إسحاق كفير*
تلعب أوراسيا، وتحديدًا روسيا وأوكرانيا، دورًا مهمًا في تطور اليمين المتطرف المعاصر، والعالمي، وصعوده. فإلى جانب الآثار الجيوسياسية للصراع في أوكرانيا، بعد العملية الروسي في 24 فبراير، من المهم ملاحظة أن أوكرانيا قد تصبح “سوريا” لليمين المتطرف، حيث يسمح مختلف صناع السياسات والدول لمواطنيهم، أو يشجعونهم، أو يغضون الطرف ببساطة عن من يريدون السفر إلى أوكرانيا، للانضمام إلى الفيلق الدولي للدفاع الإقليمي في أوكرانيا، الذي شكَّلته الحكومة في كييف لتنظيم أولئك الذين يتطوعون من الخارج، للمساعدة في الدفاع عن الدولة.
لقد أدّت العلاقة بين أوراسيا واليمين المتطرف إلى ظهور اتجاهين رئيسيين:
أولًا، صعود الحركات المحافظة المتطرفة مثل حزب البديل من أجل ألمانيا، أو حزب رابطة الشمال في إيطاليا، أو حزب القانون والعدالة الحاكم في بولندا، يسلّط الضوء على الاتجاه العام، حيث يستحوذ القادة الكاريزماتيون على اهتمام (وأصوات) أولئك الساخطين بشدة على الديمقراطية الليبرالية. تقبل هذه الدائرة الانتخابية أن يسيطر على مجتمعاتها، وعلى “الغرب” بشكلٍ عام، عصبةٌ سياسية عولمية تروّج للأفكار والقيم والسياسات التقدمية اجتماعيًا التي تعتبر غير متوافقة مع “الحضارة الغربية” ومعادية لها، التي تفهم على أنها أنجلو-سكسونية، وقوقازية، ومسيحية. ويرى هؤلاء المتطرفون أنهم إذا تمكنوا من تولي السلطة من خلال صناديق الاقتراع، فيمكنهم تغيير مجتمعاتهم لتعكس نظرتهم للعالم.
أما الاتجاه الثاني، وهو أكثر إثارة للقلق، فهو اليمين المتطرف العنيف، الذي سيتطلع إلى استخدام الصراع مع روسيا للحصول على الأسلحة والتدريب، فضلًا على التواصل مع المتطرفين الآخرين. أعضاء هذا التيار هم من المناهضين لليبرالية، والمناهضين للعولمة، والقوميين العرقيين المتطرفين، الذين يفضلون العائلات التقليدية، ويتطلعون إلى الدفاع عن الهوية، والتراث المسيحي “الغرب”. لقد تخلوا عن العملية السياسية كوسيلة لإحداث التغيير السياسي. تركز أيديولوجية هؤلاء المتطرفين على الادّعاء بأنه فقط من خلال انتفاضة دموية يمكنهم إنقاذ “الحضارة الغربية”، التي يفهمونها من خلال نموذج عنصري وديني.
لماذا أوكرانيا؟
تعود أهمية أوكرانيا لأنها تقع بين أوروبا وآسيا، ومنذ عام 2014 واجهت صراعًا عرقيًا قوميًا دينيًا -مع روسيا وداخل أراضيها- اجتذب متطرفين من جميع أنحاء العالم. أوكرانيا، دولة يبلغ عدد سكانها 45 مليون نسمة، غنية برأس المال البشري والموارد الطبيعية، حالة مثيرة للاهتمام عند النظر إلى اليمين المتطرف. ذلك أنها تمثل نمطين متعارضين، ويوجدان العديد من التوترات التي يتم التغاضي عنها حاليًا بسبب العملية العسكرية الروسية، من هذه التوترات التي يتم تجاهلها المخاوف من أن الدولة ما تزال على شفا أن تصبح “مأزقًا حرجًا” أو “ساحة معركة تجريبية” لليمين المتطرف.
هذا الصراع يجمع قضايا جيوسياسية ضخمة -“توسع” حلف الناتو، وصعود الصين، وبحث روسيا عن مكان تحت الشمس- وهو ما يتطلب في نظر موسكو “حماية” أوكرانيا من “التدخل” الغربي. موقف موسكو هو أن أوكرانيا جزء لا يتجزأ من روسيا، حيث يتقاسم البلدان الثقافة والدين والتاريخ ذاته. بينما يرفض صناع القرار السياسي والشعب الأوكراني الرؤية الروسية، ويريدون السيادة الإقليمية ذات الهوية الأوكرانية المتميزة، هوية خالية من روسيا وأقرب إلى الغرب.
وصلت الأمور إلى أوجها في عام 2014، عندما شهدت أوكرانيا ما عرف باسم ثورة الكرامة. لقد أكدت ثورة “الميدان الأوروبي” رغبة الأوكرانيين في تبني العملية الديمقراطية الليبرالية الغربية. وأعقب الثورة الغزو الروسي، الذي أدّى إلى ضم شبه جزيرة القرم، وصراع مفتوح منخفض الحدة في دونباس، حيث وضع الروس قواتهم في المنطقة. ووصف الرئيس الأوكراني المخلوع فيكتور يانوكوفيتش، الحليف للروس والمقرّب منهم، وكذلك مؤيدوه الموالون لموسكو، الثورة بأنها “انقلاب فاشي”، واعتبر أن الحكومة التي حلت محل يانوكوفيتش هي “طغمة فاشية” تقف وراءها الحكومة الأمريكية.
انصب الكثير من الاهتمام على ضم روسيا لشبه جزيرة القرم، ولكن الصراع الذي بدأ يتكشّف في دونباس كان قضية أكثر حيوية. وقد اجتذب هذا الصراع قرابة 3,000 مقاتل أجنبي يدعمون أوكرانيا، وقرابة 12,000 شخص يتطلعون إلى دعم “الجمهوريات” الروسية العميلة. كانت الوحدات المسلحة التي ظهرت محورية في الحفاظ على دوام الصراع، لا سيّما لأنه في عام 2014، كان لدى كييف قرابة 6,000 جندي جاهز للمعركة.
وهنا جاءت وحدات المتطوعين، وبعضها على كلا الجانبين. وقد شبّه أحد المعلقين هذه الجماعات بـ”فيلق المتطوعين/ الأحرار” (Freikorps) الذي ظهر في فايمر في ألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى لسد الثغرات في قدرة الدولة، لا سيّما في التعامل مع الثورات الشيوعية العنيفة، حيث كانت العضوية تتألف من مزيج من المتطرفين الأيديولوجيين، والقوميين العاديين، وأولئك الذين خاب أملهم بسبب الفوضى.
أودى الصراع الذي تصاعد في شرق أوكرانيا، خاصة حول دونباس، بحياة أكثر من 13,000 أوكراني، وتسبب في تشريد 1.5 مليون شخص. وإلى جانب النقاش السياسي، هناك نقاش ديني مهم، بين الكنيسة الأرثوذكسية الروسية والكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية، حيث أصبحت الأخيرة مستقلة بتوجيه من الرئيس الأوكراني السابق بيترو بوروشينكو في أوائل عام 2019.
نظرًا للسمات العرقية-القومية-الدينية للصراع، حيث يتطلع فصيل سياسي من الأوكرانيين إلى الغرب (الاتحاد الأوروبي، وحلف الناتو) والآخر إلى روسيا (على الأقل قبل الصراع)، أضحت أوكرانيا قِبْلَة للقوميين العرقيين الذين يتمتعون بشبكاتٍ دولية.
توجّه العديد من المتطرفين اليمينيين؛ مثل جريجوار موتو، وكريج لانج، وأليكس زويفيلهوفر، وبنيامين ستيمسون إلى أوكرانيا لاكتساب الخبرة في التدريب على الأسلحة والقتال. هناك تهديد كبير يشكّله وجود مجموعات ترحب بمثل هؤلاء الأشخاص، مثل كتيبة آزوف الموالية لكييف، التي ظهرت شارتها، عجلة شمس (sonnenrad)، على ظهر حقيبة ظهر مطلق النار في كرايستشيرش.
شجّع الرئيس السابق بوروشينكو رواية القوميين المتطرفين خلال الأشهر الأخيرة له في منصبه، متبنيًا شعار “الجيش، اللغة، الإيمان!” على سبيل المثال، ما غذَّى رواية اليمينيين المتطرفين لمجتمع منقسم بين أعضاء “حقيقيين” في الأمة (في هذه الحالة، الأوكرانيين العرقيين) و”آخرين” (الأقليات العرقية أو أولئك الذين يُنظر إليهم على أنهم “غير أنقياء”، مثل الغجر أو شعب الرّوما والمثليين).
التحدي الذي يواجه هؤلاء القوميين المتطرفين هو أنهم يؤطرون روايتهم حول القضية المعادية لروسيا، التي تشكّل في السياق الأوكراني هاجسًا أمنيًا مشروعًا، على أقل تقدير، ولكنهم يتطلعون من وراء ذلك إلى تعزيز أجندة “نقاء” القومية العرقية.
في عام 2019، أعلن أندري بيليتسكي، قائد الفيلق الوطني، أن القوميين “سيصبحون العمود الفقري للدفاع المدني في أوكرانيا”. وقد لعبت وسائل الإعلام الرئيسة دورًا إلى حد ما في هذا الجهد، وكان آخرها عندما أشادت بفالنتينا كونستانتينوفسكا، وهي امرأة تبلغ من العمر 79 عامًا يجري تدريبها على الدفاع عن بلدها.
وتبين أن كونستانتينوفسكا كانت تتدرب على يد شخص من كتيبة آزوف، وكانوا يرتدون شعار الجماعة المعروف باسم “وولفسانجل” (Wolfsangel)، وهو رمز جرماني استخدمته فرق مدرعة ومشاة مختلفة تابعة لفافن إس إس (الجناح العسكري للحزب النازي في السابق). وقد منح ذلك كتيبة آزوف درجةً من التغطية والبروز الإعلامي لا يتناسب مع حجمها وأهميتها في أوكرانيا.
ملاحظات ختامية
تتعرض أوكرانيا لهجومٍ شرس، وتحظى بدعمٍ عالمي في مواجهة روسيا، وفي ظلِّ سعي البعض إلى مساعدة أوكرانيا في الدفاع عن نفسها ضد هذا العمل العدواني بدأ البعض في الدعوة إلى تشكيل “فيلق دولي“، الأمر الذي قد يثير مشكلاتٍ أمنية في المستقبل.
ذلك أن أوكرانيا ليست في وضعٍ يسمح لها بفحص أولئك الذين يتطوعون بجدية، ومن المرجح أن يتوجه المتطرفون الراغبون في الحصول على التدريب على الأسلحة والخبرة إلى ميدان المعركة إلى أوكرانيا؛ وهذا ينطبق على الجانب الروسي، حيث تنشط وحدات من النازيين الجدد.
هذا القلق قد يفسِّر الأسباب التي دفعت وزارة الخارجية الأمريكية لتصنيف الحركة الإمبراطورية الروسية على أنها منظمة إرهابية عالمية محددة بشكل خاص، حيث لاحظ بعض صناع السياسات اتجاهًا متصاعدًا من أنصار تفوق العرق الأبيض الذين يوجهون انتباههم إلى أوكرانيا وروسيا.
الأجهزة الأمنية في حالة تأهب للتهديد الذي تشكّله الحرب الأوكرانية. وفي عام 2018، أشار مارك رولي، عندما كان رئيسًا لشرطة مكافحة الإرهاب في المملكة المتحدة، إلى أن المملكة المتحدة كانت تتصدى لعددٍ من “الجماعات الإرهابية النازية الجديدة، المحلية المنشأ، المحظورة، التي تؤمن بتفوق البيض”، التي كانت تتطلع إلى بناء أو الانضمام إلى شبكات دولية، بما في ذلك في أماكن مثل أوكرانيا، بهدف تنفيذ هجماتٍ في المملكة. وكشف رولي أيضًا أنه تم إجهاض أربع مؤامرات إرهابية في عام 2017.
لقد أبدى المتطرفون اهتمامًا كبيرًا بأوكرانيا، وهذا الأمر يستلزم تطوير سياسةٍ قوية تهدف إلى شجب العدوان، وتضمن في الوقت ذاته عدم استغلال من يتبنون وجهات نظرٍ متطرفة لهذا الصراع للحصول على التدريب والأسلحة.
* عضو المجلس الاستشاري بالمعهد الدولي للعدالة وسيادة القانون، وأستاذ مساعد في جامعة تشارلز ستورت.