهاب” الذي يجعله في الأساس فئة غير ذات صلة في العلاقات الدولية. مرة أخرى، مع القائمة الأمريكية، تُدرج الدول في القائمة وتُرفع منها لأسبابٍ لا علاقة لها بأنشطتها فيما يتعلق برعاية الإرهاب: حالتان واضحتان هما كوبا وكوريا الشمالية. القائمة سياسية، وكذلك قائمة المنظمات الإرهابية الأجنبية. لا أحب تسمية “الجماعات الإرهابية”: هناك جماعات تنخرط في الإرهاب، لكن الجماعة الإرهابية هي فئة مبهمة، وبالتالي فلا يستخدمها المحللون كثيرًا.
على سبيل المثال، كم عدد الهجمات التي من شأنها أن تجعل جماعة مسلحة إرهابية؟ واحدًا، عشرة، مائة؟ وكم من أنشطتها يجب أن تكون هجمات إرهابية لتصبح هذه الجماعة إرهابية؟ خمسة في المئة؟ خمسين في المئة؟ هناك أسئلة تحليلية مثيرة للاهتمام حول التفاعلات بين الجهات الفاعلة الحكومية، والجهات الفاعلة المسلحة من غير الدول، مثل ما إذا كانت رعاية الدول تجعل الجهات الفاعلة المسلحة من غير الدول أكثر أو أقل عُرْضة لاستخدام الإرهاب، ولكن الطريقة التي يدرس بها الباحثون رعاية الدول للإرهاب في الوقت الحالي ليست مفيدة.
عين أوروبية على التطرف: السؤال الثاني هو؛ هناك الكثير مما يمكن أن تقوم به الحكومات الغربية حيال هذا الأمر، هل يمكن ردع رعاية الدول للإرهاب؟ أم تُعاقب فقط؟ وإذا عوقبت، ماذا ينبغي أن تكون العقوبات؟
بروفيسور مندلسون: الردع ممكن إذا كنتَ واضحًا بما فيه الكفاية بشأن العواقب. الدول التي تدعم الجماعات المنخرطة في الإرهاب تقيّم التكاليف والفوائد، لذا إذا كنت واضحًا أنه ستكون هناك تكاليف -واتخذت بالفعل إجراءات لفرض ذلك- فستتمكن من ردع المزيد من تلك العلاقات.
من ناحيةٍ أخرى، فإن العلاقات والتعاون بين الدول والجهات الفاعلة المسلحة من غير الدول أمر شائع لدرجة أنه من المستحيل تخيّل وقفها تمامًا. ونادرًا ما تسيطر الدول سيطرة كاملة على هذه الجماعات. ما يمكنك القيام به هو وضع بعض المعايير حول ما هي العلاقة التي يمكن تقبلها للدول مع الجهات الفاعلة المسلحة من غير الدول، وما الذي سيؤدي إلى فرض عقوبات.
أرى أنه من المفيد تغيير الطريقة التي نفكر بها في هذه العلاقات، وتحديد ما نريد حظره بالفعل. وينبغي حمل الدول على فهم أن بعض أنواع الدعم للجهات الفاعلة المسلحة، من غير الدول، من شأنه أن يؤدي إلى عواقب وخيمة عليها، وليس من الصعب تحديد هذه الفئات.
على سبيل المثال، إذا ساعدت الدول الجهات الفاعلة المسلحة من غير الدول في الهجمات على المنشآت الكيميائية أو البيولوجية أو النووية: يمكننا وضع هذا كحدود، وفي الواقع هذا هو بالفعل نظام مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة القائم على فكرة منع الدول من وضع أسلحة الدمار الشامل في أيدي الجهات الفاعلة المسلحة من غير الدول. وهكذا، يمكن أن تكون هناك حدود ومعايير، ولكن أي محاولة لحظر جميع العلاقات بين الدول والجهات الفاعلة المسلحة من غير الدول ستكون بلا معنى. وستستمر الدول في مثل هذه العلاقات، حتى إن تعهدتْ بغير ذلك.