إسحاق كفير*
من غيرِ المرجَّح أن تحوّل النسخةُ الثانية من حركة طالبان -“طالبان 2.0”- أفغانستانَ إلى بؤرة للجماعات الإرهابية العابرةِ للحدود الوطنية والإقليمية؛ لأن القيادة الحالية تدرك أخطاءَ الماضي. لقد ظهرت الأدلة على دهائها السياسي قبل عقد تقريبًا مع إنشاء مكتبٍ سياسي في الدوحة. وقد سمح لهم هذا الحضور بالحصول على هالة من الاحترام.
وأظهر قادة الحركة في الدوحة براعة في طريقة تفاوضهم مع إدارة ترامب، ونجحوا في إطلاق سراح 5,000 عضو، بمن فيهم الملا عبد الغني برادار، أحد مؤسسي طالبان، مقابل تنازلاتٍ ضئيلة أو معدومة. وتوجّت هذه الارتباطات الاستراتيجية باجتماعٍ مع وزير الخارجية الصيني وانغ يي، الأمر الذي يبرز الدهاء السياسي لحركة طالبان 2.0.
لا يوجد دليل على أن طالبان قد تخلّت عن التزامها بإقامة دولة إسلامية، كل ما في الأمر أنها تتبنى طريقة عملٍ مختلفةً لتحقيق هدفها. ولهذا السبب من المفيد العودة إلى فكر عبد الله عزام، الذي يعتبر “عميد” الإسلام السياسي الثوري. الجدير بالذكر أن عزام حرّض ونظّم ودرّب وأرسل عددًا لا يحصى من المجاهدين العرب للقتال ضد الاحتلال السوفييتي لأفغانستان في فترة الثمانينيات. لقد كان مفكرًا استراتيجيًا لامعًا، وكان لديه فهم عميق للحرب الثورية، استنادًا إلى خبرته في فلسطين، ما دفعه إلى تطويع أفكار منظري الإخوان المسلمين المصريين؛ مثل سيد قطب، ومحمد عبد السلام فرج، وغيرهما، بما يتناسب مع دعوته إلى الجهاد الثوري.
إحدى المكونات المهمة في استراتيجية عزام هي الدعوة إلى اتباع نهجٍ ذي شقين لتحقيق ثورة إسلاموية ناجحة. حدد عزام المسارات الأساسية والثانوية التي من شأنها أن تسهل ببطء توسيع “دار الإسلام”. وقال إن الجهاديين يجب أن يركزوا على تحرير الأراضي الإسلامية، والتصدي “للعدو القريب” وليس “العدو البعيد“. دعت استراتيجيته الجهاديين إلى تركيز الاهتمام على هدفٍ أساسي واحد- بلد مسلم واحد- ضلَّ طريقه. وفي حين يمكن أن تكون هناك أهداف ثانوية، فإنه يجب على الحركة الجهادية الثورية أن تركز على المسار الأساسي.
من خلال توجيه الاهتمام كله إلى الهدف الرئيس، سيفوز الجهاديون هناك ويقيمون قاعدة، بدلًا من التعامل مع كل مكان على أنه أساسي، الأمر الذي يهدر الموارد ويؤدي إلى المنافسة. كان يرى عزام أنه بمجرد تأمين المنطقة، يصبح المسار الثانوي هو المسار الأساسي، وهكذا. ومن خلال هذه الآلية، يتمكن الجهاديون من تأمين المزيد من الأراضي، وفي الوقت ذاته يعززون سيطرتهم على تلك التي استولوا عليها بالفعل. ومن المرجح أن تعود طالبان إلى استراتيجية عزام الأساسية المتمثلة في تأمين قاعدة عمليات، قبل تحويل الانتباه إلى الدول المجاورة لها.
السؤال المهم الآن هو ما هي الدولة التي من المرجح أن تكون الهدف الرئيس التالي؟
من غير المرجح أن تشهد إيران وباكستان تدخلًا من قبل طالبان. ذلك أن باكستان تُعتبر قاعدة لقيادات طالبان الأفغانية منذ طردها في عام 2001، كما أن إيران سعَت إلى انفراجةٍ سياسية مع طالبان، حيث يدرك كلاهما أن لديهما أعداء مماثلين؛ أي الولايات المتحدة وتنظيم داعش. وبالتالي، فإن البلدين الأكثر احتمالًا أن يساورهما القلق من عودة طالبان هما طاجيكستان وأوزبكستان، على الرغم من أن دول آسيا الوسطى الأخرى -تركمانستان وكازاخستان وقرغيزستان- لا يمكن اعتبارها آمنة من طالبان. ومع ذلك، واجهت طاجيكستان وأوزبكستان سنوات من حركات التمرد الإسلاموية، ولديهما كيانات إسلاموية داخل حدودهما، تبحثان عن سبل للإطاحة بالنظام.
الجدير بالذكر، أن طاجيكستان تشترك في حدود طولها 1,200 كيلومتر مع أفغانستان، حيث يعيش العديد من الطاجيك في ولايات بدخشان وتخار وقندوز وبلخ. في أواخر الثمانينيات، حارب الطاجيك مع المجاهدين الأفغان ضد الاحتلال السوفييتي، ما أدى إلى ظهور “حزب النهضة الإسلامية”. وقد سعى الرئيس إمام علي رحمانوف إلى تدمير الحزب ما تسبب في اندلاع حرب أهلية دموية في الفترة بين عامي 1992 و1997. وهناك نقاط ضعف محددة بالنسبة لطاجيكستان.
أولًا، سعى رحمانوف إلى إدارة طاجيكستان كدولة علمانية. وكان قد أمضى سنواتٍ في دعم حكومة كابول المدعومة من الولايات المتحدة التي سقطت في 15 أغسطس. ولا شك أن وجود إمارات إسلامية على أعتاب طاجيكستان يعُرّض نظامه لتهديدٍ وجودي. وباعتباره ديكتاتورًا وحشيًا، يعرف أن هناك العديد من الإسلامويين داخل بلاده، من المرجح أن يلجأ رحمانوف إلى الأساليب التي يستخدمها معظم الطغاة؛ أي القوة الغاشمة ضد المعارضين، التي قد تؤدي إلى نتائج عكسية وتسهم في تمكين المعارضة وتطرفها.
ثانيًا، تدرك حركة طالبان أهمية طاجيكستان لتجارة الأفيون. ومن المرجح أن يشجعهم هذا على دعم استمرار التجارة؛ لأنهم يعرفون أنها تخلق حالة من عدم الاستقرار في طاجيكستان، وهذه اللعبة على المدى الطويل تعني أن عدم الاستقرار يقوّض رحمانوف، ويمكّن خصومه الإسلامويين الذين سيستخدمون تجارة المخدرات كمثال على الفساد والانحدار.
ثالثًا، هناك تاريخ من العداوة المريرة بين الطاجيك والأفغان وطالبان. تجدر الإشارة إلى أن أحمد شاه مسعود، أحد المجاهدين الأسطوريين قد اغتاله تنظيم القاعدة، ربما بناء على تعليمات من طالبان، قبل يومين من 11 سبتمبر. وقد يعني ذلك أن حركة طالبان ستدعم تحرك مجموعات كبيرة من الطاجيك-الأفغان للعودة إلى طاجيكستان؛ لأن تدفق عدد كبير من اللاجئين من شأنه أن يزيد من زعزعة استقرار طاجيكستان.
الدولة الرئيسة الأخرى الذي قد تتطلع طالبان إلى التوسع فيها هي أوزبكستان. لقد أصبحت الحكومة في طشقند هشة، بعدما انخرطت في حرب مع الحركة الإسلامية في أوزبكستان لسنواتٍ. وقد أيّد الرئيس شافكات ميرزيوييف التوصل إلى حلٍّ سياسي للصراع المستمر في أفغانستان؛ لأنه يريد الاستقرار على حدوده. وقد قدمت حكومته مبادراتٍ لطالبان، معترفة بأن أوزبكستان تفضل في نهاية المطاف أن تكون طالبان على الحدود، وليس تنظيم داعش. (داعش لا ينشط في أفغانستان فقط، بل في طاجيكستان أيضًا).
ومن خلال محاولة التوسط بين طالبان وحكومة أشرف غنِي، كان ميرزيوييف يتحوط ضد ما قد يحدث في المستقبل. كان هذا الأمر محفوفًا بالمخاطر دائمًا: حيث اجتمع كبار المسؤولين الحكوميين مع كبار قادة طالبان، وقد حذر أندرو وايلدر؛ نائب رئيس برامج آسيا في المعهد الأمريكي للسلام، من أن مثل هذه المحادثات تساعد على إضفاء الشرعية على طالبان. والآن يتعين على ميرزيوييف التعامل مع طالبان التي تسيطر على الدولة المجاورة بالكامل.
النسخة الثانية من طالبان قوة خطيرة، ذلك أن الحركة لم تمض العشرين عامًا الماضية في تحسين قدراتها العسكرية فحسب، بل في مجال العلاقات الدولية أيضًا. ولا يوجد دليل على أن أيديولوجيتها قد تغيَّرت؛ فكبار قادتها هم الأشخاص أنفسهم بالضبط. إنهم يعرفون أن حكم دولة ما أصعب من السيطرة عليها. لقد عاصر برادار ما حدث في فترة التسعينيات، ورأى كيف أن نقص التمويل يقوّض النظام الإسلامي إلى حد كبير.
إضافة إلى ذلك، فهم يعرفون، من خلال التجربة الأمريكية في العراق، وتحديدًا مع اجتثاث حزب البعث، أن تطهير التكنوقراط من شأنه أن يعوق قدرتهم على الحكم. ويعرفون أن نظام “حكم الرفاق” لا يمكن استخدامه لحكم دولة حديثة. ولهذا السبب سعوا إلى التواصل مع موظفي الخدمة المدنية الأفغان، وعرضوا عليهم العفو، وأكدوا لهم أنهم لن ينتقموا من أولئك الذين عملوا مع الأمريكيين والحكومة السابقة.
وأخيرًا، تدرك طالبان أن الغرب ليس لديه شهية لأي تدخل إذا ما أتبعت الحركة نهجًا بطيئًا وثابتًا لتحقيق أجندتها لإقامة دولة إسلامية في أفغانستان. وهذا يعني أيضًا أنها إذا تحركت سرًا وليس علنًا يمكنها تصدير نسختها من الإسلام السياسي، وسوف يسمح لها العالم بذلك.
*عضو المجلس الاستشاري، المعهد الدولي للعدالة وسيادة القانون، وأستاذ مساعد في جامعة تشارلز ستورت.