انفجرت قنبلة في شارع الاستقلال الشهير، بالقرب من ميدان تقسيم، في إسطنبول، تركيا، في 13 نوفمبر الجاري. أسفر الانفجار عن مقتل ستة أشخاص، من بينهم فتاة صغيرة تُدعى إكرين ميدان ووالدها يوسف، وأصيب أكثر من خمسين شخصًا. من جانبه، وصف الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الحادث بأنه هجوم “إرهابي”، فيما وجّهت السلطات التركية أصابع الاتهام بشكلٍ مباشر إلى حزب العمال الكردستاني الذي يشن حربًا على الدولة التركية منذ فترة الثمانينيات. ومع ذلك، فإن الأدلة المتاحة حتى الآن غامضة.
في أعقاب الهجوم، اعتقلت الشرطة التركية ستة وأربعين شخصًا، أبرزهم امرأة سورية، وبثّت برامج تلفزيونية رسمية عملية اعتقالها. ويُزعم أنه عند مداهمة منزلها، عثرت السلطات على نقود وذهب ومسدس. ويُقال إن المرأة دخلت تركيا من عفرين، منطقة تقع في شمال سوريا كان يسيطر عليها حزب العمال الكردستاني إلى أن استولت عليها تركيا من خلال عملية عسكرية في عام 2018.
وقد أشارت تقارير وسائل الإعلام التركية إلى أن المرأة السورية المحتجزة تُدعى أحلام البشير، وأضافت:
في استجوابها من قبل الشرطة، قالت المشتبه بها إنها تدّربت كضابط استخبارات خاص من قبل حزب العمال الكردستاني/ حزب الاتحاد الديمقراطي/ ووحدات حماية الشعب الكردية السورية الإرهابية، ودخلت تركيا بشكلٍ غير قانوني عبر مدينة عفرين السورية.
واعترفت الإرهابية بأنها نفّذت الهجوم في حوالي الساعة 4:20 مساء (13:20 بتوقيت جرينتش) يوم الأحد، وتلقت الأمر من مقر المنظمة الإرهابية في كوباني، سوريا.
تجدر الإشارة إلى أن حزب الاتحاد الديمقراطي يسيطر على شمال شرق سوريا، ووحدات حماية الشعب هي ميليشيا تابعة للحزب. وتنظر الحكومة التركية على نحو صحيح تمامًا إلى حزب الاتحاد الديمقراطي، ووحدات حماية الشعب، كواجهاتٍ لحزب العمال الكردستاني.
وحقيقة أن حزب العمال الكردستاني منظمة إرهابية مُصنّفة، تكرّس نفسها لتدمير الدولة التركية ومدانة بالتسبب في حربٍ أسفرت عن مقتل 30,000 تركي أو أكثر، ومع ذلك فإن التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة لا يزال يتعاون مع حزب الاتحاد الديمقراطي/ وحدات حماية الشعب في الحملة ضد تنظيم داعش، يثير غضب أنقرة منذ عام 2015.
من جانبه، نفى حزب العمال الكردستاني تورطه في هجوم اسطنبول، وهو أمر متوقع. ذلك أنه ينخرط في حملة علاقات عامة مستمرة منذ سنوات لرفع نفسه من القوائم السوداء للإرهاب الغربي، ومن شأن حادث بهذه البشاعة في منطقة تعج بالسياح، وكثير منهم مواطنون غربيون، أن تعرقل أي فرصة للنجاح على هذه الجبهة.
ومع ذلك، فإذا كان حزب العمال الكردستاني يقف خلفه، فإن الهجوم سيكون غريبًا بلا شك. فلقد شنّ حزب العمال الكردستاني هجمات في مدن تركية في غرب البلاد، عادة من خلال مجموعة واجهة أخرى، هي “صقور حرية كردستان”، لكن هذه الهجمات غالبًا ما تكون في شكل تفجيرات انتحارية أو عمليات على غرار الكاميكازي، وغالبًا ما تستهدف اسميًا الشرطة أو الجيش. وتتحدث أنقرة عن هذا الهجوم على أنه وقع إثر انفجار حزمة تُركت على مقعد، هجوم وقح على المدنيين.
لكن مرة أخرى، ليس من المستحيل أن يقوم بذلك حزب العمال الكردستاني، جماعة إرهابية مُروّعة قتلت عمدًا آلاف المدنيين، بمن فيهم أعضاؤها. وفي شهر أبريل، قال زعيم حزب العمال الكردستاني دوران كالكان علنًا: “سنهاجم كل مكان في تركيا. ليس فقط الأهداف العسكرية والمواقع العسكرية، ولكن المدن الكبيرة. المناطق التي لا يتوقعون أن تصبح مناطق حرب”.
من الصعب إدراك دوافع حزب العمال الكردستاني للقيام بذلك الآن، ولكن في الوقت نفسه، لم يكن حزب العمال الكردستاني بحاجة أبدًا إلى سبب لقتل المدنيين: كمنظمة إرهابية، هذا هو هدفه المركزي. الأمر يتطلب فقط أدلة أكثر مما قدمته السلطات التركية حاليًا للتأكد من أن حزب العمال هو من نفّذ الهجوم.
المرشح الواضح الآخر للمسؤولية عن هذا الهجوم هو تنظيم داعش. الجدير بالذكر أن داعش لم يعلن مسؤوليته عن الهجوم، كما يفعل عادة، بسرعة، ولكن يمكن تفسير ذلك من خلال حقيقة أنه ألقي القبض على الجاني. تقليديًا، إذا ما اعتقل جهاديو داعش الذين نفذوا هجومًا ما، فإن داعش لا يعلن مسؤوليته عن الهجوم. ومع ذلك، إذا كان الهجوم حقًا نتج عن انفجار حزمة متروكة، وليس هجومًا انتحاريًا، فمن شبه المؤكد أن داعش ليس هو الجاني.
ما زاد من الغموض فيما يتعلق بالجاني، أن وزير الداخلية التركي سليمان صويلو أصدر بيانًا غامضًا ركّز على اتهام حزب العمال الكردستاني، لكنه قال إن أنقرة لا تستطيع التيقن من أن الهجوم ليس له “علاقة” بداعش. من الواضح أن داعش لا يعمل مع حزب العمال الكردستاني، لذلك إذا تبيَّن أن داعش متورِّط، فهذا يعني أنها كانت عملية داعش وحدها.
ربما يكون بيان صويلو محاولة لإيصال رسائل استراتيجية: تحاول الحكومة التركية في بعض الأحيان ربط حزب العمال الكردستاني وداعش معًا من أجل إقناع الجماهير الغربية بأنهما جماعتان إرهابيتان لا يمكن تمييزهما، ويجب معاملتهما بالطريقة نفسها. في السياق ذاته، تفيد السلطات التركية الآن بأن الشرطة اكتشفت أن هاتفًا مسجلًا باسم مسؤول في حزب الحركة القومية المتطرف أجرى مكالمات عدة مع المرأة المشتبه في زرعها القنبلة في إسطنبول.
هناك احتمال ثالث فيما يتعلق الأمر بالجاني: إيران. تشير بعض التحليلات عن التفجير إلى أن المهاجم (المهاجمين) قد حدَّد توقيته لاستهداف حشد من السياح الإسرائيليين، الذين أصيب العديد منهم بجروح. ومعلوم أن الحرس الثوري الإيراني قد استهدف الإسرائيليين واليهود في جميع أنحاء العالم، من الأرجنتين إلى ألمانيا إلى الهند.
إضافة إلى ذلك، ينشط الحرس الثوري الإيراني في إسطنبول على وجه التحديد مؤخرًا. فعلى سبيل المثال، فككت السلطات التركية في شهر يونيو خلية تابعة للحرس الثوري الإيراني كانت تعد لهجوم إرهابي ضد إسرائيليين في اسطنبول. في الوقت الذي تواجه فيه الجمهورية الإسلامية تحديًا نتيجة لاحتجاجات الشوارع، وتؤمن قيادتها الإسلاموية بنظريات المؤامرة المعادية للسامية التي تُلقي باللوم على اليهود في كل شيء، فمن الممكن أن يُنظر إلى هجومٍ من هذا النوع على أنه شكل من أشكال “الانتقام”.
بعد أيامٍ قليلة من وقوع هجوم إرهابي، من الطبيعي أن تكون هناك الكثير من المعلومات غير المعروفة. وفي حالة هجوم إسطنبول، يزداد الأمر تعقيدًا بسبب حقيقة أن الحكومة التركية تدفع بالكثير من المعلومات التي لا يملك المراقبون طريقة حقيقية لتقييم موثوقيتها. لذا، يؤمل أن تقدم السلطات أدلة أكثر صلابة في الوقت المناسب. وفي غضون ذلك، كل ما يمكننا القيام به هو الإعراب عن التعاطف مع الضحايا، وتجديد تصميمنا على اجتثاث جميع أشكال الإرهاب وتدميرها.