
سيجريد رايتس: باحثة دكتوراه في معهد البحوث الدولية للسياسة الجنائية، في جامعة جينت، بلجيكا.
مقدمة
شهد العقد الماضي تموضع الجهود المبذولة لمكافحة التطرف العنيف في مكانةٍ عالمية. وعلى عكس سياسات مكافحة الإرهاب التقليدية، تجسّد مكافحة التطرف العنيف نهجًا غير قمعي لمنع ومواجهة التطرف العنيف، في معناه الأوسع والأشمل من مكافحة الإرهاب. وبعيدًا عن هذا الوصف العام، يمكن أن تختلف مبادرات مكافحة التطرف العنيف اختلافًا كبيرًا جدًا من دولةٍ أو منطقةٍ إلى أخرى. بالإضافة إلى ذلك، فهناك تباين كبير في تبني سياسات مكافحة التطرف العنيف وتنفيذها، سواء بين الدول المختلفة أو داخلها. وتعد بلجيكا واحدة من الدول البارزة في مجال تبني سياسة مكافحة التطرف العنيف1. واللافت أن اهتمام الدولة البلجيكية بهذه الجهود لمكافحة التطرف العنيف لم يبدأ عمليا سوى في عام 22015.
تُعتبر بلجيكا واحدة من الدول الأوروبية العديدة التي انضمت بسهولة إلى جهود مكافحة التطرف العنيف. ومع ذلك، وعلى الرغم من الارتفاع الكبير في شعبية نموذجها في هذا الصدد، تشير الأبحاث الحالية إلى الحاجة الملحّة إلى فهم أفضل لمحتوى عمليات مكافحة التطرف العنيف وتنفيذها.
وفي الواقع، في حين أصبح فك الارتباط ومكافحة التطرف العنيف محورًا جادًا للبحث في السنوات الأخيرة، فإن البرامج المصممة لدعم هذه العملية لا تزال “مبهمة بشكلٍ لافت”3. وفي ضوء هذه الفجوات المعرفية المهمة، ستناقش هذه المقالة الأطراف الفاعلة، والمبادئ التوجيهية، والتحديات الرئيسة، التي تشكِّل حاليًا عملَ مكافحة التطرف العنيف في بلجيكا.
الجهات الفاعلة الرئيسة
ما الجهات التي تضطلع بعمليات مكافحة التطرف العنيف في بلجيكا؟ أي شخص يبحث في هذا السؤال سيجد نفسه في مواجهة مشهدٍ معقد يكاد يقترب من المتاهة. نظرًا للعدد الهائل من الجهات الفاعلة، وخطط العمل والمبادرات المعنية، فإن مشهد مكافحة التطرف العنيف في بلجيكا يوصف على أفضل وجه بأنه مزيج يفتقر إلى أي خطة كبرى أو تركيز. وعلى الرغم من هذا التعقيد، يمكننا تحديد جهتين تبرزان باعتبارهما “مراكز ثقل” في مشهد مكافحة التطرف العنيف: البلديات المحلية، والسجون.
خلافًا للدول الأوروبية الأخرى، تفتقر بلجيكا إلى وجود تقليد قوي للعمل المشترك بين وكالات متعددة، وبالتالي فلا يمكنها الاعتماد على الهياكل التعاونية الموجودة من قبل. كما أنه لا يوجد حل واحد يعالج مشكلة معقدة مثل التطرف العنيف. ومن ثم، سيحتاج الممارسون المحترفون الذين يرغبون في مكافحة التطرف إلى التعاون بشكلٍ بناء مع المنظمات الشريكة، حاجة أظهرتها “الأزمة السورية” والموجة المصاحبة لها من المقاتلين الإرهابيين الأجانب4.
ومنذ ذلك الحين، اتخذت الاستجابات المتعددة للوكالات في سياق مكافحة التطرف العنيف أشكالًا مختلفة. من أبرز الأمثلة، على الهياكل المتعددة للوكالات المنوط بها مكافحة التطرف العنيف في بلجيكا، الخلايا الأمنية المحلية المتكاملة (LISC).
تُشكَّل هذه الخلايا على المستوى المحلي، وهي عبارةٌ عن منصات متعددة الوكالات، تنطوي مهمتها الأساسية على الاكتشاف المبكر للحالات، والتعامل معها. يغطِّي مجال عملها في مجال منع التطرف المستويات الأولى والثانية والثالثة، ما يجعلها ركيزة أساسية في مجال مكافحة التطرف العنيف. وفي حين اتخذت منصات الخلايا الأمنية المحلية المتكاملة أشكالًا وأحجامًا مختلفة من أجل تلبية الاحتياجات المحلية، فإنها عادة ما تشمل عمدة البلدية، وممثل الشرطة المحلية، وممثلو الخدمات الاجتماعية المحلية.
إحدى السمات البارزة في مشهد مكافحة التطرف العنيف البلجيكي هي أنها تتمتع بدرجة عالية من المؤسساتية. وتركز العديد من المؤسسات المكرّسة لمكافحة التطرف العنيف التي أنشئت في بلجيكا على تنسيق جهود مكافحة التطرف العنيف وتنفيذها.
من ناحيةٍ أخرى، غالبًا ما يتولى تقديم الخدمات في التدخلات الفعلية، العاملون في مجال رعاية الشباب، أو الاختصاصيون الاجتماعيون، أو مستشارو السجون، أو مسؤولو الإفراج المشروط. بالإضافة إلى ذلك، فلا يوجد في بلجيكا سوى عددٍ قليل من المنظمات غير الحكومية المخصصة للحماية من التطرف العنيف. إذ تميل المنظمات غير الحكومية القليلة التي دخلت إلى ساحة مكافحة التطرف العنيف إلى التخصص في تقديم المشورة الأيديولوجية فقط، نظرًا لأنها ترى عدد مقدمي الخدمات المنتظمين الذين يشعرون بعدم الارتياح للتدخل في هذا المجال. الغريب في هذه العملية هو غياب المتطرفين السابقين. إذ نادرًا ما يشارك المتطرفون السابقون في أعمال مكافحة التطرف العنيف في بلجيكا، مقارنة بنظرائهم في الدول الأخرى5.
المبادئ التوجيهية
الأهم من مسألة من يقوم بأعمال مكافحة التطرف العنيف هو السؤال عما ينطوي عليه عمل مكافحة التطرف العنيف. وبالنظر إلى أن تدخلات مكافحة التطرف العنيف يجب أن تتعامل مع عملياتٍ فردية تختلف من شخص لآخر، فإن اتباع نهج واحد يناسب الجميع لن يكون عمليًا ولا مناسبًا. لذا، تنطوي الجهود المبذولة في هذا المجال على إعداد تدخلات متعددة الجوانب، ومصممة حسب ظروف واحتياجات كل حالة على حدة. ولكي ينجح هذا النهج الذي يأخذ في الاعتبار ظروف واحتياجات كل فرد، يجب أن تعتمد ممارسة مكافحة التطرف العنيف على مجموعةٍ واسعة من الخدمات وأساليب العمل، ومزجها ومطابقتها حسب كل حالة.
على تنوعها الهائل، تنطوي معظم خطط التدخل لمكافحة التطرف العنيف على عددٍ من العناصر المشتركة. مجالات التدخل المشتركة؛ هي:
(1) التعليم والعمل، تشمل الفرص التعليمية، والتوجيه المهني، والمساعدة في البحث عن عمل؛
(2) أسلوب الحياة والترفيه، تغطي الرياضة أو الهوايات أو الأنشطة الإبداعية أو الثقافية؛
(3) الدعم النفسي، الذي يمكن تقديمه في حالة المرض العقلي أو الصدمة أو الصعوبات في التعامل مع عملية فك الارتباط؛
(4) الدعم الاجتماعي، الذي يهدف عادة إلى استعادة الروابط مع الأسرة أو الأصدقاء أو غيرهم من الأشخاص المهمين، ولكنه قد يشمل أيضًا إسداء المشورة لأفراد الأسرة أنفسهم؛
(5) الدعم غير الرسمي، الذي ينطوي على الاستماع باهتمام إلى مخاوف ومشكلات وتطلعات المستفيدين الأفراد، فضلًا على مساعدتهم في قضايا عملية للغاية مثل ملء الأوراق؛
(6) الدين والأيديولوجية، اللذان يشملان أي شكل من أشكال التدخل المتعلق بالمعتقدات. من بين هذه التدخلات، يبدو الدعم غير الرسمي أحد أكثر أشكال المساعدة المقدمة. من ناحيةٍ أخرى، تُعتبر التدخلات الخاصة بالمعتقدات الاستثناء لا القاعدة.
المبدأ الأساس أو التوجيهي هو نفسه بالنسبة لجميع مجالات التدخل الستة: تيسير التغيير الإيجابي من خلال بناء ركائز تشجع على الانخراط في المجتمع. لذا، فإن المنطق هنا منطق صرف وتشتيت. بعبارةٍ أخرى، تعزيز بدائل لتورّط المتطرفين في التطرف بدلًا من استهداف التورط نفسه. ومع ذلك، فنادرًا ما يتم تحديد كيف ينجح تدخل محدد في إحداث التغيير المنشود.
ذلك أن العديد من تدخلات مكافحة التطرف العنيف تفتقر إلى نظرية متطورة للتغيير، وتعتمد بدلًا من ذلك على افتراضاتٍ غير مؤكدة أو نماذج مبسطة بشكلٍ مفرط للسببية أو حتى قائمة على الحدس. على الرغم من أن العلاقة بين النظرية والتطبيق ليست مباشرة، فإن هذا يشير إلى انفصالٍ خطير بين ما هو معروف في أدبيات فك الارتباط وإعادة تأهيل المتطرفين، وما يُنفذ في الممارسة العملية.
من الأهمية بمكان في هذا الصدد ملاحظة أن هذه التدخلات، التي تنفّذ تحت راية مكافحة التطرف العنيف، تحمل أكثر بكثير من مجرد تشابه عابر مع الممارسات العامة لمنع الجريمة وإعادة تأهيل المجرمين. في الواقع، باستثناء المشورة الأيديولوجية، تعتمد معظم جهود مكافحة التطرف العنيف على العمل الاجتماعي الأساسي، ما يجعل مكافحة التطرف العنيف قريبة من “العمل كالمعتاد” لمقدمي الخدمات المنتظمين العاملين في هذا المجال6. هذه الملاحظة تثير سؤالًا مثيرًا للاهتمام: هل هذه التدخلات متشابهة لأن المجرمين المتطرفين ببساطة لا يختلفون كثيرًا عن المجرمين العاديين، أم قد تكون هذه حالة “مطرقة ماسلو”: “إذا كانت المطرقة الأداة الوحيدة معك، فستعامل كل الأشياء وكأنها مسامير”7.
التحديات الرئيسة
عندما يتعلق الأمر بالواقع العملي للقيام بأعمال مكافحة التطرف العنيف، فإن التحديات كثيرة. أولًا، المصطلحات في هذا المجال غامضة بشكلٍ ملحوظ. داخل وعبر مختلف القطاعات المشاركة في مكافحة التطرف العنيف، فلا يوجد فهم مشترك لما تعنيه كلمة “متشدد” أو “متطرف”، وما يُعتبر علامة على التطرف -أو على العكس من ذلك، على النجاح- أو متى وفي أي الحالات يكون من المناسب التدخل.
التحدي الثاني هو كيفية تقييم التغيير، وقياس أثر التدخل. في معظم الأحيان، لا تذكر النتائج المقصودة المرتبطة بتدخلات مكافحة التطرف العنيف بوضوح. علاوة على ذلك، ونظرًا لأن التدخلات تتبع نهجًا فرديًا، أي وفق ظروف كل شخص، فإن أهداف جهود مكافحة التطرف العنيف متباينة تمامًا مثل الأفراد الذين تُطبق عليهم.
وهكذا، فإن النتائج غير المحددة تجعل قياس الفعالية أكثر صعوبة. بالإضافة إلى ذلك، لا توجد معايير صارمة وسريعة للحكم على التغيير الإيجابي، ما يعني أن تقييم التقدم الفردي يتم في كثيرٍ من الأحيان بطريقةٍ ذاتية وغير منهجية. كل هذا يشير ضمنيًا إلى أن التقييم، حتى اللحظة، لا يزال يمثل تحديًا هائلًا.
التحدي الثالث يتعلق بقضايا الثقة. لا شك أن الثقة حجر الزاوية في التدخل الناجع. يستغرق بناء الثقة وقتًا، ويتطلب الاستثمار في العلاقة بين الممارس والمستفيد الفرد. ومع ذلك، فإن انعدام الثقة، ومواقف نحن مقابل هم، والشك تجاه السلطات أمورٌ شائعة للغاية في سياق مكافحة التطرف العنيف.
وبالمثل، يمكن للثقة أن تنجح أو تفشل التعاون في إطار متعدد الوكالات. ومع ذلك، كما يمكن للمرء أن يتخيل بسهولة، فإن بناء الثقة بين الوكالات والمهنيين، من خلفياتٍ مختلفة على نطاقٍ واسع، ومع تخصصاتٍ مختلفة، ليس بالأمر الهين.
رابعًا، وأخيرًا، قد يكون التوازن الدقيق بين السيطرة والرعاية أحد أكثر الجوانب تحديًا في هذا النوع من العمل. بشكلٍ عام، تحدث جهود مكافحة التطرف العنيف في سياقٍ سياسي تشكِّله خطابات مفرطة في الأمننة. وهنا، يبدو أن الآثار المترتبة على الأمن القومي لعمل مكافحة التطرف العنيف، إلى جانب الاعتقاد الشائع بأن “الإرهابيين غير قابلين للإصلاح”8، تشجع على اتباع نهج مفرط في تجنب المخاطرة.
والأهم من ذلك، أنه في حين أن السيطرة والرعاية ليستا بالضرورة مستبعدتين بشكلٍ متبادل، فإن التركيز الأمني المفرط على حساب إعادة التأهيل قد يُعرّض كليهما للخطر في نهاية المطاف. وبالإضافة إلى ذلك، أعرب بعض ممارسي مكافحة التطرف العنيف عن قلقهم، ليس فيما يتعلق بالأثر السيئ لمثل هذه الخطابات فحسب، بل بشأن “فقدان مسار أصول المهنة، والاهتمام المفرط بالمخاطر أيضًا”9.
ما سبق ليس قائمة شاملة من التحديات، لكنه يسلّط الضوء على بعض القضايا الرئيسة. فمن ناحيةٍ، توضح هذه التحديات مدى تعقيد مكافحة التطرف العنيف ومختلف الصعوبات التي ينطوي عليها تنفيذه. ومن ناحيةٍ أخرى، فإنها تلفت الانتباه إلى المجموعة الواسعة من المهارات التي يتطلبها الممارسون في الخطوط الأمامية.
وتجدر الإشارة أيضًا إلى أن معظم هذه التحديات ليست فريدة من نوعها في حالة بلجيكا، بل تبدو متأصلة في ممارسة مكافحة التطرف العنيف بشكلٍ عام.
الخلاصة
بشكلٍ عام، اتخذت بلجيكا خطواتٍ مهمة لمواجهة ظاهرة التطرف العنيف، وتعزيز فك الارتباط الفردي عنها. ومن أبرز سمات جهود مكافحة التطرف العنيف -في السياق البلجيكي- التنوع الغني للجهات الفاعلة المعنية، وفي كثيرٍ من الحالات المهنيون ذوو الخبرة العملية ذات الصلة. غير أنهم في كثيرٍ من الأحيان لا يتلقون تدريباتٍ خاصة على أعمال مكافحة التطرف العنيف. وثمة أمر آخر هو النطاق الواسع للمبادرات والتدخلات المنفذة. ومع ذلك، ونظرًا للافتقار العام إلى معايير الجودة أو استراتيجية محددة، فإن هذا التنوع لا يخلو من مخاطر.
رغم أن بلجيكا تبذل بالتأكيد جهودًا كبيرة لمكافحة التطرف العنيف، فمن غير الواضح ما إذا كانت تفعل الأشياء الصحيحة. وفي حين أن حتمية “القيام بشيء ما” لمساعدة الأشخاص على فك الارتباط بالتطرف العنيف أصبحت أكثر وضوحًا من أي وقت مضى، فإنها بحاجة إلى أن تستند إلى أدلة سليمة وقوية.
إن طبيعة التجربة والخطأ لجهود مكافحة التطرف العنيف في بلجيكا تعني أنه على الرغم من أننا راكمنا بعض الخبرة في هذا المجال، فإنه لا يوجد سوى عدد قليل جدًا، إنْ وُجد، من الممارسات الفضلى الراسخة. والأهم من ذلك، أننا ما زلنا نفتقر إلى الأدوات المناسبة لتقييم أثر وفعالية تدخلات مكافحة التطرف العنيف، والعديد من هذه الجهود الجارية لم تخضع بعد لتقييم مستقل.
وإجمالًا، تشير التناقضات، والشكوك، والأسئلة، التي لا تزال قيد البحث حاليًا، بشأن تنفيذ استراتيجية مكافحة التطرف العنيف، إلى الحاجة الماسّة إلى مزيدٍ من الاحتراف وتوحيد المعايير.
المراجع:
[1] SHANAAH, Sadi; HEATH-KELLY, Charlotte. What Drives Counter-Extremism? The Extent of P/CVE Policies in the West and Their Structural Correlates. Terrorism and Political Violence, 2022, 1-29.
[2] RENARD, Thomas. 20 years of counter-terrorism in Belgium: explaining change in CT policy-making through the evolution of the Belgian CT doctrine and practice since 2001. 2021. PhD Thesis. Ghent University.
[3] GLAZZARD, Andrew. Violent Extremist Disengagement and Reintegration: A Framework for Planning, Design and Evaluation of Programmatic Interventions. Studies in Conflict & Terrorism, 2022, 1-20: p. 1.
[4] RENARD, “20 years of counter-terrorism in Belgium”: p. 81.
[5] SCHEWE, Jonatan; KOEHLER, Daniel. When Healing Turns to Activism: Formers and Family Members’ Motivation to Engage in P/CVE. Journal for Deradicalization, 2021, 28: 141-182.
[6] HAUGSTVEDT, Håvard. Trusting the mistrusted: Norwegian social workers’ strategies in preventing radicalization and violent extremism. Journal for Deradicalization, 2019, 19: 149-184: p. 149.
[7] MASLOW, Abraham Harold. The psychology of science: a reconnaissance. 1966: p. 15.
[8] ALTIER, Mary Beth. Criminal or Terrorist?: Fear, Bias, and Public Support for Prisoner Reentry Programs. Terrorism and Political Violence, 2021, 1-22: p. 9.
[9] HAUGSTVEDT, “Trusting the mistrusted”: p. 152.