من الواضح أن هناك زيادة كبيرة في النشاط المتطرف العنيف في منطقة الساحل. ويحدِّد مؤشر الإرهاب العالمي لعام 2022 الزيادة بمقدار عشرة أضعاف بين عامي 2007 و2021، حيث سجلت بوركينا فاسو ومالي والنيجر 732 و572 و554 حالة وفاة في عام 2021 أكثر مما كانت عليه في عام 2007 على التوالي.
وعلاوة على ذلك، يُسلِّط مؤشر الإرهاب العالمي الضوء على أن الوفيات الناجمة عن الإرهاب في منطقة الساحل في عام 2021 شكَّلت 35% من الوفيات العالمية الناجمة عن الإرهاب مقارنة بـ 1% في عام 2007. وقد أبرزت الأشهر السبعة الأولى من عام 2022 استمرار العنف في جميع أنحاء المنطقة، في ظلِّ وقوع المزيد من الحوادث في دول غرب إفريقيا، خاصة شمال غانا وبنين وتوغو.
هناك عوامل عدة تفسّر هذه الزيادة: ضعف جيوش تلك الدول، وسوء الإدارة، وانخفاض الثقة في المؤسسات السياسية، ومحدودية فرص العمل، والتغيّرات البيئية. علاوة على ذلك، هناك العنصر المتمثل في انتشار ما يمكن تسميته “النزعة القاعدية”؛ أي أيديولوجية تنظيم القاعدة، أيديولوجية دينية تتألف من ثلاثة عناصر: التفسير المتشدد للإسلام، واعتبار الجهاد الركن السادس في الإسلام، و”العولمحلية”، أي مزج القضايا المحلية مع الأفكار العابرة للحدود الوطنية.
لقد أدّى وجود الجماعات المتطرفة العنيفة في جميع أنحاء منطقة الساحل وتحركها البطيء نحو الدول الساحلية في غرب إفريقيا إلى زرع عدم الاستقرار على نطاقٍ واسع حيث تتطلع هذه الجماعات إلى الهروب من قوات الأمن وغيرها من تدابير مكافحة الإرهاب القاسية. وبعبارةٍ أخرى، بمجرد أن تنشئ الأجهزة الأمنية موطئ قدم، ينتقل المتطرفون إلى مكان آخر، لأن الحدود يسهُل اختراقها.
ومع انتقال هذه الجماعات إلى مناطق جديدة، فإنها تجلب معها الموت والدمار والخوف. ويفسر انتشار هذه الجماعات، التي تمثل أيضًا جماعات فرعية (في شكل كتائب)، لماذا يؤكد البعض على الحاجة إلى التركيز على منطقة الساحل وغرب إفريقيا.
ومع ذلك، فمن الأهمية بمكان تجنب اتباع استراتيجية مكافحة الإرهاب نفسها التي اتبعت في العراق وسوريا وأفغانستان. في الواقع، تحتاج المنطقة إلى استجابة منهجية، استجابة تهدف إلى مواجهة انتشار أيديولوجية تنظيم القاعدة.
صعود تنظيم القاعدة في منطقة الساحل
بكل المقاييس، يبدو أن تنظيم القاعدة فقد مكانته في المشهد الإرهابي العابر للحدود الوطنية، حيث يبدو أن التنظيم قد تخلى عن تنفيذ هجماتٍ إرهابية. ومع ذلك، خلص تقرير صدر مؤخرًا عن فريق الأمم المتحدة للدعم التحليلي ومراقبة العقوبات، الذي يعتمد على معلوماتٍ استخبارية من الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، إلى أن تنظيم القاعدة “يعتزم تحقيق الاعتراف به مرة أخرى كزعيمٍ للجهاد العالمي”. وأضاف الفريق أن “دعاية تنظيم القاعدة الآن أفضل تطويرًا للتنافس مع داعش كفاعل رئيس في إلهام بيئة التهديد الدولي، وقد يصبح في نهاية المطاف مصدرًا أكبر للتهديد الموجّه”.
لعل السبب في أن بعض الباحثين يرون أن تنظيم القاعدة قد فقد أهميته هو أنه على مدى العقد الماضي، فقد التنظيم مؤسِّسه، أسامة بن لادن، وعددًا لا يحصى من الشخصيات البارزة الأخرى، بما في ذلك خليفته أيمن الظواهري، وهو ما قد يفسر سبب عدم تنفيذه لأي عمليات كبرى.
في الواقع، كثيرًا ما نوقشت أهمية الظواهري للحركة السلفية الجهادية العالمية خلال فترة زعامته للتنظيم، التي استمرت 11 عامًا. ومع ذلك، ظلّ تنظيم القاعدة والأيديولوجية التي تدعمه مصدرًا للقلق. كشف تقييم التهديد السنوي لعام 2022 أن تنظيم القاعدة “ينقل المسؤولية العملياتية على نحوٍ متزايد إلى فروعه الإقليمية، حيث يتحوّل بعيدًا عن المؤامرات الموجّهة مركزيًا”.
ولعل هذا البيان يفسِّر أسباب تحذير الدكتورة أفريل هاينز، مديرة الاستخبارات الوطنية الأمريكية، في التقييم نفسه: “لا يزال الإرهاب يمثل تهديدًا مستمرًا للأشخاص والمصالح الأمريكية في الداخل والخارج”، مضيفة أنه من المرجح أن يواصل تنظيم القاعدة السعي إلى “شن هجمات في الولايات المتحدة”.
بتجاوز التنظيم الفعلي والخطر الذي يشكِّله هو وفروعه ومؤيدوه والمتعاطفون معه، نجد انتشار أيديولوجية تنظيم القاعدة: أيديولوجية تحوّلت إلى استراتيجيةٍ قوية تدعو إلى الصبر وحتى التسوية السياسية في السعي لتحقيق هدف تحويل المجتمع الإسلامي، بعيدًا عن الطقوس الثقافية والقبلية والشعبية التوفيقية التي أصبحت تلوث الإسلام. تتطلع الاستراتيجية-الأيديولوجية لتنظيم القاعدة إلى مزج القضايا المحلية -في المقام الأول السياسات والإجراءات التي من شأنها الانخراط مع الشباب المتضررين وتحفيزهم على العمل- مع أيديولوجية القاعدة السلفية الجهادية العابرة للحدود الوطنية. وتدرك حملة التجنيد التي يشنها تنظيم القاعدة أن العديد من الشباب حانقون بسبب نقص فرص العمل وانتشار المخالفات والفساد، والوجود الأجنبي في بلدانهم.
فيما يتعلق بالاستراتيجية، يبدو أن تنظيم القاعدة يرفض التصعيد التنافسي مع داعش. ويُسلّط أبو محمد المقدسي، المُنظّر في تنظيم القاعدة، الضوءَ على ذلك عندما شدّد على الحاجة إلى هدنة بين الحركتين. وفي الوقت نفسه، أكدّ أبو قتادة أن التنظيمين ليسا بينهما خلاف أيديولوجي، بل تنظيمي.
وتشير الآراء التي شرحها المقدسي وأبو قتادة، على الأقل من وجهة نظر تنظيم القاعدة المركزي، إلى الاعتراف بمخاطر المطالبة بالنقاء العقائدي، ما يدفع البعض إلى الدعوة إلى البراجماتية وتجنب التصعيد التنافسي. لكن داعش أوضح من جانبه، من خلال مكتبه الإعلامي فيما يسميه “ولاية اليمن”، أنه لا يرغب في الدخول في هدنة وأدان تنظيم القاعدة المركزي لارتداده عن الدين.
صعود الجماعات التابعة
شجع تنظيم القاعدة المركزي تطوير فروع قوية وخطيرة. ففي شبه الجزيرة العربية والشرق الأوسط، هناك تنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية. وفي إفريقيا، هناك حركة الشباب، وتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، وجماعة نصرة الإسلام والمسلمين، وجماعة أنصار المسلمين في بلاد السودان؛ وفي جنوب آسيا، هناك تنظيم القاعدة في شبه القارة الهندية.
تقوم الجماعات المرتبطة بتنظيم القاعدة المركزي بحملاتٍ إرهابية فعَّالة – بعضها حتى ضد أهداف أمريكية مثل إطلاق النار عام 2019 على المحطة الجوية البحرية في بينساكولا بولاية فلوريدا من قبل المواطن السعودي محمد الشمراني، وبالتالي الحفاظ على استمرارية أيديولوجية القاعدة السلفية الجهادية.
ويبدو آخرون، خاصة في منطقة الساحل وشمال إفريقيا، أكثر اعتدالًا في تشددهم، حيث يتطلعون إلى كسب تعاطف السكان المحليين، وإضعاف الحكومات الوطنية، وترهيب التدخل الأجنبي وطرده، وتمهيد الطريق لأسلمة المنطقة. وبعبارةٍ أخرى، يبدو أن تنظيم القاعدة قد وجد طريقة لدمج معرفة وخبرة الحرس القديم، مع الحماس الذي يتمتع به الجيل الشاب، حيث يتطلع القادة الجدد إلى ترسيخ أنفسهم في مجالاتٍ جديدة من الجهاد.
لا تزال استراتيجية داعش غير واضحة بعض الشيء. ويشك المرء في أن التنظيم يدرك أن قدرته على إعادة إقامة الخلافة في عام 2022 في العراق وسوريا شبه مستحيلة، وهو ما يفسِّر لماذا يعتبر التنظيم أن إفريقيا هي مفتاح تمرده المعولم. تتمثل استراتيجية داعش، في أماكن مثل غرب إفريقيا والساحل، وشرق الكونغو، وشمال موزمبيق، في الانخراط في عمليات التمرد.
والقصد من ذلك هو تنفيذ هجمات الكر والفر التي تهدف إلى التسبب في عدم الاستقرار على نطاقٍ واسع، مع تذكير المجتمعات المحلية أيضًا بأن الجيش لا يستطيع حمايتها، بحيث يلجأون إلى التنظيم داعش.
جماعات ونُهج مختلفة
يبدو أن هناك ثلاثة أنواع من الجماعات الإرهابية في منطقة الساحل. هناك جماعات جهادية عابرة للحدود الوطنية لها صلات رسمية أو شبه رسمية بتنظيم القاعدة المركزي. والجماعات التي ينطبق عليها ذلك الوصف على أفضل وجه هي القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، وحركة نصرة الإسلام والمسلمين.
على الطرف الآخر، هناك جماعات لها صلات بتنظيم داعش مثل ولاية غرب إفريقيا، وداعش-ولاية الصحراء الكبرى. تتبنى هذه الجماعات نُهجًا عولمحلية تتطلع من خلالها إلى دمج القضايا المحلية، مثل المظالم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، مع أجندةٍ سلفية جهادية. في هذا الصدد، صرّح زعيم جماعة نصرة الإسلام والمسلمين، في مرحلةٍ ما، بما يلي:
“هدفنا حشد الأمة… لرفع الظلم عنها، ومحاربة المحتل الفرنسي، ومعاونيه وعملائه الذين يحتلون أرضنا… ويفسدون ديننا… وينهبون ثرواتنا… حتى يغادروا بلدنا… وتطبيق العدل والشورى، وحكم أرضنا بشريعة ربنا”.
الجدير بالذكر أن الجماعات التابعة لتنظيم داعش في غرب إفريقيا ومنطقة الساحل بايعت العراقي أبو حسن الهاشمي القريشي، الذي نصّب نفسه خليفة للدولة الإسلامية، وبذلك استفادت من التعاون السابق بين جماعات الساحل وتنظيم داعش المركزي.
وربما يأملون في أن يواصل تنظيمُ داعش المركزي إرسال مواد تعليمية ودينية، وتقديم دعم مالي لهم إذا نفذوا تمردهم الجهادي. ومع ذلك، فإن المسافة تعني أيضًا أن الفروع المحلية يمكن أن تنتقي وتختار كيفية العمل مع تنظيم داعش المركزي، ولا سيّما فيما يتعلق بالأمور الدينية، وهي أمور جامدة ومتزمتة للغاية بالنسبة لمنطقة الساحل.
ويبدو أن النوع الثاني من الجماعات أكثر تركيزًا على القضايا المحلية، ويبدو أن التزامها بالسلفية الجهادية أكثر هشاشة. وتؤطر هذه الجماعات أفعالها من خلال نموذج عرقي قومي ديني اقتصادي. وتعد جماعة أنصار الدين -جماعة سلفية جهادية في مالي جندت أعضاء من الإيفوغا (قبيلة زعيمها إياد أغ غالي)- مثالًا بارزًا على ذلك. وعلى الرغم من أن الجماعة كان لديها غالي، والعديد من الجهاديين الطوارق، فإنها بدَت أكثر تركيزًا على تحرير منطقة أزواد، وتحقيق طموحات غالي.
وفي مالي أيضًا، تُعد كتيبة ماسينا، جماعة إسلاموية متشددة تتألف أساسًا من قبائل الفولاني -قبائل بدوية تشكل إحدى أكبر الجماعات العرقية في منطقة الساحل- مثالًا آخر على ذلك. في البداية، يبدو أن ما دفع العديد من قبائل الفولاني للانضمام إلى الجماعة هو الغضب من جماعتي بامبارا ودوجون العرقيتين، اللتين شعرتا بأنهما تلقيتا معاملة تفضيلية من الحكومة.
في هذا الصدد، يكشف بنيامينسن وبوبكر با؛ باحثان سياسيان من ذوي الخبرة في القضايا المتعلقة بمالي، جاذبية هذه الجماعات من حيث إنها تقدم سردية معادية للدولة والنخبة ومؤيدة للنظام الديني وممزوجة بلغةٍ جهادية.
وتتطلع هذه الجماعات إلى استغلال الإحباط المحلي من الفساد المستمر ونقص الاستثمار. ومع ذلك، فيما يتعلق بالفولاني، يكشف لورانس كلاين، محاضر في مجال تحليل الاستخبارات، أن الجماعة ورسائلها تستهوي الجيل الشاب بسبب تدهور الظروف البيئية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية، بما في ذلك تزايد انعدام الأمن الغذائي، علاوة على ضخ المزيد من الممارسات والأفكار الإسلامية الشرق أوسطية. هذه الرسائل تلاقي هوى لدى جيل الشباب العاطل عن العمل والغاضب، الذي يشعر بالإهمال والتجاهل.
ففي الكاميرون على سبيل المثال، سعَت بوكو حرام إلى استغلال الافتقار إلى فرص العمل، حيث وعدت بتوفير فرص عمل للمرأة في وظيفة التنظيف المنزلي، لحملها على تنفيذ هجماتٍ انتحارية. وإدراكًا منها بأن نقص فرص العمل يمكن أن يكون أداة للتجنيد، استجابت الحكومة بتوزيع الآلاف من الماعز والأغنام على الشباب الكاميرونيين الذين يعيشون بالقرب من الحدود مع نيجيريا، على أمل توفير مصادر للدخل وفرص عمل. لذا، يمكن القول إن التغييرات في البيئة المحيطة، وتراجع الفرص الاجتماعية والاقتصادية، وزيادة التهميش السياسي، وتزايد التديّن النابع جزئيًا من النشاط الدعوي، كلها عوامل جذب ودفع.
ينشأ النوع الثالث من تلك الجماعات كاستجابةٍ لمواقف وأحداث محددة. فلقد ظهرت كيانات مثل جمعية دان نان أمباساغو “الواثقون في الله” -ميليشيا من شعب بامبارا العرقي في مالي- حوالي عام 2016، كقوة للدفاع عن النفس. تمثل هذه الجماعة المحددة البامبارا الذين يحملون ضغينة ضد الفولاني. وتدّعي الجمعية أنها توفر الدفاع عن النفس لشعب بامبارا.
وأكد مؤسسها، يوسف طولوب، أن رئيس الوزراء المالي السابق سوميلو بوباي مايغا دعم تشكيلها. مثال آخر على هذه الجماعات هو جماعة “(كوجلويجو)Koglweogo ” التي تعني “حماية الإقليم”، التي تنشط على نحو رئيس في بوركينا فاسو. ومن الصعب تعريف هذه الجماعات لأنها توفر الأمن للعديد من المجتمعات المحلية من اللصوص وأفراد الأمن الفاسدين. وفي مقابل الأمن الذي توفره، يكون للجماعة مطالب سياسية واجتماعية واقتصادية محددة.
إن إخفاقات الحكومة، واعتماد الحكومات المحلية على تدابير مكافحة الإرهاب الصارمة، التي أجبرت بعض الجماعات على الانتقال إلى مناطق أخرى، تسهم الآن في انتشار المشكلة السلفية الجهادية في جميع أنحاء المنطقة.
ونتيجة لذلك، انتشرت المشكلة، التي كانت اعتبارًا من عام 2012 في شمال مالي بشكلٍ رئيس، عبر العديد من بلدان الساحل.
استراتيجية منقحة
كان هناك افتراضٌ عام بأن الجماعات السلفية الجهادية تريد التخلص من الوضع الراهن، وإقامة أنظمة الحكم الخاصة بها، ما يؤدي إلى ظهور دول جهادية في طور التكوين. ومع ذلك، شهدت المنطقة بالفعل مثل هذه الحالة، مع إمارة أزواد الإسلامية، التي استمرت حوالي تسعة أشهر.
وبالنظر إلى الاستراتيجية الحالية لجماعاتٍ مثل حركة نصرة الإسلام والمسلمين، يبدو من الأرجح أن هذه الجماعات تتطلع إلى تبني نموذج مختلف، نموذج يستند إلى تمرد طالبان في أفغانستان. ففي أكتوبر 2020، أصدرت المجموعة بيانًا دعت فيه الفرنسيين إلى الانسحاب من مالي، “تمامًا كما غادر الأمريكيون أفغانستان”.
تستمد جماعة نصرة الإسلام والمسلمين نفوذها من استراتيجية القاعدة الجديدة التي تدعو إلى توطين تنظيم أيديولوجية القاعدة، أي دمج القضايا المحلية مع الأهداف السلفية الجهادية العالمية. وهكذا، في أوائل عام 2020، ربما بسبب تزايد انعدام الأمن، أبدى الرئيس المالي إبراهيم بوبكر كيتا استعداده للتحاور مع المتمردين.
ومع ذلك، فلم يتمكن من تطوير المبادرة حيث أطيح به من قبل الجيش. ومن بين الجماعات الإرهابية العاملة في مالي، تبدو حركة نصرة الإسلام والمسلمين أكثر انفتاحًا على التفاوض مع الحكومة، لأنها تدرك أن الحكومة في باماكو تواجه إدانة وعقوباتٍ إقليمية ودولية في أعقاب انقلابي 18 أغسطس 2020 و24 مايو 2021.
ومع ذلك، يشير تصاعد العنف في جميع أنحاء منطقة الساحل إلى أن جماعة نصرة الإسلام والمسلمين وغيرها من الجماعات السلفية الجهادية في منطقة الساحل قد بالغت في استخدام قوتها، حيث أدّت حملاتها المفرطة في القوة، إلى جانب زيادة اللصوصية، إلى تقويض السلام والأمن المحليين. أدّى تزايد انعدام الأمن في حالة مالي، إلى حدوث انقلاباتٍ عدة، قادت بدورها إلى فرض عقوبات واستياء عام. العلاقات المتوترة بين باماكو وباريس، إلى جانب حملة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لولاية رئاسية ثانية، تعني أن الماليين لم يعودوا قادرين على الاعتماد على فرنسا، وبالتالي أوروبا، للحصول على الدعم، حيث يدرك كلاهما أن قدرتهما على هزيمة التمرد محدودة.
هذا الوضع ترك الماليين والاتحاد الإفريقي دون خيار سوى التوصل إلى حلٍّ بمفردهم. وقد تواصل الجيش، الذي رفض التخلي عن السلطة، في ظل غياب الأسلحة أو الدعم، مع كيانات مثل مجموعة فاغنر لمساعدته في مواجهة التمرد السلفي الجهادي على أمل أن يتم العفو عن أولئك الذين ارتكبوا الانقلاب من خلال هزيمة المتمردين.
ومع ذلك، فإن كياناتٍ مثل مجموعة فاغنر قاسية للغاية، وقد واجهت مزاعم بارتكاب انتهاكاتٍ جسيمة لحقوق الإنسان، الأمر الذي يصب في مصلحة السلفيين الجهاديين لأنهم يؤكدون أن الحكومة لا يمكنها توفير الأمن للسكان، وهو ما تسعى الجماعات إلى توفيره في المناطق التي تسيطر عليها. ثانيًا، يُظهر السلفيون الجهاديون أن الحكومة رهينة للأجانب الذين ارتكبوا فظائع ضد الماليين.
وقد تبنى السلفيون الجهاديون في منطقة الساحل استراتيجية مرنة تعتمد على استراتيجية القاعدة العولمحلية، التي تدعو الجماعات المحلية إلى تقييم الظروف على الأرض، وربطها بالقضايا العابرة للحدود الوطنية. وتدرك هذه الجماعات أن الجيوش المحلية لا تستطيع هزيمتها لأنها، إذا لزم الأمر، تتراجع إلى الأدغال، وتجمع الموارد، وتعيد شن حملاتها.
وتركز حملاتهم -حاليًا- على اجتذاب أعضاء جدد، وكسب تأييد الناس، من خلال الدعم القضائي، وتوفير الأمن الأساسي. ولا يبدو أنهم مهتمون بالاحتفاظ بالأراضي، كما فعلوا في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. لذلك، فإنهم يتطلعون إلى استيعاب المقاتلين في المجموعات الرئيسة.
وتقدم حركة نصرة الإسلام والمسلمين مثالًا جيدًا على هذه الاستراتيجية، حيث استوعبت أعضاء جماعتي “أنصار الدين” و”المرابطون”. وفي نيجيريا، بمجرد وفاة أبو بكر شيكاو، زعيم جماعة “أهل السنة للدعوة والجهاد” (التابعة لتنظيم بوكو حرام)، استوعب “داعش- ولاية غرب إفريقيا” مقاتلي الجماعة.
ولا تمنع هذه الاستراتيجية المنتسبين إلى تنظيم داعش والجماعات التابعة لتنظيم القاعدة من محاربة بعضهم بعضًا، ولكن نظرًا لأن المنطقة شاسعة جدًا، فإنهم قادرون على الانتقال إلى منطقةٍ مختلفة وشن حملات ضد القوات الحكومية والعسكرية، بهدف نشر حالة انعدام الأمن، الأمر الذي يؤدي بدوره إلى انضمام السكان المحليين إلى صفوفهم، حتى لو كان ذلك من أجل التمتع بقدر من الأمن فقط.
التطورات في نيجيريا
التطور الآخر المثير للاهتمام في المنطقة هو الأزمة التي تتكشّف ملامحها في شمال شرق نيجيريا، بما في ذلك في ولاية بورنو. وقد أدّى وجود مزيج من قطاع الطرق (المجرمين) والجماعات الإرهابية (معظمهم من ولاية غرب إفريقيا التابعة لداعش، التي كان مقاتلوها مسؤولين عن مقتل أبو بكر شيكاو)، إلى شلِّ المنطقة برمتها.
الهجمات المتواصلة، بما في ذلك الهجوم على خط قطار أبوجا-كادونا، الذي يبلغ طوله 190 كيلومترًا، تُذكِّر النيجيريين -وكثيرين في جميع أنحاء المنطقة الذين يتطلعون إلى نيجيريا- بمدى ضآلة التواجد الأمني، ما يشجعهم على التفكير في إقامة علاقات مع قُطّاع الطرق أو الجماعات الإرهابية لحمايتهم. وتقوم قوات الأمن بدورياتٍ في المناطق، وتشتبك مع المتمردين، لكنهم عمومًا لا يعيشون بين المجتمعات المحلية، ما يعني أنه بمجرد مغادرتهم المنطقة، يجب على المجتمع المحلي أن يدافع عن نفسه.
من جانبها، ردت الحكومة بإعلان قُطّاع الطرق “إرهابيين”، وبدأت في شن حملة عسكرية كبيرة لاستعادة السلام والأمن في الوقت الذي تستعد فيه نيجيريا لإجراء انتخاباتٍ أخرى. يبدو أن الجيش مصمم مرة أخرى على هزيمة المتمردين من خلال حملة عسكرية قاسية ودموية. ومع ذلك، وكما كان الحال مع الحملات السابقة، فإن قدرة الجيش على إنهاء التمرد بشكلٍ دائم أمر غير مرجح لأسبابٍ ثقافية وتاريخية واجتماعية واقتصادية تدفع أولئك المُعدمين للانضمام إلى هذه الكيانات.
الخلاصة
من غير المرجَّح أن تكون هناك احتمالات لتعزيز التدخل الأوروبي أو الأمريكي في منطقة الساحل وغرب إفريقيا في المستقبل القريب، ما يمنح هذه الجماعات مساحةً لالتقاط الأنفاس لترسيخ المكاسب التي حققتها على مدى السنوات القليلة الماضية وتعزيزها.
والواقع هو أن “أمننة” الهجرة غير النظامية في أوروبا يفاقم حالة عدم الاستقرار، لأن الجهات الفاعلة المحلية لن توقف تدفق المهاجرين غير الشرعيين إلا إذا حصلت على مقابل لذلك. وهذا يجعل المجتمعات المحلية تعتمد على السخاء الأوروبي في مواجهة هجرة الناس، بدلًا من تطوير اقتصاداتها المحلية.
إذا كان المجتمع الدولي جادًا في وقف تدفق المهاجرين غير الشرعيين، ومعالجة التهديد المتنامي للسلفية الجهادية، فإنه يحتاج إلى معالجة المشكلات الجذرية في منطقة الساحل. وينبغي أن يبدأ هذا بفهم أن الحدود في المنطقة مُختلقة إلى حد كبير، أُنشئت منذ أكثر من قرن في أوروبا، ولا تعكس الحقائق على الأرض.
هذه الحدود التي يسهُل اختراقها تُمكِّن المجرمين من العمل في مجال التهريب، حيث تختلف التعريفات الجمركية في جميع أنحاء المنطقة. ولا يوجد سوى 14 موقعًا على طول حدود مالي البالغ طولها 7,561 كيلومترًا، 23 مركزًا حدوديًا على طول حدود النيجر التي يبلغ طولها 5,688 كيلومترًا، 16 منها تقع على طول الحدود التي يبلغ طولها 2,000 كيلومتر التي تشترك فيها النيجر مع نيجيريا. ولدى بوركينا فاسو 3,611 كيلومترًا من الحدود و21 مركزًا حدوديًا، مع وجود أدلة على أن أولئك الذين يعملون في هذه المراكز يستخدمون سلطتهم لفرض ضرائب على التجار، وبالتالي تشجيع المعابر غير الرسمية والتجارة التي تتم في المناطق التي يسيطر عليها قُطّاع الطرق والإرهابيون.
بناءً على ما سبق، يجب إجراء حوار جاد حول الأنظمة السياسية في دول الساحل. الديمقراطية نظام جدير بالثناء، ولكن عندما يكون هناك انفصال بين المركز والأطراف، وفقر مدقع جماعي، وأمية، وتمييز عرقي على نطاقٍ واسع، فإن مجرد التصويت لحزب سياسي أو زعيم سياسي لا يمكن أن يحل القضية. وهذا هو السبب في أن هوس الغرب بنظام سياسي لا يمثل، بكل المقاييس، غالبية السكان، أمر لا طائل منه.
ثالثًا، هناك حاجة ماسّة إلى المشاركة في مشروعات إنمائية تسهم في تمكين المجتمعات المحلية. وفي مناطق مثل الساحل، يجب الأخذ في الاعتبار الأهمية البالغة للعوامل المحلية والتغيرات البيئية، حيث تشهد المنطقة تراجع مصادر المياه وارتفاع درجات الحرارة.
* يسعى موقعُ «عين أوروبية على التطرف» إلى نشرِ وجهاتِ نظرٍ مختلفة، لكنه لا يؤيد بالضرورة الآراء التي يُعبِّر عنها الكتّابُ المساهمون، والآراء الواردة في هذا المقال تُعبِّر عن وجهةِ نظر الكاتب فقط.