ويل بالدات*
في الأيام السابقة حلّت علينا الذكرى الخامسة عشرة لتفجيرات 7 يوليو 2005 في لندن، أو ما نسمِّيها بهجمات 7/7. ولا شك أن هذا وقتٌ مناسب للتأمل في الفظائع التي ارتكِبت ضد الركاب في العاصمة. في مثل هذا اليوم، استهدِف مواطنونا من قِبَل الإرهابيين الذين رأوا أن ذبح العزّل تمنحهم تذكرة ولوج باب الشهادة والمجد. أسفرت التفجيرات عن مقتل 52 شخصًا -جميعهم من سكان المملكة المتحدة، من 18 جنسية مختلفة- وجرح أكثر من 700 آخرين، وهو الهجوم الذي نفذّه أحد أشرس التنظيمات الإرهابية الإسلاموية في العالم: تنظيم القاعدة.
التقيتُ مؤخرًا دان بيدل، الناجي من إصابة خطيرة جراء هجمات 7/7. كان دان يقف على بعد ثلاثة أقدام فقط من العقل المدبر للهجمات الانتحارية عندما انفجرت قنبلة، ومزّق الانفجار ساقيه ودمَّر إحدى عينيه. لقد أخرج الأطباء مفاتيح سيارته وثمانية جنيهات من النقود المعدنية من أمعائه.
وبينما كان مستلقيًا هناك في أعقاب تلك الفظائع، صرخ ليسمعه أحد في خضمِّ الفوضى: “كنتُ بحاجة إلى شخص ما للعثور عليّ. ليس من أجل المساعدة، بل لأنني أردتُ أن يعرف الناس من أنا وأن لديّ أسرة وكنت أرغب أن تعرف أسرتي أنني أفكر فيها”.
قصة دان عن الهجمات وإعادة تأهيله في وقتٍ لاحق ملهمة ومرّوعة على حد سواء. من الأهمية بمكان بداية أن ندرك أن التهديد الإسلاموي لم يتراجع بعد مرور خمسة عشر عامًا على التفجيرات. وفي حين أننا لا نزال نعاني أعمال العنف البشعة التي ترقى للإبادة الجماعية التي يمارسها تنظيم “داعش”، سيكون من الحماقة تجاهل النفوذ المستمر لتنظيم القاعدة، الذي يكتسب زخمًا جديدًا حتى الآن، بمساعدة حلفائه بين الجماعات الإسلاموية البريطانية والحلفاء السياسيين الذين يستغلونهم لمنحهم غطاء.
ومن الأهمية بمكان أيضًا ألا يضيع المنطق الذي يُحفّز الإرهاب الإسلاموي من خلال التعتيم المتعمد على القضايا. ونحن ننظر إلى الوراء إلى أكثر من عقد من الهجمات الإرهابية والمؤامرات التي أحبطت، أجد الوقت الآن مناسبًا للتفكير في نشأة التهديد البريطاني.
في عام 1998، نشر أسامة بن لادن فتواه التي أعلن فيها “الجهاد ضد اليهود والصليبيين”. قدمت تلك الفتوى تبريرًا دينيًا للقتل، ليس فقط للأفراد العسكريين، بل للمدنيين أيضًا. وفي العام نفسه، شن أمير ميرزا، عضو في جماعة غير معروفة آنذاك تُدعى “المهاجرون”، التي ستصبح فيما بعد نواة وجود داعش في المملكة المتحدة، هجومًا بالقنابل الحارقة على قاعدة للجيش. وقد أصبح هذا الهجوم الفاشل أول جريمة ذات صلة بالإسلامويين تنظر أمام محكمة بريطانية.
وبعد ذلك بعامين، ألقي القبض على معين عابدين، وفيصل مصطفى، في برمنجهام لتخزينهما 100 كيلوجرام من السلائف الكيميائية المستخدمة في إنتاج مادة HMTD، وهي مادة متفجرة شهيرة تستخدم في الهجمات الإرهابية. وقد أُدين عابدين، فيما يُعرف الآن بأول إدانة ترتبط بتنظيم القاعدة في المملكة المتحدة، فيما تمت تبرئة ساحة شريكه. ومن المثير للاهتمام، ملاحظة أن مصطفى كان يحاكم في عام 1996 بتهمة التآمر لتنفيذ تفجيرات، عندما تم العثور على مواد كيميائية، وأجهزة توقيت، ومُفجِّرات في منزله. ورغم أنه بُرِّئ من تهمة التآمر، فقد حكم عليه بالسجن لمدة أربع سنوات لحيازته مسدسًا بطريقةٍ غير قانونية؛ بقصد تعريض حياة الآخرين للخطر.
اللافت للنظر هنا أن هاتين الحالتين سبقتا غزو العراق في عام 2003. وفي حينِ أن السياسة الخارجية تبرز بالتأكيد في بعض حالات التطرف، فإنه ينبغي النظر إليها على أنها مظالم وليست أسبابًا. جميعُ الإرهابيين القائمين على عمليات التجنيد يستغلّون المظالم، هذه هي طريقتهم في تأجيج مشاعر الناس، وتحويلها لسلاحٍ قاتل. غير أنه من الخطأ التركيز على المظالم الفردية، إذا كان الغرض من ذلك هو تحويل الانتباه عن الأيديولوجيات السياسية العنيفة التي تعزِّز الإرهاب وتبرِّره.
الأيديولوجيا الإسلاموية مرنة وتدعمها جماعات لن تتغاضى علنًا عن العنف، ولكنها تفضِّل تقديم الإرهاب كرد فعل انعكاسي لسياساتٍ حكومية محددة. والقيام بذلك هو قراءةٌ سيئة وشريرة للحقائق التي تزيل مصلحة الإرهابيين من القضية، حيث تقول في الواقع: “لم يكن لديهم خيار سوى قتل الناس”. لن نتبع مثل هذا النهجِ مع برينتون تارانت، الإرهابي اليميني المتطرف الذي قتل 50 شخصًا في مسجد في نيوزيلندا في مارس 2019، ثم سعَى إلى تبرير مذبحته بحجة أن سياسات الهجرة الحكومية قد أجبرته على ذلك.
ومع ذلك، فيجب التمييز بين الدين الإسلامي المتنوع، وبين الأيديولوجيا السياسية أو “الإسلام السياسي”، التي تدعو إلى دور اجتماعي وسياسي متميز للعقيدة الإسلامية في الحياة العامة، وتسعى إلى تحديد كيف ينبغي للناس، بمن فيهم غير المسلمين، أن يتصرفوا من الناحية الأخلاقية بصورة جبرية. الإرهابيون الإسلامويون مثل “داعش” و”القاعدة” يذهبون إلى أبعد من ذلك، ويعتبرون إنشاء دولة إسلامية والدفاع عنها واجبًا دينيًا يقع على عاتق جميع المسلمين، ويقولون إن العنف هو تكتيك مشروع لتحقيق هذا الهدف.
وبين هذين المعسكرين، هناك جماعات معينة تدعم أهداف تنظيم القاعدة، وتعطي منابر لمنظِّريها، وتراوغ أو تدعم ضمنًا عنفها، بما في ذلك التفجيرات الانتحارية. وكما هو متوقع، فهم أشد المعارضين للجهود الرامية إلى مكافحة الإرهاب، ورغم قلة عددهم، فإنهم الأعلى صوتًا. وهذا يعني أن الشرطة وصنّاع السياسات ووسائل الإعلام غالبًا ما تسمع المداولات المشوهة للجماعات التي تدَّعِي أنها تمثِّل السكان الأوسع نطاقًا، ولكنها لا تستمع إلى آراء الأغلبية الصامتة التي لا تطالب بمقعدٍ على الطاولة، وبالتالي لا يسمع بها أحد إلى حدٍّ كبير، بل ويتم تجاهلها.
الآن ونحن نتطلع إلى السنواتِ الخمس عشرة المقبلة من مكافحة الإرهاب، دعونا نسمع المزيدَ من الجمهور الأوسع الذي نخدمه. ويجب أن نسمع، على وجه الخصوص، الناجين من الإرهاب وأسرهم. وينبغي أن تكون قصصهم عن الرعب والبطولة أعلى الأصوات؛ لأننا خذلناهم من قبل. وعارٌ علينا أن نخذلهم مرة أخرى.
لذا، سأترك الكلمات الأخيرة الرصينة لدان بيدل: “لا يمر يوم واحد لا أفكر فيه فيما حدث. لم أسمع صراخًا كما سمعت في ذلك اليوم. وعندما توقف الصراخ لم يكن ذلك لأنهم هربوا من المذبحة، بل لأنهم ماتوا. عليك أن تتخذ القرار بأننا لن ندع هؤلاء الناس ينتصرون. كل يوم لا يزال يمثل صراعًا بالنسبة لي، ولكن عندما أذهب إلى الفراش في الليل، أعلم أنني فزت بيوم آخر”.
*باحث في مركز “تحليل اليمين المتطرف” ومنسق “استراتيجية منع التطرف”