ربما سافر 5,000 أوروبي للانضمام إلى تنظيم “داعش” في سوريا والعراق، ليس فقط كمقاتلين في جماعةٍ إرهابية ولكن كجزء من مشروع بناء دولة “الخلافة”، الذي انهار في أوائل عام 2019. وقد قتل عدد كبير من هؤلاء الأشخاص، واختبأ آخرون في انتظار إحياء التنظيم، ويوجد المئات منهم على الأقل في مخيمات شكلية، فهي أقرب إلى بلدات صغيرة، لكنها ضيقة ومنفلتة أمنيًا في هذه المرحلة في شمال سوريا، في المنطقة التي تسيطر عليها “قوات سوريا الديمقراطية” بدعم من التحالف.
في الآونة الأخيرة، احتدم الجدل العام في أوروبا حول ما ينبغي القيام به في هذه الظروف، والحلول الحاسمة قليلة من جانب الدول والأفراد، حيث يتم البحث عن تحقيق التوازن بين القانون والأخلاق والأمن. ولتسليط الضوء على كيفية النظر في هذه الموازنات بشكل أفضل، استضاف موقع عين أوروبية على التطرف، في ندوةٍ افتراضية، خبيرين في مجال الدراسات الإرهابية والتطرف لاستطلاع رأيهما؛ وهما:
فرانشيسكو مارون: باحث في مجال الإرهاب والتطرف، وباحث في المركز الدولي لمكافحة الإرهاب في لاهاي (ICCT) وفي المعهد الإيطالي للدراسات السياسية الدولية (ISPI) في ميلانو. وقد كتب مؤخرًا مقالًا لموقع عين أوروبية على التطرف عن كيفية تعامل الحكومات الغربية مع إعادة مواطنيها الذين انضموا إلى داعش.
ليام دافي: استشاري، يتخذ من لندن مقرًا له، ويعمل حاليًا مستشارًا لمشروع مكافحة التطرف (CEP). وتناول أحدث تقريرًا له موضوع الإبادة الجماعية التي قام بها تنظيم داعش ضد الأقلية الإيزيدية، لا سيما دور المقاتلين الأجانب الغربيين.
القلق الأوروبي من عودة المقاتلين
بدأ الدكتور مارون بالإشارة إلى أن جميع الدول الأوروبية تقريبًا “ليست نشطة جدًا، على أقل تقدير”، في إعادة مواطنيها. وعلى الرغم من الضغوط القانونية والسياسية، لا تزال هذه الدول مترددة لأربعة أسباب (متداخلة إلى حد ما):
أولًا، القضايا القانونية. القدرة على الملاحقة القضائية للمقاتلين الإرهابيين الأجانب العائدين متفاوتة إلى حد كبير بين الدول الأوروبية. ففي إيطاليا، على سبيل المثال، من غير القانوني الانضمام إلى جماعة مسلحة أجنبية، وإن كانت الأحكام التي تصدر بالسجن في هذا الصدد قصيرة جدًا. وفي دولٍ أخرى، يُشترط أن يثبت أن الفرد قد ارتكب أعمالاً إجرامية أثناء وجوده في سوريا أو العراق كجزء من داعش. وعلى الجانب الآخر، فإن قوات سوريا الديمقراطية طرف فاعل من غير الدول، ويفتقر إلى السيادة والاعتراف الدبلوماسي، لذا ليس لديها أي شرعية لمحاكمة هؤلاء الرجال والنساء.
ثانيًا، المخاطر السياسية الداخلية. لا تحظى الإعادة إلى الوطن بشعبية بين الجماهير الأوروبية. النرويج حالة كلاسيكية: ففي هذه الدولة الأكثر ليبرالية، انهارت الحكومة قبل عام بسبب إعادة عائلة واحدة إلى الوطن.
ثالثًا، التكاليف الاقتصادية. يرتبط ذلك كثيرًا بالمقاومة السياسية للعودة إلى الوطن، وهناك اعتراض على إنفاق الأموال على الجهود واللوجستيات لإعادة المواطنين الذين انضموا إلى جماعة إرهابية شنت حربًا ضد بلدانهم. وهذه التكلفة الأولية تتصاعد بعد أن يتم جلب هؤلاء الأشخاص إلى ديارهم: في أحسن الأحوال يتطلب الأمر إدخالهم السجن، وإخضاعهم لنوعٍ ما من عمليات إعادة تأهيل المتطرفين، وإعادة إدماجهم؛ وفي أسوأ الأحوال، لن تكون هناك أسباب قانونية لسجنهم، وبالتالي سيحتاجون إلى مراقبة 24/7، وهذا أمر مكلف للغاية.
وأخيرًا، والأهم من ذلك، المخاوف الأمنية. تكمن المخاوف الأمنية وراء معظم المخاوف السياسية والاقتصادية؛ الاعتراض على إنفاق المال لجلب هؤلاء الناس إلى ديارهم يتأتى من أنه بمجرد أن يكونوا في الوطن فإنهم سيشكلون خطرًا على المجتمع. كما أن عدم موثوقية برامج إعادة تأهيل المتطرفين يشكل جزءًا كبيرًا من هذا، فعلى الرغم من أنه يجب تطبيق برامج مكافحة التطرف العنيف، ولكنها “ليست أداة مثالية”؛ ومن ثم يجب أن يكون هناك تقدير واقعي لما يمكن وما لا يمكن القيام به، خاصة بعد العديد من القضايا البارزة، في بريطانيا على وجه الخصوص، للجهاديين الذين يتظاهرون بأنهم غير مُتطرفين، ثم يرتكبون المزيد من الأعمال الإرهابية.
وينبغي ملاحظة أن العائدين ليسوا جميعًا خطرين في حد ذاتهم بمعنى أنهم سيواصلون تنفيذ هجمات إرهابية، وهذا ينسحب بشكل خاص على النساء، كما يقول مارون. ولكن هذا لا يعني أنهم لا يشكلون تحديًا: إذ يمكن أن يسهموا في تطرف الآخرين، على سبيل المثال، أو يقدموا دعمًا لوجستيًا لهجمات إرهابية.
ولذلك، فإن العودة إلى الوطن تنطوي على مشكلات كبيرة، من الناحية الموضوعية والسياسية. ومن حيث الحلول، لا يوجد حل شامل، حسبما يقول مارون. أي حلول ستكون جزئية. وفي هذا الصدد، تقدم إيطاليا دراسة حالة، لكنها واحدة من أسهل الحالات: فهي تملك أدوات قانونية قوية، وقضية العائدين (على أي حال) لم تصبح قضية سياسية كبرى، وبالتالي لم تنشأ اعتراضات اقتصادية، والمقاومة السياسية أقل لأن الجهاديين يميلون، لأسبابٍ تاريخية متنوعة، إلى عدم تهديد إيطاليا محليًا. وبطبيعة الحال، هذا الوضع لا ينطبق على أماكن أخرى، لأن كل دولة رهينة ظروفها المحلية.
ضرورة العودة إلى السياق التاريخي
بدأ ليام دافي من حيث توقف مارون من خلال الإشارة إلى أنه “لا توجد حلول سهلة، وإذا أدركنا جميعًا ذلك يمكننا عندئذ إجراء مناقشة أكثر إيجابية”. وبما أن مارون تناول الكثير فيما يتعلق بـ “الالتزامات”، قال دافي إنه يريد التركيز على “الذاكرة”.
كان دافي يعمل في استراتيجية “منع التطرف” في بريطانيا لعدة أشهر عندما أعلن داعش “خلافته” في عام 2014، إعلان أثار موجة عارمة من المشكلات للمتخصصين في الأمن، ومكافحة التطرف العنيف، في الوقت الذي حاول فيه عدد غفير من الناس مغادرة الدولة للانضمام إلى هذا المشروع. في خضم صعوبات تلك اللحظة، ثارت العديد من القضايا التي أحاطت بالوضع، وانتشرت أفكار وقتها ولا تزال رائجة لدرجة أنها أصبحت مبتذلة في النقاش السياسي ووسائل الإعلام حتى الآن.
تجدر الإشارة إلى أن حجم تدفق المقاتلين الأجانب إلى داعش في الفترة التي سبقت إعلان “الخلافة” وبعدها في عام 2014 كان غير مسبوق، لكن ظاهرة سفر المسلمين السنة من أوروبا للانضمام إلى الجماعات المتطرفة في مناطق النزاع لم تكن جديدة: هذه الظاهرة تعود إلى الحرب ضد السوفييت في أفغانستان، مرورًا بالبوسنة والشيشان في فترة التسعينيات، والعراق في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. باختصار، يقول دافي إن الكثير من النقاش -الرسمي والشعبي- “بالغ في إضفاء الطابع الفردي” على الظاهرة وانتزعتها من سياقها التاريخي، متجاهلًا ثلاثين عامًا من السوابق والدروس المستفادة من الصراعات الإسلاموية في الخارج.
يشير دافي إلى أنه في ذروة أزمة داعش، بدأ في الانتشار ما يصفها بـ “اللغة العلاجية والطبية” الشبيهة بتوصيف المرض، حيث كان الناس “معرضين لخطر التطرف”. وصنفت القضية برمتها في اللغة القانونية الحديثة من حيث “السلامة” و”قابلية التأثر”، مع الرسائل المضادة التي تتخذ شكل منشورات قد تجدها في مكتب الطبيب تحذر من أن هذا الشيء المسمى “التطرف” يمكن القبض عليه. وقد عزز ذلك الإفراط في إضفاء الطابع الفردي على جانب، والتصرف وكأنه لا توجد بيانات متاحة عن كيفية نمو الحركات المتطرفة، ومن ناحيةٍ أخرى في رفع قدرة هؤلاء الأشخاص: فهم لم يعودوا إرهابيين اختاروا قضية كانوا على استعداد للقتل والموت من أجلها، بل أشخاص أصيبوا بـ “التطرف”، وكأن قوة شريرة خارجة عن إرادتهم استحوذت على عقولهم.
وفي أعقاب ذلك، تجنبت بعض الدول، مثل بريطانيا، العمل الشاق المتمثل في التذكّر، والتنقيب عما حدث، والوصول إلى السجل التاريخي حتى يمكن الاستفادة منه في المرة القادمة. وقد كان أداء دول أخرى، أبرزها فرنسا وبلجيكا، أفضل كثيرًا، وحمل القطاع العام والخاص، لا سيما الحقل الأكاديمي، على العمل معًا في هذه القضية. ويقول دافي إن تردد بريطانيا ليس مفاجأة حقًا لأن البيانات المتكشفة تشكل إدانة من حيث كيفية انعكاسها على الافتراضات التي تستند إليها الشرطة البريطانية والخطاب البريطاني حول هذه القضية.
ويشير دافي إلى أن إحدى النتائج الرئيسة للبيانات كان عبارة عن تصنيف في شكل “مجموعات جغرافية هائلة” وحقيقة أن المقاتلين الأجانب الجهاديين يأتون من مجموعات جغرافية، تقوّض بشدة فكرة أن التجنيد ظاهرة على الإنترنت في المقام الأول، حيث يقول دافي: لو كان الأمر كذلك، لأظهرت أصول المجندين نمطًا متفاوتًا.
وهنا يأتي الجهل بالسياق التاريخي: ففي أماكن مثل تولوز ونيس في فرنسا، التي تعتبر نقاط تجنيد رئيسة لداعش في ذلك الوقت، وضع الأساس قبل عشر سنوات من قبل الجهاديين الذين ينشئون شبكات لإرسال متطوعين إلى التنظيم الذي سبق ظهور داعش في العراق. يمكن رؤية أن هذه البنية الاجتماعية هي المتغير الرئيس من خلال الحالة المعاكسة لمدينة مثل مرسيليا: حيث يوجد عدد كبير جدًا من السكان المسلمين، والجريمة الخطيرة والحرمان، ولا تقل العنصرية أو الوصول إلى الإنترنت عن بقية الدولة- كل العوامل التي قدمها مختلف العلماء كأسبابٍ جذرية في الأماكن الأخرى، ومع ذلك انضم أقل من نصف دزينة من الأشخاص من مرسيليا إلى داعش.
وفي حين أن شبكات التسهيلات التابعة لداعش قد اعتمدت على البنية التحتية لحشد المقاتلين الأجانب، منذ عقد من الزمن وأكثر، فإنه يجب الاعتراف بأن تلك الشبكات الأصلية التي مكّنت من ممارسة العنف لم تصبح ممكنة إلا بعد فترة من “الإقناع والاستمالة” التي قامت بها الجماعات المرتبطة بجماعة الإخوان المسلمين والسلفيين، التي عملت لسنواتٍ عديدة على توفير “المناخ الإيديولوجي” للجماعات المتطرفة العنيفة لتتجذر في هذه الأحياء.
ويختتم دافي بالقول إن الإعادة إلى الوطن أمرٌ لا مفر منه، ولكن تحويل وسائل الإعلام لأفراد مثل شميما بيجوم إلى شخصية مشهورة أمر عليه تحفظات، ويختتم دافي بقوله: “يمكننا القيام بذلك بدراسات وتفسيرات أقل سطحية، والأهم من ذلك هو استعادة السياق التاريخي: “لم يكن الأشخاص الذين انضموا إلى داعش هم الضحايا، بل الأشخاص الذين عاشوا تحت حكم داعش”.
تحديات متشابكة في مجال عودة المقاتلين
أشار مارون إلى أنه من منظور الأمن ومكافحة الإرهاب، فإن المخاوف التي تساور الرأي العام أن الأحكام التي تقع على العائدين غالبًا ما تكون قصيرة جدًا بالنسبة لأولئك الذين أعيدوا إلى الوطن، ولا تكفي لا كرادع ولا لإعطاء الدولة وقتًا كافيًا لإصلاح السجين. لكن لهذا الحديث وجه آخر فإن الأمر أكثر تعقيدًا، كما يلاحظ مارون، أن الأحكام الأطول تثير على الفور مشكلة طويلة الأمد، بالنسبة للحكومات في الشرق الأوسط والغرب، ألا وهي التطرف في السجون.
من جانب آخر، فإن إثبات التهم بحق العائدين أمر ليس سهلًا، فالواضح أن هناك صعوبة في جمع الأدلة من مناطق الحرب التي تتسم بالفوضى مثل سوريا والعراق، كما يشير دافي، لكنه يشير أيضًا إلى أن السلطات القضائية الأوروبية لم تبذل جهودًا كبيرة في هذا الشأن. في الوقت الحالي، تبذل الجماعات الناشطة، خاصة الإيزيديين، والصحفيين في ألمانيا وغيرهم، المزيد من الجهود لجمع شهادات الشهود وتعقب الدواعش القتلة، لدرجة أنه في العديد من الحالات الآن جمعت المنظمات غير الحكومية هذه المعلومات، وبعد ذلك فقط تحركت الدولة ضد المجرمين.
في السياق نفسه، أشار مارون إلى أنه في حين أن إعادة النساء اللواتي انضممن إلى داعش -استنادًا إلى البيانات الحالية- لا تشكّل، بشكل عام، خطرًا أمنيًا بالمعنى الدقيق، فإنها تمثل معضلة أخلاقية: فقد انشقت هؤلاء النساء عن بلدانهن، وانضممن إلى جماعة إسلاموية متطرفة تحارب تلك الدول، وكثيرات منهن أخذن أطفالهن إلى داعش، ولا تزال معظمهن يؤمن بأيديولوجيته.
وختاماً، أكد دافي على النقطة الآتية: لا يوجد سبب للاعتقاد بأن النزعة الجهادية قد خَبَت؛ بل على العكس، فإن مشكلة المقاتلين الأجانب أكبر من أي وقت مضى، واحتمال اندلاع صراع جديد يمكن أن يعتمد على هذه الشبكات الأكبر حجمًا، والأوسع نطاقًا، أبعد ما يكون عن المتصور. في بريطانيا، كانت هناك “فجوة كبيرة” واضحة في الهجمات الجهادية، من تفجيرات يوليو 2005 في لندن، التي تعرف باسم تفجيرات 7/7، إلى مقتل الجندي لي ريجبي في عام 2013، ولكن من الواضح أن المشكلة كانت تتراكم طوال ذلك الوقت، وانفجرت بشكل واضح في العام التالي بمجرد إعلان داعش “خلافته”. وخلص دافي إلى أن “النزعة الجهادية ذات أفق يمتد لعقود”. لا يمكننا أن نتحمل “إبعاد أعيننا عن القضية المهمة” فقط بسبب عدم الاهتمام الحالي من وسائل الإعلام والانشغال بالسياسة الأمريكية. وينبغي استخدام هذا التّوقُّف الظاهري لتمحيص السجل التاريخي، لضمان اكتماله بقدر ما يمكن أن يكون، بحيث يمكن الاستفادة منه في المرة القادمة.