نشرت وكالة رويترز عنواناً صادما في العاشر من مارس يقول: “فيسبوك وإنستغرام تسمحان مؤقتًا بالمنشورات التي تدعو للعنف ضد الروس”. انتشر هذا العنوان كالنار في الهشيم على وسائل التواصل الاجتماعي، ولا سيما بين الشخصيات اليمينية الشعبوية في الولايات المتحدة، وغيرها، ممن يؤمنون بأن شركات التكنولوجيا الرقمية الكبيرة تقف ضدهم، والذين اتخذوا منذ بداية العملية العسكرية الروسية ضد أوكرانيا في 24 فبراير مواقف مؤيدة لروسيا في صراعها بشكلٍ عام. وكان ذلك أحيانًا بسبب مواقفهم الأيديولوجية، وفي معظم الأحيان لأن “التيار السائد” كان شديد التعاطف مع أوكرانيا، وهذا يعني -برأيهم- أن مناهضة أوكرانيا هي الموقف الصحيح أو على الأقل الأقرب إلى الصحة.
وبالطبع، فإن محتوى الخبر الذي نشرته “رويترز “كان أكثر تعقيدًا مما يوحي به العنوان، وقد تم تعديل العنوان في وقتٍ لاحق ليعكس المضمون بشكل أكثر هدوءًا، فأصبح “فيسبوك يسمح بمنشورات الحرب الأوكرانية التي تحض على العنف ضد الغزاة الروس وبوتين”. ومع ذلك فقد أثار هذا القرار بحد ذاته بعض التساؤلات الجادة حول كيفية تنظيم شركات وسائل التواصل الاجتماعي لمسألة خطاب الكراهية والتحريض على العنف على منصاتها، وحول كيفية ومدى تأثير التقارير الإعلامية على التطرف.
ما الذي يقوله خبر رويترز؟
لو أن مستخدمي تويتر الغاضبين قد قرأوا الفقرة الأولى من مقال “رويترز” فحسب لكانوا قد اكتشفوا أن شركة “ميتا”، التسمية الرسمية لفيسبوك الآن، سوف تسمح لمستخدمي فيسبوك وإنستغرام في بعض الدول بالدعوة للعنف ضد الروس والجيش الروسي في سياق غزو أوكرانيا، وفقًا لرسائل بريد إلكتروني داخلية اطلعت عليها “رويترز” يوم الخميس الماضي.
والدول التي سيطبق فيها هذا الاستثناء هي أرمينيا، أذربيجان، إستونيا، جورجيا، هنغاريا، لاتفيا، ليتوانيا، بولندا، رومانيا، روسيا، سلوفاكيا وأوكرانيا. وهذا يشمل الدول التي هاجمتها روسيا في الماضي أو التي تهاجمها حاليًا أو تهدد بالهجوم عليها، وأيضًا المواطنين الروس الذين يعترضون على قيام حكومتهم بهذه الهجمات أو التهديد بها.
ولو أن من قرأوا خبر “رويترز” وصلوا حتى المقطع الثالث من المقال، فإنهم سيلاحظون تصريحًا من المتحدث باسم شركة “ميتا” يقول فيه “نتيجة للعملية العسكرية الروسية ضد أوكرانيا، فقد سمحنا مؤقتًا بأشكال التعبير السياسي التي عادة ما نعتبر أنها تنتهك قواعدنا، كالعبارات العنيفة مثل “الموت للغزاة الروس”، ولكننا لا زلنا لا نسمح بالدعوات الجادة إلى العنف ضد المدنيين الروس.
وبالتالي، فإن الانطباع بأن ذلك كان تصريحًا بالتحريض العام على العنف ضد الشعب الروسي كان غير صحيح كما توضح المقالة لاحقًا. وقد ظهر ذلك جليًّا في الرسائل الإلكترونية المسربة “إن الخطاب العنيف الذي كان محظورًا بموجب سياسة خطاب الكراهية” سوف يسمح به الآن “عندما يستهدف الجنود الروس، ما عدا أسرى الحرب، أو عندما يستهدف الروس بحيث يكون من الواضح أن السياق هو الغزو الروسي لأوكرانيا، (على سبيل المثال عندما يذكر المحتوى الغزو، أو الدفاع عن النفس وما شابه ذلك). والسبب في ذلك هو أنه “في هذا السياق المحدد فإن تعبير الجنود الروس هو كناية عن الجيش الروسي. ولا تزال سياسة خطاب الكراهية تمنع مهاجمة المواطنين الروس”.
ومن الجدير بالذكر أن روسيا حظرت مؤخرًا تطبيق فيسبوك كجزء من تحوّل حكومة فلاديمير بوتين تحت غطاء هذه الحرب التي شنها على أوكرانيا من نظامٍ استبدادي منفتح إلى حدٍّ ما إلى نظامٍ قمعي مغلق.
التقارير الصحفية والتطرف
“يكون الخبر الكاذب قد انتشر في نصف العالم قبل أن تبدأ الحقيقة بالظهور” كثيرًا ما تنسب هذه العبارة خطأً إلى ونستون تشرتشل، ولكنها من دون شك تجسد واقعاً مهماً ينطبق بشكلٍ كبير على هذه الحالة.
كانت النسخة الأولى المضللة من عنوان خبر “رويترز” مفيدة جدًا بالنسبة لحكومة بوتين التي تسوق لرواية مفادها أنها تحمي الروس من هجوم عالمي، وكذلك الحظر الذي فرضته بعض الدول الغربية على الأحداث والفعاليات الثقافية الروسية، وعلى بعض الشخصيات التي ليس لها ارتباط بالدولة الروسية. وليس من السهل إصلاح هذا الضرر في الداخل الروسي الذي تم حرمانه من وسائل الإعلام المستقلة ووسائل التواصل الاجتماعي، وببساطة ليس هنالك من طريقةٍ لإيضاح الفروق الدقيقة في هذا الأمر للجمهور الروسي حيث تحتكر الحكومة تدفق المعلومات بشكل شبه كامل.
أما في الغرب، فإن هذا العنوان المضلل سيكون في دوائر اليمين المتطرف بمنزلة “دليل” إضافي على أن مؤسسات الإعلام الرئيسية فاسدة إلى درجة لا يمكن إصلاحها وغير جديرة بالثقة، وأن كل المعايير التي تطبقها منصات التواصل الاجتماعي بشأن خطاب الكراهية والأخبار المضللة، وغيرها، هي مجرد ادعاء بالموضوعية يهدف إلى التستر على الاستهداف الممنهج لمجموعات سياسية معينة.
وهذه المجموعات السياسية تشعر بغضبٍ شديد من طرد دونالد ترامب من تطبيق “تويتر”، بينما بقي المسؤولون الروس والصينيون والإيرانيون -وجميعهم من دول تحظر تويتر على المواطنين العاديين فيها- يغرِّدون بأشياء أسوأ بكثير مما فعله الرئيس السابق. بالطبع هنالك شيء من الحقيقة في هذا الانتقاد، كما هو الحال دائمًا في أفضل أشكال الدعاية المغرضة، وربما يكون ذلك كافيًا لإقناع المزيد من الناس بنظرتهم المتطرفة إلى العالم.
هنالك تساؤلات حقيقية حول مدى قدرة “فيسبوك” على مراقبة حدود هذه السياسة الجديدة، والتمييز بين الجنود والقادة الروس والمواطنين الروس العاديين، ولكن الخطر الأكبر في هذه الاستثناءات كان مدفونًا في نهاية مقال “رويترز”:
“أظهرت الرسائل الإلكترونية أيضًا أن “ميتا” سوف تسمح بالإشادة بكتيبة أزوف اليمينية المتطرفة، الأمر الذي كان محظوراً فيما مضى.. قال الناطق باسم “ميتا” جو أوزبورن في وقتٍ سابق إن الشركة كانت “في الوقت الراهن تسمح بشكلٍ استثنائي ومحدود بالإشادة بكتيبة أزوف، وذلك حصراً في سياق دفاعها عن أوكرانيا أو في سياق دورها كجزءٍ من الحرس الوطني الأوكراني”.
“كتيبة أزوف” هي جماعة من النازيين الجدد تتمركز في مدينة ماريوبول في جنوب شرق أوكرانيا، وقد تم دمجها في قوات الأمن الأوكرانية في عام 2015. وتضم كتيبة أزوف حوالي 1000 مقاتل، ضمن قوات الحرس الوطني التي يبلغ تعدادها 200,000 جندي مما يجعل وزنها العسكري محدودًا للغاية. وكانت هذه الكتيبة محور الدعاية الروسية التي تسعى لتصوير الحكومة الأوكرانية على أنها دمية بيد حلف شمال الأطلسي يديرها “مجلس عسكري نازي”. وقد أشار فلاديمير بوتين في خطابه الذي أعلن فيه بدء العملية العسكرية إلى أن هدف هذه الحرب هو “استئصال النازية من أوكرانيا”.
يمكن رؤية زيف الدعاية الروسية بشأن سيطرة النازيين على أوكرانيا بسهولة بالغة، فرئيس أوكرانيا فولوديمير زيلينسكي يهودي، ولا يوجد عضو واحد في البرلمان الأوكراني ينتمي لليمين المتطرف. وفي المقابل، هنالك الكثير من الإسقاطات لهذه الادعاءات على روسيا نفسها، فهنالك فاشيون في مجلس الدوما (البرلمان الروسي) ومن أبرزهم فلاديمير جيرينوفسكي، وعلاوة على ذلك فقد أرسلت موسكو مجموعة فاغنر -وهي وحدة تسيطر عليها المخابرات العسكرية الروسية أطلق عليها محبو هتلر اسم ملحنه المفضل- لاغتيال زيلينسكي. وبعبارةٍ أخرى، تستخدم الحكومة الروسية النازيين لمحاولة اغتيال الرئيس اليهودي لدولةٍ تدعي موسكو أنها تعمل على اجتثاث النازية منها. وبالإضافة إلى كل ذلك تستخدم الحكومة الروسية العديد من أفكار وعناصر اليمين المتطرف في سياساتها الداخلية والخارجية.
ولضمان الفهم الصحيح لحجم وسياق كتيبة أزوف يجب النظر إليها بطريقةٍ صحيحة. هنالك مشكلة تتعلق باجتذاب الكتيبة لمقاتلين أجانب غربيين إلى صفوفها، وإقامتها لروابط دولية يمكن أن توفر تدريبًا عسكريًّا لليمينيين المتطرفين من دول الغرب كما أظهر تقرير حديث لموقع عين أوروبية على التطرف. وفيما تطلب أوكرانيا الآن المتطوعين الأجانب للانضمام إليها في دفاعها عن نفسها ضد العدوان الروسي، يجب الحرص على ألا تتمكن كتيبة أزوف من تجنيد هؤلاء المتطوعين في صفوفها، وألا يتمكن اليمينيون المتطرفون من استغلال هذا الوضع لاكتساب خبرات قتالية. وبما أن كتيبة أزوف تستخدم منصة فيسبوك لتجنيد المقاتلين، فإن التقليل من القيود على الإشادة بها -حتى في حدود هذا الاستثناء الضيق المحدود في سياق الدفاع عن أوكرانيا- ينطوي على احتمال أن تتم إساءة استخدامه من قبل المتطرفين. وهذا مصدر قلق كبير.