يُشكِّل الغزو الروسي لأوكرانيا، والذي بدأ في أواخر فبراير، أكبر تحدٍ أمني يواجه أوروبا منذ نهاية الحرب الباردة، الأمر الذي دفع حلف الناتو، الذي أعيد تنشيطه، إلى دعم الحكومة الأوكرانية بقوة لمنع انهيار حكومة حليفة والحيلولة دون انتشار العدوان إلى أي مكان أبعد. وإضافة إلى عدم الاستقرار في المسرح الأوروبي وقضايا التطرف الناجمة عن الحرب، فإن العواقب أوسع بكثير وأطول أمدًا.
لدراسة ماهية هذه القضايا، وكيف يمكن التخفيف من آثارها، استضاف موقع “عين أوروبية على التطرف” فريقًا من الخبراء المتميزين في هذا المجال:
- البروفيسور ديفيد دي روش: الأستاذ بكلية دراسات “الشرق الأدنى وجنوب آسيا” في واشنطن العاصمة، والباحث غير المقيم في “معهد دول الخليج العربية” في واشنطن. كما أنه ضابط سابق في القوات المسلحة، ومسؤول مدني في وزارة الدفاع الأمريكية، يركز على الخليج العربي وباكستان.
- الدكتور أندريه كورتونوف: باحث سياسي روسي، والمدير العام لـ”مجلس الشؤون الدولية الروسي”، مركز أبحاث مقره موسكو، يهدف إلى تعزيز التكامل العالمي، ويركز على منع الصراعات الدولية وحلها، من بين أمور أخرى.
- الدكتور سعيد صديقي: أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية بجامعة سيدي محمد بن عبد الله في المغرب.
_____________________________________
التعامل مع انكشاف الضعف الروسي
استهل البروفيسور دي روش حديثه بالإشارة إلى ثلاثة تطوراتٍ ناجمة عن الحرب الروسية الأوكرانية، والتي تؤثر على الشرق الأوسط. التطور الأول، أن الجيش الروسي “ليس كما كنا نظن”، فانطلاقًا من افتراضات ما قبل الحرب، كانت التوقعات بأن الحرب ستنتهي بـ “انتصار روسي في غضون أسبوعين تقريبًا”. لكن الروس فشلوا في الاستيلاء على العاصمة الأوكرانية بسبب مشكلات لوجستية، في حين كشفوا عن المزيد من نقاط الضعف في قواتهم الجوية (التي لا تزال تفتقر إلى التفوق على أوكرانيا)، وعدم فعالية الحرب الإلكترونية الروسية، وعدم قدرة الأسلحة الموجهة الروسية عن بعد مثل الصواريخ، وأيضًا مدفعيتها بعيدة المدى التي نادرًا ما تصيب أهدافها المقصودة.
ثم انتقل دي روش لإلقاء الضوء على فشل الروس في استخدام الدعم الجوي المباشر بشكلٍ صحيح أو حتى توجيه غاراتهم الجوية. وأشار كذلك إلى الحالة الصادمة لأنظمة الدفاع الجوي من طراز بانتسير التي أحضرها الروس معهم، التي استولى عليها الأوكرانيون ودمروها.
ولم يكن هذا بسبب أي قدرة خاصة من جانب أوكرانيا: لقد فشلت أنظمة بانتسير في العمل لأن الإطارات لم تكن جاهزة، وبشكلٍ عام لم تتم صيانتها بشكلٍ صحيح. وهذا يشير، كما يقول دي روش، إلى “قضايا نظامية أوسع نطاقًا” يمر بها الجيش الروسي والتي أظهرته “ضعيف التدريب واهن العزيمة” وهذا له “تأثير استراتيجي”.
القضية ليست مجرد تغيير حسابات الناتو من حيث المواجهة المباشرة مع روسيا. فعلى سبيل المثال، كانت أنظمة بانتسير تعتبر حتى وقت قريب أسلحة من الطراز العالمي، ومن بين أمورٍ أخرى، كانت ذات أهمية لدول الخليج بعد الهجوم الإيراني على مصافي النفط في بقيق وخريص. والآن، تجد الدول الأصغر التي كانت تتطلع إلى روسيا كوسيلة لتوسيع علاقاتها الأمنية، أن روسيا في الممارسة العملية ليس لديها القدرة على ضمان أمنها، لا من حيث الرد على تهديدات الدول التي تعتمد على موسكو، ولا من حيث الحصول على أنظمة الأسلحة الروسية، التي لا تعمل كما هو معلن عنها، وغالبًا ما لا تعمل على الإطلاق.
ما يجعل هذا الوضع أكثر إثارة للدهشة أنه يأتي بعد الحرب بين أرمينيا وأذربيجان في أواخر عام 2020، التي كشفت أن أنظمة الدفاع الجوي الروسية، التي اعتمدت عليها أرمينيا، تعاني نقاط ضعفٍ عندما واجهت طائرات بدون طيار رخيصة ومنخفضة التقنية قدمتها تركيا إلى الأذريين. ومع ذلك، لم يتمكن الروس -مع تركيزهم التاريخي على الحرب الإلكترونية- من تصحيح أوجه القصور هذه، ولم يلتقط المحللون نقاط الضعف كعامل محتمل مع اقتراب الحرب مع أوكرانيا.
عودة الثقة بالنفس للغرب
القضية الثانية التي تناولها دي روش بالتحليل هي عودة الاعتقاد الأمريكي بأنهم يستطيعون دعم الدول “ذات التفكير المماثل” عن بعد؛ أي الدول التي ليس لديها قوات أمريكية على أراضيها، والدول التي ليس لديها ضمانات أمنية رسمية من الأمريكيين. ذلك أنه بعد الانهيار الكارثي للمهمة الأمريكية في أفغانستان، اعتقد الكثيرون أن النظام الأمني الذي تقوده الولايات المتحدة قد انتهى، على الأقل خارج نصف الكرة الغربي، لكن رد الفعل على الغزو الروسي لأوكرانيا أظهر أن الولايات المتحدة وحلفاءها يمكنهم قيادة ردٍ فعّال، كما يقول دي روش، ومن الواضح أنه فاجأ الروس، وفاجأ العديد من المحللين، وربما فاجأ الدول الغربية نفسها.
كما أظهر، حسبما يوضح دي روش، أن الولايات المتحدة يمكنها تدريب الجيوش الأجنبية القادرة على الوقوف في وجه عدو أقوى بكثير، وقد فعلت الولايات المتحدة ذلك في الحالة الأوكرانية من خلال تدريب كوادر من قادة الوحدات. من بين نقاط الضعف الروسية الرئيسة هيكل قيادتها المفرط في المركزية، وغياب كادر متوسط المستوى من الضباط الماهرين الذين يتمتعون بحرية التصرف بمبادرة منهم.
يؤكد دي روش أن هذا درس مهم للدول العربية، التي لديها بشكلٍ عام جيوش “أقرب إلى [هيكل] الجيش الروسي.. وتفتقر إلى وجود جنود صغار مدربين”. كما أثبت الجنود الأوكرانيون براعتهم في استيعاب “المهارات الناعمة” -مثل اللغة الإنجليزية، والأنظمة الموزعة لإعطاء الأوامر- التي سمحت لهم بالرد بشكلٍ أكثر فعالية في مواجهة العدوان.
أزمة غذائية تلوح في الأفق
القضية الثالثة هي “أزمة الغذاء العالمية التي قد تُزعزع استقرار الشرق الأوسط”. ذلك أن الكثير من القمح الأوكراني قد غاب عن السوق بسبب التدمير الروسي للأراضي الزراعية، والحصار البحري، كما أدّى الغزو الروسي إلى زعزعة استقرار السوق بسبب ردود الفعل الاستباقية من المضاربين، ناهيك عن أن العقوبات المفروضة على روسيا قلّصت من قدرتها على تصدير القمح.
والنتيجة هي ارتفاع الأسعار، ما يؤثر على الدول التي تعتمد على واردات القمح مثل مصر واليمن، وهي دول فقيرة بالفعل، وقد تتعرض الآن لنقصٍ في الغذاء. ويشير دي روش، إلى أن آخر مرة حدث فيها ارتفاع كبير في أسعار المواد الغذائية كانت بعد الانهيار المالي العالمي، الذي سبق عدم الاستقرار السياسي الذي يُطلق عليه اسم “الربيع العربي”. ولا تزال العديد من الصراعات الأهلية التي فجّرها ذلك الوضع في عام 2011 مشتعلة حتى يومنا هذا.
فرص للمتطرفين: من سوريا إلى أفغانستان
من جانبه، بدأ الدكتور كورتونوف حديثه بالإشارة إلى أن هناك العديد من المتغيرات المجهولة، أهمها كم من الوقت ستستمر هذه الحرب، وكيف ستنتهي؟ وكون أن الحرب اندلعت مباشرة بعد جائحة فيروس كورونا، وفي خضم تحوّل صعب للطاقة، ستكون التداعيات واسعة الانتشار وطويلة الأمد.
وسلّط كورتونوف الضوء على أن انتشار الأسلحة في أي حرب هو حقيقة واقعية، وبالتالي تكون هناك مخاوف من وقوع الأسلحة في أيدي المتطرفين. “التغيير الأكثر أهمية” لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا من الصراع هو أن العلاقات الوثيقة -إلى حدٍّ ما- بين روسيا وإسرائيل قد تدهورت، ويشير “منطق” الصراع إلى أنها ستزداد سوءًا مع اقتراب إسرائيل من الموقف الغربي المتمثل في دعم أوكرانيا، وهو ما يضع بدوره الدور الروسي في المنطقة إلى جانب النظام الإيراني المتشدد.
وفي سياقٍ متصل، يقول كورتونوف، إن تركيا “أصبحت أكثر حزمًا”، لاسيّما في سوريا. وقد يعني انهيار العلاقات الروسية-الغربية الفشل في تجديد آلية الأمم المتحدة لتقديم المساعدات الإنسانية إلى شمال سوريا، وربما منح فرص جديدة للمتطرفين الجهاديين.
يضيف كورتونوف أن هناك آثارًا سلبية محتملة على أفغانستان، “معظمها يتعلق بوجود احتمالٍ قوي في أن تصبح أفغانستان مُهملة”. في الوقت الحالي، يعاني نظام طالبان من فشل في مواجهة تقدم ولاية خراسان التابعة لتنظيم داعش. وهناك شكوك فيما إذا كانت طالبان أرادت في أي وقتٍ من الأوقات منع أفغانستان من أن تصبح ملاذًا للإرهابيين مرة أخرى، ولكن صعود ولاية خراسان-داعش يُظهر أنها لا تستطيع ذلك، ويمكن أن يتجلى ذلك في شكل هجماتٍ إرهابية خارج أفغانستان على مدى الأشهر الثمانية عشر المقبلة أو نحو ذلك.
واختتم كورتونوف حديثه بالاتفاق مع دي روش على أن الأمن الغذائي سيتضرر بشكلٍ خطير، وهذا له تأثيرات غير مباشرة على أسواق الطاقة يمكن أن تزعزع استقرار عدد من دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. كل هذا يعني، حسبما يرى كورتونوف، أن المجتمع الدولي ينبغي أن “يوقف هذه الحرب في أسرع وقت ممكن، حتى لو كان ذلك ينطوي على التوصل إلى حل وسط معيب”.
حسابات دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في عالم متغيّر
أما الدكتور صديقي فيرى أن الحرب في أوكرانيا تمثل تحدياتٍ وفرصًا لدول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. وقال إن التحديات قد شرحها المشاركان الآخران في حلقة النقاش، وفيما يتعلق بالفرص الأكثر وضوحًا فهما اثنتان: على المدى القصير، سيفيد الارتفاع الكبير في أسعار النفط بعض دول المنطقة، وعلى نطاقٍ أوسع سيمنح دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا فرصة لإعادة تقييم شراكاتها الاستراتيجية.
يضيف صديقي أنه في أعقاب الربيع العربي، شعر عدد من دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بالصدمة لغياب الدعم الأمريكي، خاصة في سوريا، حيث أخفقت الولايات المتحدة في دعم التمرد ضد النظام الذي تسيطر عليه إيران وروسيا. وفي اليمن، حيث رفضت الولايات المتحدة دعم حلفائها، عندما سعوا إلى عكس مسار الانقلاب غير القانوني الذي قام به الحوثيون الذين تدعمهم إيران.
علاوة على ذلك، فإن سحب أنظمة الدفاع الجوي الأمريكية من المملكة العربية السعودية، خلال فترة من التهديدات الأمنية الحرجة، قد أضرّ بموقف الولايات المتحدة، ناهيك عن أنه منح روسيا فرصة لإنشاء روابط مع دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
في ظل نظام متعدد الأقطاب، كما يقول صديقي، هناك فرصة لعدم اصطفاف جديد في الشرق الأوسط، أو قد يدفع دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا إلى البحث عن ضماناتٍ أمنية أكثر حزمًا من الولايات المتحدة. ويشير إلى أن دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا تبنت بالأساس طريقًا وسطًا “براجماتيًا” ويتجلى في كثير من الحالات في شكل “حياد محسوب”، ولكن لا ينبغي تفسير ذلك على أنه توجه جديد.
ويرى صديقي أن الولايات المتحدة لا تزال تؤدي “دورًا رئيسًا وحاسمًا” في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا كقوة لتحقيق الاستقرار، لكن مستقبل هذا الدور يعتمد على مجريات الحرب الأوكرانية.
لقد أظهرت الحرب بالفعل أن الاتحاد الأوروبي شريك أمني غير فعّال: فهو لا يستطيع حتى الدفاع عن نفسه، ناهيك عن الاعتماد عليه كضامن أمني في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. وإذا نجحت الولايات المتحدة في دحر العدوان الروسي في أوكرانيا، فإن ذلك سيعزز موقعها في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
ولكن هذا سيعتبر مشكلة بالنسبة لعددٍ من دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، كونه سيقلل -من وجهة نظرها- من قدرتها على المناورة نتيجة عزل روسيا، وإعادة إنشاء عالم ثنائي القطب، جامد، يماثل النوع الذي كان سائدًا خلال الحرب الباردة.
وختامًا، في فترة الأسئلة والأجوبة، تناول المشاركون بمزيدٍ من التفصيل التدابيرَ التي يمكن القيام بها لتجنب تفاقم أزمة الغذاء، والتغييرات المحتملة في دور روسيا في سوريا، والتأثيرات المحتملة على العلاقات المغربية-الجزائرية إذا سعت روسيا إلى حلفاء خارجيين لتجنب العزلة، والوضع الأمني المتغيّر لحلف الناتو، ومكائد الصين في هذا الوضع المتأزم، وتأثير الحرب الروسية-الأوكرانية على العلاقات العربية-الإسرائيلية.