د. سامي مبيض*
في قمَّتهما رفيعة المستوى، في منتجع سوتشي على البحر الأسود في عام 2018، اتفق الرئيسُ الروسي فلاديمير بوتين والرئيسُ التركي رجب طيب أردوغان -من بين أمورٍ أخرى- على تكليفِ تركيا بتطهير محافظة إدلب شمال غرب سوريا من جميع الجماعات الإرهابية. وكان هذا، بالطبع، يشير إلى هيئة تحرير الشام -المعروفة سابقًا باسم جبهة النصرة- التابعة رسميًّا لتنظيم القاعدة في سوريا.
كانت الجماعة قوةَ المعارضة المعتبرة الوحيدة التي لا تزال قائمة في إدلب، بعد تفكيك معاقل داعش في المحافظة، وفي جميع أنحاء سوريا. ولكن خلافًا لداعش، كانت هيئة تحرير الشام تتألف بشكلٍ حصري تقريبًا من مقاتلين سوريين كانوا يقاتلون في مدنهم وقراهم، ما جعل القضاء عليهم صعبًا للغاية.
وافق أردوغان على هذه المهمة، وفي المقابل، حصل على سلسلةٍ من الضمانات بأنه سيكون قادرًا على الحفاظ على منطقته الآمنة على الحدود السورية-التركية، وأنه لن يتم استهداف أيٍّ من نقاط التفتيش التي قام بها في إدلب. وقد مُنح مهلةً نهائية في 15 أكتوبر 2018 لهزيمةِ هيئة تحرير الشام، ولكنه لم يستغلها، كما لم يستغلْ كلَّ تمديدٍ لاحق. وأخيرًا في مارس من هذا العام، التقى مرة أخرى مع بوتين لمناقشة الملف السوري، وكُلِّف بنفسِ المهمة، ولكن هذه المرة، دون موعدٍ نهائي.
شكوك عربية
لم تكن الدول العربية؛ مثل مصر والإمارات والسعودية راضيةً عن هذا الترتيب واحتجَّت عليه، مؤكدة أن أردوغان دعَّم صعود الجماعات الجهادية في شمال سوريا في المقام الأول. ولم يثقوا في أن أردوغان سينقلب بالفعل على الميليشيات نفسها التي أسَّسها ودَعَمَها منذ عام 2012. أثبتتِ الأيام صدقَ موقفهم، ففي الواقع، قام أردوغان بشحن بعض هؤلاء المرتزقة إلى ليبيا في أواخر عام 2019 للقتال ضد القوات الداعمة لفايز السراج، الذي تعتقد الإمارات والسعودية أنه حليفٌ لجماعة الإخوان المسلمين.
تكتيكات المماطلة التركية
كانت تركيا قد حاولت في الأصل التفاوض على مخرج آمن لهيئة تحرير الشام من إدلب دون الدخول في مواجهة مسلحة فعلية. وفي أكتوبر 2017، رافقت ميليشيات تحرير الشام وحدة استطلاع تركية إلى إدلب، حيث عُقدت ثلاثةُ اجتماعات بين الجماعة الجهادية، ومسؤولين أتراك. حاول الأتراك -مع القليل من النجاح- إقناع هيئة تحرير الشام بالخروج من إدلب، المحافظة الشمالية الغربية التي تمتد من قرية أطمة (شمال إدلب، شرق الحدود التركية) إلى دارة عزة (شمال غرب حلب)، وصولًا إلى طريق حلب-غازي عنتاب السريع. وعندما فشل هذا الأسلوب، تبنت أنقرة نهجًا جديدًا: تشجيع الانشقاقات داخل الجماعة، وزرع بذور الشقاق في صفوفها، ودفع المقاتلين إلى الانشقاق والانضمام إلى الجماعات الجهادية الأخرى. وفي هذا الصدد، قال الخبير في الشأن السوري تشارلز ليستر إن الهدف النهائي هو خلق “منافس يمكن السيطرة عليه (خارج هيئة تحرير الشام) وليس خصمًا”.
في الواقع، أرادت أنقرة شخصًا آخر ليقوم بعملها القذر. وإذا نجحت المهمة، فإن أردوغان سوف يقفز مدعيًّا الفضلَ في ذلك، وإذا فشلت، فسوف يلقي اللومَ على شخصٍ آخر. كما أنه لم يرغب بالمخاطرة في الدخول في معركةٍ دامية يفقد فيها جنودًا من الجبهة الوطنية للتحرير أو الجيش السوري الحر. كان بحاجة إلى هذه الكيانات في العمليات المستقبلية ضد الأكراد السوريين. وعلى مدار الصراع السوري، كانت هيئة تحرير الشام أكثر الخصوم قدرة في المعارضة المسلحة السورية، ما أعطى أردوغان سببًا أكبر لتجنب إرسال وكلائه إلى معركة انتحارية ضدهم.
قوة معتبرة
كان العثور على المجنَّدين سهلًا نسبيًّا دائمًا لزعيمِ جبهة النصرة أبو محمد الجولاني. جاء الشباب يطرقون بابه، راغبين في الانضمام إلى جبهة النصرة أولًا، ثم إلى هيئة تحرير الشام. في الواقع، توسل الكثيرون للانضمام. كان الاهتمام الإعلامي الذي كان يعطيه الغرب للجولاني أعظم إعلان يمكن أن يأمل فيه على الإطلاق، وكان مجانيًّا.
أقبل الناس على هيئة تحرير الشام لأسبابٍ مختلفة، واهتم أردوغان بهذه الظاهرة في وقتٍ مبكر من الحرب السورية. رأى البعض وعدًا حقيقيًا في برنامجها الجهادي، في حين أراد آخرون أسلحة لحماية منازلهم وأحيائهم. الكثيرون يحتاجون ببساطة إلى ميليشيا محلية لحمايتهم؛ لأن جميع مظاهر إقامة الدولة قد انهارت في جميع أنحاء شمال سوريا. وفي ظلِّ عدم وجود شرطة أو جيش رسمي، كان على الناس إدارة شؤونهم بأنفسهم، وحماية حياتهم وممتلكاتهم. ومن ثم، كان الناس بحاجة إلى الأسلحة، وكان لدى هيئة تحرير الشام الكثير منها لتوزيعه.
نظَّمت هيئةُ تحرير الشام جيشها وفق هياكل عسكرية شبه تقليدية، ومنحت استقلالًا ذاتيًّا كبيرًا في ساحة المعركة. وسُمح لقادة الفصائل باتخاذ قراراتٍ فورية دون انتظار تعليمات القيادة العليا. وكانت لهم حرية إطلاق النار وفق تقديراتهم، وغزو القرى، وأخذ الأسرى، وإطلاق النار على أي شخص يعتبرونه عدوًّا.
ظهور حرّاس الدين
بدأت تكتيكات تركيا المثيرة للشقاق تؤتي ثمارها مع تشكيل “حرّاس الدين” في فبراير 2018، وهو تحالف من الجماعات الجهادية التي انشقت عن هيئة تحرير الشام، بعد أن نأَت بنفسها علنًا عن تنظيم القاعدة في يوليو 2016. وسرعان ما أصبحت لاعبًا كبيرًا في إدلب، حيث تحدت لفترةٍ وجيزة هيئة تحرير الشام داخل إقطاعيتها الخاصة. وحقيقة أنهم كانوا يمزِّقون إدلب، ويتسببون في فرار المدنيين بأعدادٍ كبيرة لم يهم أردوغان. ما كان يهمه هو أن يستمر انقسام حراس الدين – هيئة تحرير الشام في تقويةِ موقفه على طاولة المفاوضات، ما جعل وكلاءَه يبرزون كمعتدلين، بينما يمنح الروس سببًا أكثر للحفاظ على الوجود العسكري التركي في المنطقة.
وفي يونيو، نفّذت هيئة تحرير الشام -بالتنسيق المباشر مع تركيا- سلسلة من العمليات التي تهدف إلى تغيير سمعتها وتصبح حليفًا في الحرب على الإرهاب. بادئ ذي بدء، اعتقل أعضاء هيئة تحرير الشام سراج الدين مختاروف (الملقب بأبو صلاح الزبكي)؛ أحد كبار الجهاديين المطلوبين من قبل الإنتربول. وأفادت الأنباء أن مختاروف سينقل إلى سجن تركي حيث تعتزم أنقرة استخدامه كورقة مساومة في المحادثات المستقبلية مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.
كما قتل مقاتلو هيئة تحرير الشام خالد العاروري (الملقَّب باسم أبو القاسم الأردني) -وهو قائد جهادي رفيع المستوى في جماعة حراس الدين، ولكن الأهم من ذلك، أنهم اعتقلوا الإرهابي سيئ الذكر جمال زينية (الملقب باسم أبو مالك التلّي)- وهو صديق مقرب ورفيق للجولاني، كان قد انشق عن هيئة تحرير الشام في شهر أبريل. ينحدر التلّي من منطقة قلمون في سوريا، وهو مؤسس سابق لجبهة النصرة. وهو الرجل الذي اختطف راهبات معلولا والجنود اللبنانيين في عرسال في عام 2014. وفي يونيو، كان قد دبّر بمفرده عملية دمج لخمس جماعات جهادية كانت تعارض الاتفاقات التركية-الروسية في إدلب، وأنشأ مجموعة تسمى “فاثبتو”. والجماعات الخمس التي انضوَت تحت قيادته هي تنسيقية الجهاد، ولواء المقاتلين الأنصار (وجميعهم أجانب)، وأنصار الدين (برئاسة أبو عبد الله الشامي)، وحراس الدين، وأنصار الإسلام. أعلنت هيئة تحرير الشام أن جميعهم خارجون عن القانون، قائلة إنه لا يمكن إنشاء مجموعة عسكرية في الشمال السوري دون إذنٍ منها. وبحلول منتصف يوليو، كانت هيئة تحرير الشام قد داهمت معظم قواعدهم، وقتلت كبار قادتهم أو اعتقلتهم.
محاولة تطبيع هيئة تحرير الشام
سيستخدم أردوغان هذه الانتصارات ضد حرّاس الدين ليظهر للعالم -وللروس- أنه يمضي قدمًا في المهمة المكلَّف بها؛ أي تطهير إدلب من المتشددين والجهاديين المتطرفين. وفي مقابل ذلك، سيطالب بتقديم تنازلات أكبر من أجل الحصول على وضع دائم لقواته، واتخاذ المزيد من الإجراءات المشتركة ضد الأكراد السوريين. وقد حصل على الضوء الأخضر لزيادة عدد نقاط التفتيش التركية في سوريا من 12 إلى 47 نقطة، تقع ثلاثة منها في عمق إقطاعية روسيا في ريف حماة واللاذقية. ويأمل أن يؤدي هذا “النجاح” في نهاية المطاف إلى إزالة هيئة تحرير الشام من القائمة السوداء للجميع، ربما باستثناء الحكومة السورية.
وفي حين أن الحكومة السورية لا تزال تُصنِّف هيئة تحرير الشام على أنها جماعة إرهابية -لا تختلف عن تنظيم القاعدة أو داعش- فإن الروس أكثر حذرًا، مدركين أن من الصعب جدًّا القضاء عليهم لأنهم يعرفون تضاريس المنطقة جيدًا وهم متجذرون بعمق في مجتمعاتهم. وتفضِّل موسكو التوصلَ إلى تسوية تفاوضية مع قادة هيئة تحرير الشام تؤدي إلى تسليم أسلحتهم، والموافقة على شروط المصالحة التي تنص عليها قاعدتهم في حميميم على الساحل السوري.
وفي هذا الصددِ، قال إبراهيم حميدي، صحفي سوري من إدلب، ومحرر أول في صحيفة “الشرق الأوسط”: “يبدو أن تركيا تحاول تقديم هيئة تحرير الشام كجماعة قادرة على القضاء على الجماعات المتطرفة؛ مثل حراس الدين، على الأقل في الوقت الراهن. وأوضح في حديثه إلى موقع «عين أوروبية على التطرف» أن “هيئة تحرير الشام تريد أن تكون اللاعب الوحيد في إدلب، والجدير بالذكر أنه خلال قمة بوتين-أردوغان الأخيرة، لم تحدث إدانة لتحرير الشام مثل ما حدث خلال قمَّتهما في سبتمبر 2019”. وأضاف أن “هيئة تحرير الشام هي ورقة مهمة في أيدي الأتراك.. لن يتنازلوا عنها مجانًا”.
الخلاصة
رغم جهود أردوغان لترتيبِ الأوراق لصالحه، إلا أنه ليس لديه الكثير ليظهره. وتعليقاً على ذلك، قال نيكولاوس فان دام؛ خبير شهير في الشؤون السورية، وسفير هولندا السابق في الشرق الأوسط: “لقد حققت تركيا عكس ما كانت تهدف إليه.
وفي حديثه إلى موقع «عين أوروبية على التطرف»، أوضح ذلك بقوله “لقد أرادت إسقاطَ النظام في دمشق، لكنها فشلت في ذلك. لقد سمحت بدخول شحنات أسلحة بمليارات الدولارات عبر حدودها إلى سوريا، وانتهى المطاف بأجزاء منها إلى أيدي الجماعات الإسلاموية المتطرفة. أرادت تحييد حزب الاتحاد الكردي/وحدات حماية الشعب المرتبطة بحزب العمال الكردستاني، لكن حزب الاتحاد أصبح أقوى من أي وقت مضى”.
وقررت الابتعادَ عن أي مواجهة مباشرة في إدلب، ما سمح لهذه الجماعات “بإضعاف نفسها ومنافسيها من خلال القتال فيما بين بعضها البعض”. وأضاف: “لن يمانع النظام السوري إذا كان الأتراك سيقضون على هذه الجماعات لصالحه، لكنه سيزحف يومًا ما ضد أولئك الذين تدعمهم تركيا، في محاولة لاستعادة جميع الأراضي السورية، بما في ذلك الأجزاء التي تحتلها تركيا نفسها”.
– يسعى موقعُ «عين أوروبية على التطرف» إلى نشرِ وجهاتِ نظرٍ مختلفة، لكنه لا يؤيد بالضرورة الآراء التي يُعبِّر عنها الكتّابُ المساهمون، والآراء الواردة في هذا المقال تُعبِّر عن وجهةِ نظر الكاتب فقط.
* باحث وأستاذ جامعي سوري، متخصص في الدراسات التاريخية، عمل باحثا في مركز كارنيجي، مؤلف كتاب: تحت الراية السوداء- على مشارف الجهاد الجديد”، صدر في 2015.