قراءة: نيكولاس هينين
باعتباره “عميد دراسات الإرهاب” في نظر الكثيرين، يقدّم والتر لاكوير رؤى ثاقبة ذات فطنة نادرة. ربما وجد لاكوير فكره الباهر بعد أن فقد نفسه قليلًا في اضطرابات تاريخنا الحديث باعتباره يهوديًا ألمانيًا نجا من فظاعة الإبادة الجماعية على يد هتلر، لكنه فقد والديه في المحرقة. يعتبر لاكوير واسع الأفق، مؤرخًا للصهيونية والنازية واليمين الروسي المتطرف، وكذلك الإرهاب.
يترك لنا لاكوير إرثه في مؤلفه “داعش، والقاعدة، واليمين المتطرف، ومستقبل الإرهاب”، وهو كتاب جرى نشره قبل بضعة شهور من وفاته في أيلول/سبتمبر. ألف لاكوير هذا الكتاب بالتشارك مع كريستفور وول، وهو محاضر في مجال مكافحة التمرد، لا سيما في البحرية الأمريكية.
من شأن وجود اليمين الأمريكي المتطرف إلى جانب قطبي الحركة الجهادية في عنوان الكتاب أن يثير فضول القرّاء، لذا سنعود إلى هذه النقطة لاحقًا.
جرى تنظيم الكاتب في ثلاثة أجزاء رئيسة: يبدأ بمراجعة تاريخ الإرهاب، وينتقل إلى نظرة وصفية للإرهاب المعاصر، وينتهي بتأملات وخواطر المؤلفين حول الإرهاب.
جرى كتابة هذا الكتاب بحكمة بالغة. ففي مواجهة تصاعد الهجمات العنيفة، التي تبعث بالخوف في بيئاتنا المألوفة، يذكّرنا لاكوير وول بلا كلل بالحاجة إلى إعطاء معنىً لظاهرة غالبًا ما يساء فهمها بسبب ردود الفعل السهلة على الحماية الذاتية. لنأخذ على سبيل المثال النص التالي اللافت للنظر: “برغم ما تشير إليه وسائل الإعلام، الحقيقة المخيفة هي أن الإرهاب ليس نتاج اختلال عقلي أو اضطرابًا في الوظائف العقلية أو اللاعقلانية؛ بل هو شكل منطقي ومعقول للغاية من العنف السياسي الذي يؤدي إلى أعمال إرهابية في نهاية المطاف. وبرغم هذا، وبرغم الطريقة التي يصور بها الإرهابيون أنفسهم للعالم، هم في التحليل النهائي لاعبون غير حكوميين يرتكبون عنفًا ضد أهداف غير عسكرية خارج مناطق النزاع، بغرض تغذية ردود فعل عاطفية تؤثر على سياسة مجموعة أو مجتمع أو أمة أو حتى قارة”.
وبحكم تعريفها، تحتل الجماعات الإرهابية منزلة دونية، يجري إدانتها بشكل مستمر إلى حين إيجاد طرق لإدارة عدم تماثل علاقتها بأهدافها. ومن هنا ينشأ سباق يوصف بشكل جيد في الكتاب، تسعى فيه المنظمات الإرهابية إلى الابتكار، والعثور على ثغرات، وإجراء تحركات من أجل تحقيق نجاحات قصيرة الأجل، تجعلها تظهر بمظهر المنتصر، بغرض التعويض عن ضعفها الجوهري في وجه الدول التي تقاتلها.
وفوق كل شيء، كما يشير لاكوير وول، يجب ألا نعتقد بأن الإرهاب أيدلوجية. وفقًا لهما، “الإرهاب وسيلة وأداة في يد المتمردين والسياسيين على حد سواء. يمكن العثور على توظيف الإرهاب عبر الطيف السياسي، وهو ليس مجرد تكتيك، فأولئك الذين يمارسون الإرهاب لديهم شيء مشترك: سواء كانوا من اليمين أو اليسار المتطرفيْن، أو القوميين، أو الشعبويين، أو الدوليين، فإنهم – كما يتضح من أعمالهم – توصلوا إلى استنتاج مفاده أن العمل الإرهابي هو أفضل فكرة لتحقيق أهدافهم. علاوة على ذلك، حتى لو لم يكن لدى الإرهابيين شيء مشترك آخر، فإنهم غالبًا ما يكونوا مرتبطين بإرهابيين آخرين، وليسوا راغبين أو قادرين على العمل بمفردهم”. وبالطبع، يمكن رؤية ذلك في الجذور التاريخية العميقة.
جرى اختراع كلمة “إرهاب” من قبل الفرنسيين، وظهرت في نهاية العمل الثوري الذي أعقب الاستيلاء على الباستيل عام 1789. وبحلول عام 1798، ظهرت كلمة “إرهاب” في القاموس الفرنسي (Dictionnaire de l’Académie française) باعتبارها “نظام، نظام إرهاب”. كان عهد الإرهاب بمثابة اندفاع مميت أسر الثوار وانتهى بسقوط ماكسميليان روبسبير. خلال الغضب العارم آنذاك، جرى سجن حوالي نصف مليون شخص، وإعدام قرابة 100,000.
لا تزال رواية الأصول الفوضوية للإرهاب في نهاية القرن التاسع عشر شرطًا أساسيًا ضروريًا لفهم مبادئ عمل إرهاب، بدءًا بفكرة الزعيم الفرنسي الاشتراكي بول بروس حول الدعاية عبر النشاط الإرهابي (Propaganda of the deed). جرى تطوير هذا المفهوم من قبل الأناركي الإيطالي كارلو بيساكاني، الذي سعى إلى استغلال عدم الرضا عن ثورة 1848. يقول المؤلفان إن “الدعاية عبر النشاط الإرهابي تنطوي على ارتكاب أعمال سياسية تشمل اغتيالات، بغرض إلى توفير حافز للآخرين لمحاكاة هذه الأعمال باتجاه تحقيق أهداف سياسية”.
بعد قرن ونصف من قيام بروس بإضفاء الطابع الشعبي على المصطلح، لا زال هذا المبدأ يفسر الهجمات الإرهابية المعاصرة. هذه الهجمات ليست عمليات عسكرية بسيطة تهدف إلى التسبب بالموت أو الإصابة أو الدمار، بل هي بالأساس عملية دعائية تهدف إلى نقل عدة رسائل. هذه العمليات تهدف كذلك إلى نشر الخوف بطريقة تؤدي إلى إضعاف المجتمع المستهدف، وخلق أو تقوية انقسامات داخل المجتمع لجعله أكثر ضعفًا. تجسد الهجمات كذلك “عملية موارد بشرية” باعتبارها طريقة لتجنيد مؤيدين جدد، أو متعاطفين، أو نشطاء، أو إرهابيين مستقبليين.
يرى الفصل السابع تحت عنوان “الوجه الجديد للإرهاب” صعود “الدولة الإسلامية”. ومن الواضح أن هذا الفصل ينصاع للتحيز الأمريكي المتكرر، الذي يبديه المراقبون الأمريكيون، الذين ينظرون إلى “الدولة الإسلامية” على أنها جماعة عراقية بالأساس، وذلك عبر التركيز على حلقات التنظيم في العراق اعتبارًا من يناير/كانون الثاني 2014 (سقوط الفلوجة)، وفي ذات الوقت، إهمال أعداد كبيرة من التطورات السورية.
هذا بالطبع يؤدي إلى ما هو أبعد من التحليل المشكوك فيه: “أن الدولة الإسلامية، بمظهرها الحالي، هي في المقام الأول مجموعة عراقية تستخدم الأجانب”. وهنا ينبغي التذكير بأن الباحثين الأوروبيين يميلون إلى تحيز معارض، إذ يبالغون في تقدير العنصر السوري في هذه المجموعة الإرهابية.
وددنا لو وضع المؤلفان وصفًا أطول لكيفية هزيمة داعش فعليًا في أواخر عام 2010، بفضل الجمع بين القضاء على قيادتها في ساحة المعركة، التي بدأت فعليًا بأبي مصعب الزرقاوي في تموز/حزيران 2006، واستراتيجية طموحة لمكافحة التمرد تركز على السكان. يستحق هذا التاريخ تحليلًا أطول حتى لو كان الاستنتاج عميقًا: “جرى زرع بذور داعش بشكل مسبق”.
طرح لاكوير وول السؤال الحاسم التالي: “لماذا نجح تنظيم الدولة الإسلامية؟”، لكنهما للأسف لم يستطيعا الإجابة عليه بشكل مقنع. لم يدرك المؤلفان أهمية “ديناميكيات عولمة الاستياء”، التي وصفها فرانسو بورغات بشكل جيد عام 2016. هكذا ديناميكيات دفعت أعدادًا كبيرة من السنّة من الشرق الأوسط وأوروبا وأماكن أخرى إلى اكتشاف أوجه التقارب المشتركة فيما بينهم. وقد افتقد المؤلفان لقوة الدعاية التي طورها التنظيم، لا سيما في تنظيم أعمالها الدرامتيكية؛ مثل إعلان الخلافة أو الهجمات في الغرب. واختتم المؤلفان بالتحذير من استمرار خطر تنظيم القاعدة، الذي سيتواصل “بمجرد تلاشي خطر داعش”، دون الإشارة إلى احتمالية هزيمة الدولة الإسلامية بشكل كامل في المستقبل المنظور.
وفي فصل آخر، يضع المؤلفان نقطة هامة حول إعادة تموضع الإسلام في الظاهرة الجهادية، وهي نزعة تؤدي إلى تشويه شبكات تقييم التهديدات لدى بعض أجهزة الاستخبارات الغربية. “التديّن ليس إلا مؤشرًا ضعيفًا بشأن أسباب تحول الناس نحو العنف. لاحظت وكالات أمنية متعددة من القارتين أن التديّن في كثير من الأحيان مؤشر زائف بشأن تحول الأفراد نحو الإرهاب … إن ميوعة مسارات التطرف تجعل من المستحيل إلقاء اللوم على الدين وحده، ما يجعله متغيرًا غير ثنائي”. يذكر الكتاب التمييز المعرّف من قبل العديد من الباحثين، بمن فيهم لورينزو فيدينو، “بين التطرف المعرفي، وهو عملية تبنّي معتقدات تتعارض مع التيار السائد؛ والتطرف العنيف، وهو الاعتقاد بوجوب ارتكاب المرء لأعمال عنيفة من أجل الدفع قدمًا بقضية ما”.
إن وصف الاستخدام التفاضلي للعنف من قبل داعش والقاعدة ذات صلة في هذا الصدد؛ فقد “تعلم تنظيم القاعدة كيفية استخدام العنف بشكل انتقائي بغرض تمكين تشكيل تحالفات وتأسيس الحكم. وبرغم أن تنظيم القاعدة يعارض نظام الدولة القائم على ويستفاليا (مبدأ سيادة الدولة على مناطقها الجغرافية) والعالم الذي نتج عن هذا النظام، إلا أن القاعدة تعلمت أسرار سيادة القانون وكيفية تقديم الخدمات نحو كسب ثقة المجتمع”. يخرج المؤلفان بنتيجة في نهاية الكتاب مفادها أن ضبط النفس في استخدام العنف قد سمح للقاعدة باصطياد مقاتلي القاعدة في العديد من المسارح، بما فيها أفغانستان، التي يشكل فيها داعش متحديًا مهددًا للقاعدة.
قد يجري انتقاد المؤلفين بسبب تكريسهما مقطعًا كاملًا لدراسة ظاهرة “الذئب المنفرد”، برغم جهود علماء بارزين، بدءًا من رافايلو بانتوتشي، لإلغاء المصطلح المستعار من اليمين المتطرف من الأدبيات العلمية (لويس بيم، مقاومة بلا قيادة”، 1962”). ومع ذلك، كانت الحركة الجهادية سعيدة بخطف المصطلح، لا سيما وأن العادات القديمة من الصعب كسرها. نحن نرى مدى صعوبة شطب تعبير ناجح من عقولنا بمجرد أن سيطر عليه الجمهور والإعلام.
يكشف “مستقبل الإرهاب” عن تعهّد العنوان الفرعي – في الكتاب – بالتعبير عن التهديد القادم من اليمين البديل وكذلك الحركات الجهادية. “يمثل اليمين المتطرف ولادة جديدة لأكثر الأيدلوجيات السامة العنصرية غير الليبرالية، لكن جرى تصميمه بطريقة جذابة للشباب. إن طريقة تواصل اليمين المتطرف تختلف بشكل كبير عن أسلافه؛ فهو يعتمد على منصات الإنترنت مثل “تويتر” و “ريديت” ليتشارك شعارات ثقافية تقوم على نكات وصور تنقل أيدلوجيات يمينية بطريقة فكاهية مغرضة، تسمح له بالزعم بأن نشاطاته الإلكترونية تنطوي على مداعبات غير مؤذية. عندما ينتقد الناس اليمينيين المتطرفين بسبب نكاتهم، فإن اليمين المتطرف يتهمهم بالبساطة والسذاجة وعدم القدرة على فهم روح الدعابة، ما يضمن لهم هجمات انتقامية. هذا التصيد غالبًا ما يولّد عقلية الغوغاء على الإنترنت حيث يقوم الآلاف بمضايقة النقاد البارزين لليمين البديل، وغالبًا ما تحدث هذه المضايقات عندما يقوم اليمينيون البارزون بتحديد أقليات بارزة في الإعلام بغرض مهاجمتها”.
ومع ذلك، يفتقد وصف هذه الظاهرة خصوصية العنف الممارس من قبل اليمين المتطرف منذ انتخاب دونالد ترامب. وفي حين أن الإرهاب يهاجم الحكومات بشكل تقليدي، ويتهمها بالاستبداد، فإننا نجد أنفسنا في وضع جديد متناقض متمثل في وجود دونالد ترامب كمروّج للخطاب البديل داخل البيت الأبيض. هذا النوع من الخطاب يخدم اللاعبين الإرهابيين، كما أظهرت موجة هجمات الطرود المفخخة بالقنابل.
وتجدر الإشارة إلى أن خطاب اليمين المتطرف يستمر في الرواج دون صعوبة كبيرة، ويستطيع أن يقدمه نفسه على أنه صوت المظلومين الذين يواجهون نظامًا استبداديًا، برغم حقيقة ترويجه جزئيًا من قبل رجل يتمتع بقوة هائلة.
يقول المؤلفان إن “محاولة التنبؤ بمستقبل الإرهاب في ظل ترامب أمر صعب للغاية؛ لأنه يحمل في طياته القدرة على تسهيل الأمور للمتطرفين نحو الازدهار”.
ربما يشكل الإرهاب اليميني المتطرف في الولايات المتحدة تهديدًا أكبر منه في أوروبا. ومما لا شك فيه، فإن اليمين البديل في الولايات المتحدة أكثر إثارة للقلق مما هو عليه في الشرق الأوسط أو آسيا أو إفريقيا، إذ لا يزال الإرهاب المستوحي من الجهاد هو الشغل الشاغل الرئيس.
في عام 2017، واجهت الولايات المتحدة 13 هجومًا إرهابيًا، ولم يكن الجهاديون مسؤولين سوى عن اثنين منها – هجوم السيارة في منهاتن في أكتوبر/تشرين الأول وكذلك التفجير الانتحاري الفاشل في هيئة ميناء نيويورك في ديسمبر/كانون الأول. أما الهجمات الـ 11 المتبقية فجرى تنفيذها من قبل أشخاص ينتمون أو يرتبطون باليمين المتطرف. هنالك نقطة هامة ينبغي ملاحظتها، وهي أنه على الأقل حتى الآن، “ليس هناك مجموعة إرهابية من اليمين المتطرف، لكن كان هناك حوادث ارتكبها يمينيون متطرفون”.
يستخلص المؤلفان أوجه تشابه مثيرة في أنماط التطرف، مشيريْن إلى أن “اليمين المتطرف يستطيع أن يؤدي إلى تطرف الأفراد نحو ارتكاب العنف. وعلى غرار الكثير من السلفيين، يدافع اليمين المتطرف عن مجتمع متجانس يرفض بشكل مطلق الغرباء. إن اليمين البديل هو أكثر تطرفًا؛ ففي حين أن السلفيين ينتقدون غير المؤمنين، يرفض اليمين المتطرف المليارات من الناس على أساس صفاتهم الجسدية”.
ربما يكون القِسم الخاص بثقافة الإرهاب المعاصر هو الأضعف في الكتاب؛ فهو يسرد تأكيدات مثل أن “تنظيم داعش ربما لم يسمع عن أدلوف هتلر”. وبالمثل، من الخطأ القول إن “استخدام الأناشيد كوسيلة تعليمية ودعائية دليل إضافي على أن الجهاديين هم أكثر المسلمين ورعًا على الإطلاق”. لطالما كان استخدام الشعر والأغاني الحربية والصور ومقاطع الفيديو ذات أهمية أساسية في الحركة الجهادية، كما أظهر توماس هيغهامر وزملاؤه المؤلفون في كتاب (الثقافة الجهادية، 2017). ولا ينبغي رؤية ذلك باعتباره مراعاة حصرية لقانون الشريعة الإسلامية.
يختتم الكتاب ببعض العبارات الحكيمة للغاية، بما فيها “أهمية الحفاظ على منظور تهديد الإرهاب في الاتجاه الصحيح. ينبغي على الحكومات في جميع أنحاء العالم بذل قصارى جهدها لحماية مواطنيها من الإرهاب، ولكن في إطار سيادة القانون. وإذا لم يشكل الإرهاب بشكل عام تهديدًا وجوديًا على بلد أو حكومة، فإن رد فعل الدولة على لإرهاب، من ناحية أخرى، قد يشكل تهديدًا وجوديًا على نفسها”.
النص كاملًا متوفر باللغة الإنجليزية هنا