د. جاسم محمد**
شهد عام 2016 إبرامَ الاتحاد الأوروبي وتركيا اتفاقاً؛ تلقت بموجبه تركيا مليارات اليوروهات مقابل وقف موجة من اللاجئين، وطالبي اللجوء، من العبور إلى أوروبا. ولكن عندما بدأ النظام السوري هجومه على إدلب -التي تضم العديد من المقاتلين الجهاديين المدعومين من أنقرة- قررتِ الأخيرة فتح حدودها للسماح للاجئين بالتدفق إلى أوروبا كوسيلةٍ للضغط على الاتحاد الأوروبي، من أجل الضغط على سوريا وداعمها الروسي لوقف الهجوم.
ابتزاز بملف اللاجئين
من المؤكد أن تركيا شجعت اللاجئين صراحة على الفرار، بل ونشرت خرائط للطرق التي يمكنهم بها الوصول إلى أوروبا باللغة العربية، ما أدى إلى عبور قرابة 900 ألف لاجئ إلى أوروبا، في يناير وفبراير من هذا العام.
لم تكتفِ تركيا بالتراجع عن الاتفاق، بل سعَت إلى استخدام اللاجئين كورقة مساومة لابتزاز الاتحاد الأوروبي. هذا هو الاتحاد نفسه الذي لا تزال تركيا تطمح إلى الانضمام إليه، أو هكذا تقول. وانتقد المستشار النمساوي سيباستيان كورتس تركيا لمحاولتها “ابتزاز” الاتحاد الأوروبي، عبر فتح حدودها.
وقتها عبرت تصريحات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان صراحة عن أن قراره فتح الحدود يهدف إلى إشراك أوروبا في الصراع السوري، على أمل أن تضغط على النظام السوري لوقف هجومه على إدلب. وقتها حذر رئيس المجلس الأوروبي؛ شارل ميشيل، وكبير دبلوماسيي الاتحاد الأوروبي؛ جوزيب بوريل، من أن قرار أردوغان يقوِّض الثقة بشدة، ودعا الاثنان الرئيسَ التركي إلى الالتزام بتعهداته بموجب اتفاق عام 2016.
في الواقع، فإن الاتفاق لم ينفَّذ مطلقاً بالصورة المأمولة. كان من المفترض أن تنفذ تركيا حزمة خطواتٍ من جانبها من أجل تفعيل حرية حركة مواطنيها مع الاتحاد الأوروبي، وتحديث الاتحاد الجمركي بين الاتحاد الأوروبي وتركيا، والتفاوض على بنود جديدة للانضمام، والأهم من ذلك، خطة إعادة التوطين. ومن جهته، يشير الاتحاد الأوروبي إلى أن تراجع تركيا عن الإصلاحات الديمقراطية هو الدافع إلى عدم تنفيذه البنود الخاصة بتحرير التأشيرات أو مفاوضات الانضمام إليه.
لقد كان التوغل العسكري التركي في سوريا يتعارض، بشكلٍ واضح، مع مصالح غالبية دول حلف الناتو التي ترى أن مثل هذا التدخل عزَّز داعش، وسهَّل هروب مقاتليه. بالإضافة إلى ذلك، أدى شراء أنقرة لنظام الدفاع الصاروخي الروسي S-400 إلى دق إسفين آخر بين تركيا ودول الحلف.
ابتزاز بالملف الليبي
مؤخراً، بدأ أردوغان بتهديد أوروبا بملف التوترات الجارية في ليبيا، حيث يقاتل الجيش الوطني الليبي المدعوم من روسيا؛ بقيادة الجنرال خليفة حفتر، حكومةَ الوفاق الوطني المدعومة من تركيا بقيادة فايز السراج. يهدد أردوغان مستخدما الملف الليبي أن “أوروبا ستواجه مشكلات وتهديدات جديدة في حال الإطاحة بحكومة السراج.. يجب على الاتحاد الأوروبي أن يُظهر للعالم أنه لاعب مهم على الساحة الدولية”.
وأعلنت تركيا إرسال قوات ومستشارين إلى ليبيا، في انتهاكٍ صارخ لقرار مجلس الأمن بحظر تسليح الأطراف المتحاربة. كما كشفت تقارير ميدانية عن إرسال مئات المقاتلين الموالين لتركيا من سوريا إلى ليبيا لدعم الميليشيات التي تقاتل لصالح حكومة السراج.
الجدير بالذكر أن العديد من هؤلاء المقاتلين يصلون إلى ليبيا، وبعد بضعة أيام من القتال يلقون بأسلحتهم ويستقلون قوارب إلى أوروبا. وهكذا، تنفذ تركيا بالفعل أهدافاً عدة في وقتٍ واحد، من خلال نقل هؤلاء الجهاديين إلى ليبيا. فهي تتخلص من هؤلاء المقاتلين من على حدودها، وتستخدمهم للقتال ضد الجيش الوطني الليبي، ويساعدون أنقرة في تأمين مصالحها الاقتصادية في شمال أفريقيا، وفي شرق البحر الأبيض المتوسط، والأهم من ذلك، زيادة محاصرة أوروبا.
ورغم تعرض تركيا لانتقاداتٍ من كل من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، فإنها تقول إنها ستمضي قدماً في خططها للتنقيب عن النفط والغاز قبالة شواطئ قبرص. وصدرت أوامر بإلقاء القبض على طاقم سفينة حفر تركية في المنطقة. وتجاهلت تركيا انتقادات الاتحاد الأوروبي، والولايات المتحدة، ودافعت عن خطط الحفر التي تقوم بها.
ختاماً، فإن التطورات السابقة جميعها تعني -بما لا يدعُ مجالاً للشك- استمرار أردوغان في ابتزازه الاتحاد الأوروبي للحصول على المزيد من الأموال بحجة دعم اللاجئين، والحصول على الدعم السياسي لسياساته في سوريا وليبيا.
*يسعى موقعُ «عين أوروبية على التطرف» إلى نشرِ وجهاتِ نظرٍ مختلفة، لكنه لا يؤيد بالضرورة الآراء التي يُعبِّر عنها الكتّابُ المساهمون، والآراء الواردة في هذا المقال تُعبِّر عن وجهةِ نظر الكاتب فقط.
** كاتب ومحلل سياسي، مدير المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب بألمانيا.