د. مانويل توريس-سوريانو**
يُعد إعلانُ المسؤولية عن هجومٍ ما، لحظةً بالغة الأهمية للنشاط الإعلامي لأي تنظيم إرهابي. ففي بعضِ الأحيان لا يقود العنف الإرهابي دائمًا للنتائج التي يرغب فيها مرتكبوه، ذلك أن بعضًا من الهجمات قد يثبت أنه غير مهم أو يترك انطباعًا سلبيًا على قدرات التنظيم ومهاراته. وفي بعض الأحيان، تأتي الهجمات بنتائج عكسية؛ لأنها تستهدف ضحايا غير مقصودين وتولد رفضًا اجتماعيًا لا يتوقعه الإرهابيون، وعادة ما يظهر التضليلُ الإرهابي في مثل هذه السياقات.
“إعادة” كتابة التاريخ
لدى التنظيمات الإرهابية دوافع واضحة لتضخيم الضرر الذي تلحقه هجماتها بالخصم، حيث تجري المبالغة في تقدير عدد الضحايا، وكذلك الضرر المادي وأثره على الروح المعنوية لعدوهم. وتؤدي الفوضى التي تنتج إثر بعض الهجمات إلى صعوبةِ تمييز الحقيقة من الخيال، وهنا تكمن الفجوة المعلوماتية التي يستغلها الإرهابيون في محاولتهم صياغة تصورات الرأي العام وذاكرته بشأن الهجوم. في بعض الأحيان، لا يتم اكتشاف هذه الأكاذيب مطلقًا، وفي أحيانٍ أخرى تظهر التفاصيل الكاملة للأحداث للعلن عقب سنواتٍ لاحقة عندما يكون الجميع قد توقف عن متابعة الحدث. هذا يعني أن الإرهابيين أنفسهم هم من يصوغون في العادة تاريخ الأحداث الإرهابية بالنسبة للرأي العام. إن حياكة الأساطير حول تاريخ مجموعةٍ إرهابية نفسها أمر شائع، خاصة بالنسبة لتلك الجماعات التي تبدأ -أو تواصل- مشروعاتها الإجرامية، حيث يتم إخفاء أو تحسين ماضي هذه الجماعات، بحيث لا يتعارض مع الحاضر.
هناك طريقة شائعة أخرى تستخدمها الجماعات الجهادية لإعادة كتابة تاريخها حيث توجِّه اللومَ إلى الضحايا، فعندما ترتكب تلك الجماعات خطأً تكتيكيا متمثلًا في قتل الأشخاص الذين يعتبرون أبرياء في قاعدة الدعم الاجتماعي للجماعة الإرهابية ذاتها، تُضطر إلى إلقاء اللوم عليهم من خلال الزعم بأنهم جواسيس. يُشار إلى أن تلك الجماعات قد طوَّرت عقيدة كاملة لتقديم تبريرات دينية لقتل فئات محددة من الناس وتبرير أيضًا سقوط ضحايا بصورة “غير المقصودة”.
النفي
هناك حالات تكون فيها تداعيات الهجوم شديدة الضرر بأي جماعة إرهابية، بحيث لا تحاول الجماعة حتى إعادة تفسير الحقيقة غير المريحة لها وتختار بدلًا من ذلك عدم إعلان مسؤوليتها عن الهجوم أو نفي مشاركتها فيه. والجدير بالذكر أن الهياكل التنظيمية للجماعات الإرهابية الجهادية تساعد في عمليات النفي هذه. ذلك أن التخطيط لتنفيذ الهجمات لا يقتصر على القيادات فقط، بل تتمتع خلايا التنظيمات باستقلاليةٍ واسعة، ومن ثم يمكنها تفسير التوجيهات العامة الصادرة من القيادة “المركزية” بطرق مختلفة جدًا عما تريده القيادة. بل وفي بعض الأحيان لا تعرف القيادة مكان الهجوم وتوقيته وطريقة تنفيذه، ولا تكون قد أمرت به مطلقًا. لكن هذا بدوره يخلق مشكلةً، حيث يجعل المنظمة تبدو غير متماسكة. وبالتالي، يصبح تجاهل الهجوم أو إنكاره هو الطريق الأسلم.
في مثل هذه الظروف، ربما لا يكون مفاجئًا أن نعلم، حسبما تشير بعض التقديرات، أنه لم يتم إعلان المسؤولية سوى عن أقل من نصف الهجمات الإرهابية التي وقعت في العقود الأخيرة. وفي الغالب تنحصر الهجمات غير المنسوبة إلى أي تنظيم إرهابي في فئتين: الحوادث الدولية الأكثر فظاعة التي يسقط فيها عدد كبير من القتلى، والهجمات الأقل فاعلية فيما يتعلق بالضحايا والأضرار المادية.
نسب هجماتٍ لم تنفّذها لنفسها
يتمثل أحد الأشكال الأخرى لهذا التضليل في نسب جماعات إرهابية لهجماتٍ تُنفِّذها جهاتٌ أخرى، وكذلك إدعاء قيامها بعملياتٍ ما هي في الواقع حوادث، ولكن من قبيل حالات “القضاء والقدر”. الغرض من هذه الادعاءات هو الترويج لصورة زائفة لمدى قوتها وقدرتها على الصمود. وقد يكون هذا النوع من الكذب مفيدًا في رفع معنويات أتباع التنظيم، خاصة عندما يكونون في خضم فترة صعبة.
لا شك أن نسب هجمات نفذها آخرون يُعد استراتيجية محفوفة بالمخاطر لأن الأدلة قد تظهر بما يتناقض مع هذا الادعاء، كما حدث عندما زعم تنظيم “داعش” إطلاق النار الجماعي في أكتوبر 2017 في لاس فيجاس على يد ستيفن بادوك، أو ربما يكون لدى الجناة أنفسهم القدرة على إثبات كذب الادعاء. لكن الأمر سيكون مختلفًا تمامًا عندما يتم نسب هجومٍ ما لتنظيمٍ إرهابي بالتعاون مع الجناة الحقيقيين. من أمثلة ذلك قيام حزب العمال الكردستاني بتنفيذ هجماتٍ إرهابية عبر الحدود ضد تركيا، في حين أنه يجري تنسيقُ الهجمات من قبل الشرطة السرية لنظام الأسد.
غير أن الاستراتيجية الأقل خطورة للجماعات الإرهابية هي تصوير سلسلة من الأحداث التي لا علاقة لها بالإرهاب، كما لو أنها هي التي دبَّرتها. وعادة ما تعمل هذه الجماعات في بيئةٍ تسود فيها نظريات المؤامرة، بحيث، على سبيلِ المثال، يمكن أن يسهم إنكار السلطات الرسمية لوقوع حادث إرهابي في تصديق ادعاءات الجماعة الإرهابية.
خداع
إنَّ رادع استخدام الأكاذيب في تطوير “علامة تجارية” لجماعةٍ إرهابية هو ذاته الذي ينطبق على أي استراتيجية إعلانية عادية؛ لأنه إذا اتضح شيوع الأكاذيب في رسائل التنظيم، فسيُلحق الضررَ بسمعةِ التنظيم. غير أن الجماعات الإرهابية تتعامل مع هذه القضية بطرق مختلفة.
إحدى طرق إبعاد اللوم عن الهجوم الذي لا ترغب جماعةٌ إرهابية في الارتباط به، يتمثل في إعلان المسؤولية عنه باسم منظمة وهمية، وغالبًا ما يتم إنشاء مثل هذه المنظمة الوهمية خصيصًا للإعلان عن هجومٍ واحد أو أكثر. ولعل أبرز مثال في هذا الصدد هو استغلال منظمة التحرير الفلسطينية اسم “سبتمبر الأسود” لتعذيب أحد عشر رياضيًا إسرائيليًا وتشويهم وقتلهم في الألعاب الأولمبية، في ميونيخ في سبتمبر 1972.
الظاهرة التي برزت بشكلٍ ملحوظ في السنوات الأخيرة، مع انتشار “المنصات الإعلامية” الداعمة لداعش على الإنترنت، هي ما يمكن تسميته الادعاء القابل للإنكار. اكتسبت بعضُ هذه المنصات الإعلامية جماهير غفيرة عبر استغلال الغموض حول علاقتها بداعش. تنشر هذه المنصات الإعلامية المؤيدة لداعش مزاعم وتهديدات لا أساس لها من الصحة، وصورًا مُركبة وغيرها من الدعاية التي تتسق مع أسلوب داعش. وفي حين أن هذه الدعاية غالبًا ما تكون أقل جودة تقنية من تلك التي تنتجها وسائل إعلام داعش “الرسمية”، وغالبًا ما تكون مجرد تكرار أو دعاية لدعاية موجودة بالفعل، فإنها تقدِّم ميزتين لداعش. فهي تستقطب جمهور المتعاطفين مع داعش، الذين يقضون الوقت في إنشاء محتوى مجاني للإرهابيين، وتشكيل مجتمعات على الإنترنت، حيث تجري مشاركتها. وما زال هذا المحتوى يحظى باهتمام وسائل الإعلام الغربية، رغم إدراكها أنه ليس المحتوى “الحقيقي” لداعش، والأمر ذاته ينطبق على إعلان المسؤولية عن الهجماتِ والتهديدات؛ لأن الجميع يفهمون أن هذه الأنظمة مستوحاة من داعش على الأقل، وفي كثيرٍ من الحالات تكون هناك صلات من أنواع مختلفة. أما بالنسبة لداعش، فهذا هو أفضل ما تتمناه: يحصل التنظيم على الاهتمام، ويمكن أن يبثَّ الرعبَ والذعرَ في قلوب أعدائه. ونظرًا لأن هذه القنوات “غير رسمية”، فإن فضح خداع هذه الادعاءات والتهديدات لا يضرّ بتنظيم داعش نفسه. وباختصار، وجد داعش طريقة لتضخيم الصورة والتهديدات التي يمثلها التنظيم، وفي الوقت ذاته ظل محصنًا ضد الأضرار التي قد تلحق بسمعته جراء نشر معلومات مضللة.
الشكلُ الأخير لهذا النوع من التضليل هو أن تقوم الجماعة، بدلًا من إعلان مسؤوليتها عن هجوم لم تنفِّذه، بإلقاء اللوم على هجوم نفَّذته بالفعل على طرفٍ آخر. من أمثلةِ ذلك، تدمير مسجد النوري الكبير في الموصل في عام 2017. لقد أقدم داعش على تدمير هذا المبني الأيقونة -الذي أعلن منه أبو بكر البغدادي استعادة الخلافة في أول ظهور علني له قبل ثلاث سنوات- بغية تجنب الهزيمة الرمزية المتمثلة في رؤية داعش يُطرد من المنطقة والمسجد، ويحتلهما الجيش العراقي. ومع ذلك، لم يرغب البغدادي في تبني مسؤولية تدمير أحد أهم المساجد في العالم السني، لذلك ادَّعَى داعش أن المسجد قد دُمِّر في غارةٍ جوية أمريكية. وفي هذه الحالة، فشلت عملية التضليل: فقد التقطت طائراتٌ بدون طيار تابعة للتحالف صورًا للانفجار في الوقتِ الحقيقي، تثبت أن الانفجار جاء من داخل المبنى، وليس من خارجه كما ادَّعَى التنظيم.
* يسعى موقعُ «عين أوروبية على التطرف» إلى نشرِ وجهاتِ نظرٍ مختلفة، لكنه لا يؤيد بالضرورة الآراء التي يُعبِّر عنها الكتّابُ المساهمون، والآراء الواردة في هذا المقال تُعبِّر عن وجهةِ نظر الكاتب فقط.
**أستاذ مشارك في العلوم السياسية في جامعة بابلو دي أولافيدي في إشبيلية (إسبانيا)، مدير دبلوم في تحليل الإرهاب الجهادي وحركات التمرد والتنظيمات المتشددة في هذه الجامعة.