جمهورية إفريقيا الوسطى دولة غير ساحلية، لا يظهر اسمها في كثير من الأحيان على موقع تويتر. ونادرًا ما تذكرها وسائل الإعلام العربية، على الرغم من أن قرابة 9% من سكانها البالغ عددهم 4.6 مليون نسمة هم من المسلمين الذين يخوضون حربًا أهلية طويلة الأمد، ضد مواطنيهم المسيحيين منذ أواخر عام 2012. يتبع مسلمو جمهورية إفريقيا الوسطى المذهب المالكي، ويتمركزون بالأساس في الشمال الشرقي، بالقرب من الحدود مع تشاد.
وفي مواجهة هذا النسيان من الاهتمام العربي، فإن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على درايةٍ جيدة بهم، ويتواصل مع مجتمع جمهورية إفريقيا الوسطى، في هدوء واجتهاد منذ بعض الوقت، وينظر إليهم على أنهم مجندون محتملون لجيشه الدولي من المرتزقة المسلمين. في الوقت نفسه، كان العالم مشغولًا جدًا بالمشكلات التي تعاني منها جميع أنحاء إفريقيا -مثل صعود داعش في موزمبيق- لدرجة عدم الاهتمام بما يقوم به أردوغان في جمهورية إفريقيا الوسطى.
بدأ أول اتصال تركي مع مسلمي جمهورية إفريقيا الوسطى في عام 2013، بعد الإطاحة بالرئيس فرانسوا بوزيزي. فهناك صراع متعدد الطبقات بين الميليشيات الإسلامية التي تعرف باسم “السيليكا” والميليشيات المسيحية المناهضة التي تعرف باسم “أنتي بالاكا”. معظم الذين انضموا إلى القتال لم يفعلوا ذلك عن قناعةٍ أيديولوجية، ولكن لأسبابٍ مالية بحتة، نظرًا لأن العمل في الميليشيات يدرّ أموالًا جيدة، ويحمي هويتهم كمجتمع.
ومع تقدُّمِ الحرب الأهلية، حملت ميليشيات أنتي-بالاكا السلاح، ونفّذت سلسلةً من الهجمات الانتقامية ضد مواطنيها المسلمين. وقد اقتلِع مئات الآلاف من المسلمين من ديارهم، ويعيشون الآن في الجيوب التي تحميها قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وخارج هذه الجيوب، لا يُسمح لهم بارتداء الزي الإسلامي أو ممارسة شعائرهم الدينية. كما وردت تقارير عن إجبار مسلمي جمهورية إفريقيا الوسطى على اعتناق المسيحية.
الجدير بالذكر أن ليس لمسلمي جمهورية إفريقيا الوسطى تاريخ من الأصولية، كما أنهم لم يرفعوا راية الشريعة الإسلامية. وعلى الرغم من الصراع المستمر منذ عقد من الزمن، لم تظهر جماعة جهادية واحدة في الدولة تحمل راية داعش. غير أن ذلك قد يتغير مع غرق مجتمعهم في براثن الفقر والإهمال، واستمرار السلطات في قمع هويتهم وتقاليدهم الإسلامية.
أردوغان يترقب الفرصة
بعد تدمير أكثر من 400 مسجد في جميع أنحاء الدولة، تدخل أردوغان لإعادة بنائها، متوددًا لمسلمي جمهورية إفريقيا الوسطى. وفي سبتمبر 2014، وافق أردوغان على إرسال قوات تركية إلى الدولة، كجزء من بعثة الأمم المتحدة لحفظ السلام التي يبلغ قوامها 12 ألف جندي. وبالإضافة إلى قوات حفظ السلام، تقوم قواته أيضًا بجمع بيانات عن الجالية المسلمة في الدولة، وتطلعاتها السياسية، واحتياجاتها اليومية. وتم تمديد البعثة التركية إلى جمهورية أفريقيا الوسطى لمدة عام واحد في أكتوبر 2020.
علاوة على ذلك، أفادت تقارير بتهريب أسلحة تركية إلى جمهورية إفريقيا الوسطى، وهو أمر ممكن جدًا نظرًا لعدم وجود حكومة مركزية قوية، وضعف أمن الحدود، والرغبة التركية في بسط النفوذ من خلال الأسلحة والوسائل العسكرية.
وفي هذا الصدد، قال سليمان أوزرين؛ عضو هيئة التدريس المساعد في جامعة جورج ماسون، “لقد أصبحت الاستفادة من الحرب بالوكالة، في المناطق غير المستقرة، أسلوبَ أنقرة الجديد في السياسة الخارجية”. وأضاف لموقع عين أوروبية على التطرف: “يمكن لهذه السياسة أن تؤدي إلى تطرف المجتمعات المسلمة من خلال دمجها في شبكات من الوكلاء المرتبطة بتنظيمي القاعدة وداعش”.
لا ينبغي أن تشكّل غزوات أنقرة في جمهورية إفريقيا الوسطى مفاجأة. ذلك أنه منذ عام 2014، ظهرت أدلة تربط تركيا بأسلحة بوكو حرام، التابعة لداعش. وقد سُربت محادثة بين مستشار أردوغان مصطفى فارانك ومحمد كاراتاس، مساعد الرئيس التنفيذي للخطوط الجوية التركية، يخبره فيها بشعوره بالذنب إزاء نقل الأسلحة إلى نيجيريا. نُشر التسجيل على موقع يوتيوب، ونفاه أردوغان بعد ذلك باعتباره مزيفًا. ومنذ ذلك الحين، خضعت تركيا للتحقيق في نيجيريا بشأن النقل غير القانوني للأسلحة إلى البلاد، وألقي القبض على مواطنين تركيين اثنين في ديسمبر 2019، بتهمة الانتماء إلى داعش في الصحراء الكبرى.
تحت ستار المساعدات الإنسانية
يمكن اعتبار المساعدات الإنسانية التركية حصان طروادة التركي للتغلغل في جمهورية إفريقيا الوسطى، وجاء جزء كبير من هذه المساعدات من ثلاث وكالات تابعة للدولة: وكالة التعاون والتنسيق التركية، والهلال الأحمر التركي، ومؤسسة “وقف الديانة التركي”. وقد وصلت وكالة التعاون والتنسيق التركية إلى 5,855 عائلة نازحة، تعيش الآن في الكاميرون المجاورة، وزودتها بـ 50 طنًا من المواد الغذائية الأساسية. وقدمت للأطفال هدايا مزيّنة بالعلم الأحمر والهلال الأبيض للجمهورية التركية. وفي الوقت نفسه، كان الهلال الأحمر التركي يساعد في جمع شمل العائلات المسلمة التي فرّقها النزاع.
وأوضح أوزرين قائلًا: “يبدو أن ما نراه في جمهورية إفريقيا الوسطى يتبع مراحل مماثلة شهدها العالم في سوريا.. في البداية، كان تواصل تركيا في سوريا إنسانيًا بحتًا، لكنه تطور لاحقًا إلى المرحلة الثانية: إنشاء شبكات مع الجماعات الجهادية، وتجنيدها كوكلاء. المرحلة الثالثة والحالية هي نشر هؤلاء الوكلاء خارج سوريا، مثل ليبيا وأذربيجان”.
وأضاف “وكالة الاستخبارات الوطنية التركية هي الفاعل الرئيس في هذه العملية. ويتيح الاضطراب في جمهورية إفريقيا الوسطى لأنقرة فرصة استغلال التوترات الدينية والعرقية التي تعتبر البيئة المثالية لخلق مجموعة وكيلة أخرى في إفريقيا، وفى المستقبل، نشر وكلاء سوريين موجودين حاليًا في ليبيا في جمهورية إفريقيا الوسطى”.
“صادات”: مجموعة شبه عسكرية متطرفة
قبل عامٍ واحد، أثار مستشار أردوغان السابق عدنان تانري فيردي حفيظة البعض بالقول إن على تركيا دعم الجماعات الإسلامية ضد إرهاب الدولة، وأشار إلى جمهورية إفريقيا الوسطى، كمثالٍ على ذلك. وقد شكك الكثيرون فيما إذا كان هذا مجرد زلة لسان. ومن المؤكد أن هذه التصريحات لم تكن من قبيل الصدفة، كونها صدرت عن تانري فيردي، نظرًا لأنه كان مالكًا لشركة المقاولات العسكرية “صادات” (SADAT)؛ نسخة تركية من مجموعة “فاجنر” التابعة لفلاديمير بوتين. شركة “صادات” مجموعة شبه عسكرية ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالقصر الرئاسي، وأرسلت ميليشيات إلى مناطق الحرب في سوريا وليبيا. وتنشط في إفريقيا منذ عام 2013، قبل ثلاث سنوات فقط من استعانة أردوغان بتانري فيردي، بعد الانقلاب الفاشل في يوليو 2016.
منذ ذلك الحين، تخلى تانري فيردي عن منصبه كرئيسٍ لشركة صادات، وتخلى عن السلطة لابنه ووريثه علي كامل مليح تانري فيردي ومؤلف كتاب بعنوان «عودة الخلافة». وقد تجلب الأيديولوجية المتطرفة لآل تانري فيردي، وصادات، متاعب خطيرة بالنسبة لجمهورية إفريقيا الوسطى. فمنذ تأسيسها في عام 2012، تأثرت صادات بالفكر السلفي، حيث جذبت الشباب الذين طردوا من الجيش التركي بسبب آرائهم الدينية. في ديسمبر 2019، اضطر تانري فيردي إلى التنحي عن منصبه بعد أن قال إنه وشركته “يمهدان الطريق لمجيء المهدي المنتظر”. وقبل ذلك بعامين، قدم اقتراحًا إلى منظمة التعاون الإسلامي لتشكيل “جيش الإسلام”.
في هذا الإطار، قال سوات كوبوكو من الجامعة الأمريكية في واشنطن العاصمة، لموقع عين أوروبية على التطرف: “إن إرسال الأسلحة والدعم العسكري إلى جمهورية إفريقيا الوسطى سيحوِّل الدولة التي مزقتها الحرب الأهلية بالفعل إلى ساحة معركة لحرب بالوكالة. وأضاف بقوله “إنها انتهازية سياسية. أردوغان يستغل مثل هذه الأزمات لتعزيز الدعم السياسي له، لا سيّما من الناخبين الإسلامويين والقوميين، حيث يقدم نفسه على أنه رجل قوي، وزعيم للعالم الإسلامي”.
الخلاصة
هل ستنجح طموحات أردوغان في جمهورية إفريقيا الوسطى؟ للوهلة الأولى، يبدو أنه سيواجه معركة صعبة مع الرئيس الحالي فوستين-أرشانج تواديرا. وهو حليفٌ مسيحي للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وقد وفر له الروس الدعم اللوجستي، والميليشيات المسلحة من مجموعة فاجنر، التي تولت المسؤولية الأمنية في بانجي، عاصمة جمهورية إفريقيا الوسطى. بل إن بوتن زرع أحد مساعديه ومواطنيه، فاليري زاخاروف، كمستشارٍ أمني لرئيس جمهورية إفريقيا الوسطى، مع السيطرة على الحرس الرئاسي.
عندما اندلعت الحرب الليبية في عام 2011، كانتِ الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا تتولى إدارة الحرب، ولم يكن لأنقرة وموسكو أي علاقة بها. ومع ذلك، فهما حاليًا اللاعبان الرئيسيان فيها بفضل وكلائهما في ساحة المعركة. وعلى غرار ليبيا، في السابق كانت جمهورية إفريقيا الوسطى ملعبًا للفرنسيين، ومؤخرًا لبوتين.
ومع ذلك، فإذا اضطر بوتين للاختيار بين أردوغان، والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فإنه بالتأكيد سيذهب إلى الأول، الذي عمل معه من قبل -رغم كل الصعاب- في كلٍّ من ليبيا وسوريا. فقد قطّع الرجلان الدولتين إلى مناطق نفوذ، وقسّما هذا المزيج بينهما حصريًا، بينما دفعا جميع اللاعبين الآخرين معًا إلى الخارج. ومع دعم بوتين لتوديرا، ودعم أردوغان للسيليكا، يمكننا أن نرى تكرارًا للسيناريو السوري-الليبي يتكشف في جمهورية إفريقيا الوسطى. وفي حين لا يرغب زاخاروف ولا بوتين في رؤية الوجود التركي في جمهورية إفريقيا الوسطى، فإنهما سيكونان على استعداد للتعامل مع أنقرة كأمرٍ واقع، إذا سُمح لهما بتقاسم الغنائم مع أردوغان.
*كاتب وأستاذ جامعي سوري، متخصص في الدراسات التاريخية، عمل باحثا في مركز كارنيجي، مؤلف كتاب: تحت الراية السوداء- على مشارف الجهاد الجديد”، صدر في 2015.