حول الفرصِ والتحديات التي تواجه مكافحةَ التطرف، عُقدت، في 28 نوفمبر بلاهاي، طاولةٌ مستديرة نظمها كلٌّ من موقع “عين أوروبية على التطرف”، بالتعاون مع “لينكس أوروبا”، وهي مؤسسةٌ تنشط في دعم السلام وحل الصراعات عبر تيسير سبل الحوار بصفة خاصة. وجاء اختيار عقد الفعالية في مدينة لاهاي مناسبًا كونها مدينةً منفتحةً ومرحبة ومكرسة للسلام. ولعل الهجوم الذي ضربها مؤخرًا والحادث الإرهابي في لندن في نهاية الأسبوع الماضي، قد أكدا أهمية اهتمام “موقع عين أوروبية على التطرف” و”لينكس أوروبا”، بجمع كوكبةٍ من عشرات الخبراء لمناقشة القضايا المتعلقة بالتطرف، بما في ذلك تأثير الصراعات وإمكانية بناء الجسور بين الشرق والغرب لمكافحة التطرف.
عُقدت جلساتُ المائدة المستديرة تحت “قاعدة شاتم هاوس”، حيث نوقشت موضوعات عدة وطرحت أفكار ثاقبة بشأن مشكلاتٍ قديمة، فيما قدَّم البعض الآخر أساسًا لمزيد من البحث والدراسة.
الإسلام السياسي واليمين المتطرف
ربما يكون دور الإسلام في التطرف هو القضية الأكثر إثارة للجدل والمناقشة في وسائل الإعلام. إذ يرى البعض أن الإسلام هو أصل الأزمة. وفي حين أن تزايد التدين العلني، وتبني مثل هذه الأفكار قد يكون مؤشرًا على بدء الانخراط في التطرف، فإن الإسلام يمكن أن يوفر القدرة على مواجهة التطرف أيضًا.
القضية المهمة الآن في أوروبا -التي ربما تزداد أهميةً في المستقبل- هي صعود اليمين المتطرف، الحركة المتطرفة التي يتنامى عدد فروعها العنيفة. العلاقة بين تطرف الإسلاميين، وتطرف الحركات اليمينية، هي علاقة تكافلية: وجود تهديد من كل منهما يضفي مصداقية على خطاب الآخر، ويوفر فرص لتجنيد المتعاطفين في أوساط المجتمعات المحلية الضعيفة. ويوجد أيضًا تداخل واستعارة للتكتيكات والأساليب الفكرية. وللتدليل على ذلك، يُلاحظ أن مزيج التقليدية والثورة في أعمال الزعيم الفاشي بينيتو موسوليني يتردد في أفكار منظر الإخوان المسلمين سيد قطب.
اليسار المتطرف أيضًا
ورغم أن اليمين المتطرف في أوروبا قد حاز اهتمامًا كبيرًا، فإن اليسار المتطرف لم يحظ باهتمام مماثل. وقد قام اليسار المتطرف بتحالف تكتيكي مباشر -بل وفكري- مع الإسلاميين، حيث تم التخلي عن القيم الإنسانية الخاصة بالأفراد لصالح السياسات الخاصة بالشيوعية والهوية. ومن الأمثلة البارزة على ذلك بريطانيا، حيث يخرج زعيم حزب المعارضة الرئيس، جيريمي كوربين، من مثل هذا الوسط. هذا المزيج بين اليسار الرجعي والإسلام السياسي، سواء كان يمثله الإخوان المسلمون أو القوى “الأشد تطرفًا” مثل جماعة التبليغ، وانعدام الجدية من قبل التيار الليبرالي الرئيس في التعامل مع هذا التحالف غير المقدس، يتيح لليمين المتطرف تقديم نفسه على أنه الوصي الوحيد للسكان الأصليين.
في أوروبا، توفر هذه الصراعات الثقافية أرضيةً خصبة لنمو الحركات المتطرفة وتكاثرها. أما في الشرق الأوسط، فإن الحرب الفعلية هي التي تُمكّن المتطرفين من التسلل والتمدد بين المجتمعات، بل وبين كافة السكان. ولعل سوريا هي أوضح مثال على ذلك، حيث سُمح للانتفاضة التي اندلعت ضد النظام الحاكم بالانزلاق إلى حرب طائفية، ما يُمكّن تنظيميْ القاعدة وداعش من تقديم أنفسهما على أنهما حُماة السكان السنة الذين يتعرضون للاعتداء. وتوجد ديناميات مماثلة في دول أخرى مثل نيجيريا. لقد بدا أن “الربيع العربي” يبشر بنهاية الحركة الجهادية، نظرًا لأنه قدَّم لشعوب الشرق الأوسط طرقًا بديلة للتغيير. غير أنه في العقد الذي تلا ذلك، دفعت قوة الحركة المعادية للثورة الكثيرين للاقتناع بأن العنف هو السبيل الوحيد للتغيير، والجهاديون هم الذين يقدمون أنفسهم كقناة لتصريف هذا الغضب.
هل التدخل الغربي هو السبب؟
يعتقد العديد من الغربيين -بطرقٍ مختلفة- أن التهديد الجهادي والإرهاب ضدهم هو نتيجة لسياسات غربية بالدرجة الأولى، ورغم أن ذلك صحيح في بعض الموضع، فإنه لا يتسق مع الحقائق في أماكن أخرى. ذلك أنه من بين عمليات الحشد الجهادي الأربع في الغرب -أفغانستان في الثمانينيات، والبوسنة في التسعينيات، والعراق في العقد الأول من القرن الحالي، وسوريا في العقد الثاني من القرن الحالي- هناك حالة واحد فقط يمكن القول بأنها تُنسب إلى التدخل الغربي، ألا وهي العراق، وهي أبعد ما تكون عن اعتبارها الحالة الأهم بين عمليات التدخل الأربع.
علاوة على ذلك، فالبيانات المتعلقة بالحشد الجهادي في أوروبا تقدم قصة مختلفة عما يعتقده الكثيرون عن أن تهميش المهاجرين والأقليات السكانية هو أمر دفع إلى التطرف وأنه مصدره، ولكن حتى داخل تلك الدول لا توجد سوى بؤر ساخنة محددة ينضم فيها المسلمون إلى الجماعات الجهادية، فالموضوع إذًا أعمق بكثير من مجرد ربطه بأوضاع اقتصادية أو تهميش للمهاجرين. الفرق بينهما هو وجود القائمين على التجنيد والقادة الذين يتمتعون بالكاريزما. ولهذا السبب، فإن دولًا مثل إيطاليا التي لديها سياسات أكثر تشددًا بشأن ترحيل المتطرفين لا تنتج ردود الفعل العنيفة التي قد يتوقعها البعض. وبدلًا من ذلك، فإن إبعاد الأشخاص المؤثرين الرئيسيين يقمع النشاط الجهادي.
كيف نواجه التطرف؟
تجدر الإشارة إلى أنه يصعب مكافحة التطرف العنيف ومنعه إذا تم التعامل معه وفق تلك المعايير فقط؛ باعتبار أن دوافعه اقتصادية، أو من جراء التعرض للتهميش. بعبارةٍ أخرى، يجب معالجة الظروف التي تؤدي إلى التطرف العنيف، وهذا يعني الاهتمام بمظالم أولئك المُعرضين لرسالة المتطرفين بالإضافة إلى البحث في الجذور. وإذا تم التعامل مع هؤلاء الأشخاص عبر منظور مكافحة التطرف العنيف ومنعه فقط، فلن يستجيبوا لهذه العملية. وهذا يطرح تحديات صعبة بشأن طبيعة ونهج مكافحة التطرف العنيف ومنعه، أي ما إذا كان ينبغي توسيع نطاق هذا الإجراء أو الحد منه، وكيفية تنفيذه.
في مسعى لمعالجةِ هذه المعضلة، جرَّبت دول الشرق الأوسط أساليب متنوعة، من تونس ما بعد الثورة إلى الحكومات الأكثر استقرارًا في الخليج العربي. وتوصلت جميع تلك الدول إلى أن الأدوات الأمنية وحدها لن تنجح، ذلك أنه يتعين مواجهة الأيديولوجيا التي تكمن خلف الإرهاب. وفي هذا الإطار، حاولت دول الخليج، بشكل خاص، تشجيع خطاب بديل معتدل يمكن أن يثبط فكريًا انجذاب الشباب للمتطرفين. ولا شك أن مثل هذه الخطابات المضادة تتطلب نهجًا مصممًا بعناية للاتصالات الاستراتيجية. وفي المستقبل، سيشكِّل الأسلوبَ الذي يمكن من خلاله تعزيز الخطاب المعتدل وتقديمه إلى الجمهور المستهدف أحد أهم تحديات مكافحة التطرف.