عين أوربية على التطرف
“رغم أنني كرّستُ جُلَّ حياتي المهنية لدراسة اضطهاد اليهود، فليس هذا ما يدفعني كيهودية. أنا أُثمن تقاليدي وتعاليمي وأحتفي بهما. إدراكي بالمظالم الكثيرة التي ارتكبت بحق اليهود، طوال التاريخ، لا يشكل أساس هويتي اليهودية. بل الثقافة اليهودية، والتاريخ اليهودي؛ هما اللذان يشكلان من أنا”.
بهذا البيان من صفحاتها الختامية، تُلخص ديبورا ليبستات وجهة نظرها العميقة والشجاعة لمعاداة السامية ونضالها ضد الإيذاء الذي تعرض له اليهود.
كتاب «معاداة اليهود: في الوقت الحاضر» يوقظ القراء على الطبيعة متعددة الجوانب للتهديد، مازجًا بين التنظير الدقيق والعميق والأمثلة الواقعية للمواقف والسلوكيات المعادية لليهود المستقاة من المجالات السياسية والاجتماعية المعاصرة. غير أن تعقيد الموضوع وتعدد الأفكار التي تطرحها الكاتبة تجعل من المستحيل علينا تغطيتها كلها.
يأتي الكتاب في شكل سلسلة من الرسائل إلى شخصين خياليين “تعرَّفت” عليهما المؤلفةُ في الجامعة التي تُدّرس فيها. ابيجيل، طالبة يهودية تحاول فهم ظاهرة معاداه السامية، و”جو”، زميل يدرس في كليه الحقوق بالجامعة. وكونه غير يهودي، يعطيه القدرة على التقدير العميق لنجاحات ومآسي الشعب اليهودي.
خلال الحديث، يُحفز الأفراد الثلاثة تفكير بعضهم البعض في الجونب المتعددة لمعاداة السامية، بشكل يجمع بين العاطفة والدقة الأكاديمية.
نقطة الانطلاق للعمل هي، حتمًا، محاولة لتعريف الموضوع.
من الصعب تفسير ما تسميه المؤلفة “القصة التي لا تنتهي” لمعاداة السامية، كما هو الحال بالنسبة لجميع نظريات المؤامرة، التي تعتبر معاداة السامية واحده منها فقط.
وفي هذا السياق، وصف علماء الاجتماع مثل هذه النظريات بأن لديها “خاصية الختم الذاتي” أو ]الإغلاق التلقائي[ الذي يجعلها مُحصّنة ضد التشكيك فيها: حيث يتم استيعاب جميع الأدلة الجديدة في النظرية، واستيعاب جميع المشككين ضمن المؤامرة.
لا يستطيع كثيرٌ من أفراد الجمهور العام تعريف معاداة السامية، بل لا يستطيع الباحثون المتخصصون في هذا المجال الاستقرار على تعريف دقيق.
تعتمد ليبستات في تحديدها للعناصر الأساسية لمعاداة السامية على وصف “التحالف الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست”، الذي اعتمده البرلمان الأوروبي: “(معاداة السامية) هي تصور محدد لليهود، الذي يمكن وصفه بالكراهية تجاه اليهود. المظاهر الخطابية والمادية لمعاداة السامية تُوجه نحو اليهود أو غير اليهود و/ أو ممتلكاتهم، ومؤسسات المجتمع اليهودي ومنشآته الدينية”.
وتوضح المؤلفة أن معاداة السامية في العصور القديمة والقرون الوسطى، كانت ذات طبيعة دينية. فلقد كانت كراهية اليهود نابعة من رفضهم قبول المسيحية والإسلام، في وقتٍ لاحق. وفي القرن الثامن عشر، أضيفت أسباب عقلانية وسياسية إلى الأسباب الدينية. وبحلول القرن التاسع عشر، اتهم من ينتمون إلى الأحزاب اليمينية السياسية جميع اليهود بأنهم اشتراكيون، وشيوعيون، وثوريون. أما أولئك الذين ينتمون إلى الأحزاب اليسارية السياسية، فقد اتهموا اليهود بأنهم رأسماليون مهووسون بالثروة، ويعارضون تحسين الظروف الاجتماعية والاقتصادية للطبقات الفقيرة وطبقات العُمال.
لكن ما زاد الأمر تعقيدًا هو افتراض علم تحسين النسل، من دون الاعتماد على أسس سليمة، أن اليهود كانوا أدنى في تركيبهم الوراثي. وتشير ليبستات إلى أنه، مثلما تحمل اليهود الاتهام بأنهم رأسماليون مفترسون وشيوعيون هدامون، رأى علماء تحسين النسل، في الوقت ذاته، أن اليهود يتمتعون بصفات متفوقة أيضًا. إذ ذهبت النظرية إلى القول إنّ اليهود يتمتعون بذكاء خبيث، ولأنهم كانوا قادرين على الاختلاط بسهولة مع غير اليهود، فقد استغلوا تلك الصفات لإحداث الفوضى في حياة غير اليهود. ويبدو أن هذا التناقض لا يمثل مشكلة لمعاداة السامية.
وتُذكرنا ليبستات بأن معاداة السامية لا تقتصر على فئة تعليمية واحدة: فقد اعتقد المفكرون بمعاداة السامية؛ مثلما اعتقد بالتأكيد غيرُ المتعلمين. ففي بعض الأحيان، يتم تقديم معاداة السامية كمعتقد غير عقلاني، وفي أحيان أخرى كعقيدة متماسكة. هذا جزءٌ مما تعتقد الكاتبة أنه يمثل خاصية “مرنة” في هذا المفهوم. أحيانًا يكون قائمًا على العاطفة، وفي حالات أخرى يبدو قائمًا على معايير محددة.
فيما يختص بالمصطلحات، يطرح أحد أكثر أقسام الكتاب إثارة للاهتمام السؤال التالي: “معاداة السامية أم معاداة-السامية؟”
Antisemitism or anti-Semitism?
تختار المؤلفة المصطلح الأول لأن الجانب الأيمن من الكلمة الموصولة (anti-Semitism) يمكن أن يكون قائمًا بذاته. لا يوجد ما يُسمى شعب “سَامِيّ”. والجدير بالذكر، أن كلمة “سَامِيّ” قد صاغها مؤرخ ألماني في عام 1781 لوصف مجموعة من اللغات التي نشأت في الشرق الأوسط؛ وتشمل العربية، والعبرية، والآرامية، والأمهرية، والأكاديّة، القديمة، والأوغاريتية. ولا يوجد شيء يربط بين متحدثي هذه اللغات، معًا، كشعب. ولسببٍ ما، عندما ظهرت الكلمةُ -لأوّل مرة- باللغة الإنجليزية، في عام 1893، أضيفت إليها علامةُ وصلٍ.
أما في اللغتين الفرنسية والإسبانية، فقد ظهرت كلمة (Antisemitism) من دونِ علامةِ وصل (وكلّها بحروف صغيرة)، وهذا منطقيّ؛ لأنه يعني بكل بساطة كراهية اليهود. هذا لا يعني العداء تجاه شيء غير موجود يُسمى “ساميّة”.
في الفصول التالية، يحتوي الكتاب على نوعٍ من التصنيف لموضوع معاداة السامية. هذا التصنيف عبارة عن قائمة شاملة للجوانب والسلوكيات التي تتراوح بين المتطرفين الأكثر تشددًا الذين تستند مُثُلهم على “الدم والتراب” – وهو شعار ألماني (Blut und Boden) شكّل عنصرًا محوريًا للفكر النازي – وأنواع أخرى أكثر تعقيدًا من معاداة السامية.
إضافة إلى ذلك، يوجد داخل هذا التصنيف أو الأفضل – إلى جانبه- فئة مثيرة للاهتمام: فئة من العوامل التمكينية المعادية للسامية. تشرح ليبستات هذه الفكرة باستخدام مثالين متميزين: دونالد ترامب، وجيرمي كوربين.
فيما يتعلق بترامب، لا يبدو أن معاداة السامية متجذرة في أي أساس أيديولوجي. بل إنها على العكس، تخدم أغراض سياسية.
في خطابٍ ألقاه أمام الائتلاف اليهودي الجمهوري، قبل بضع سنوات، سأل ترامب: “هل هناك أي شخص في هذه الغرفة لا يعيد التفاوض بشأن الصفقات؟ ربما 95٪ منكم يعيدون التفاوض. أنا مفاوض، مثلكم. لكنكم لن تدعموني؛ لأنني لا أريد أموالكم. إنكم تريدون السيطرة على ساستكم”.
وترى الكاتبة أن ترامب، في هذه الجمل القليلة، قد جمع تقريبًا كل الصور النمطية لمعاداة السامية التي تعود إلى آلاف السنين: اليهود لديهم رغبة غير عادية في الاستحواذ على المال، والسلطة، والسيطرة، والمساومة، ومراوغة فطرية (التفاوض على صفقةٍ بعد إبرامها).
كما رفض ترامب التعامل بجدية مع السلوك المعادي للسامية لبعض مؤيديه. فعلى سبيل المثال، أيّد ديفيد ديوك، الزعيم السابق لجماعة “كو كلوكس كلان” ومنكر الهولوكوست، ترشيح ترامب للرئاسة. أما ترامب، فقد أكد أنه لا يستطيع إدانة ديوك لأنه لا يعرف شيئًا عن ديوك أو كلان. قال ذلك بالرغم من أنه وصف ديوك قبل عشر سنوات بأنه “متعصب، وعنصري، ومشكلة”.
وترى المؤلفة أن استجابة ترامب للحدث المفزع الذي وقع في تشارلوتزفيل بولاية فرجينيا في صيف 2017، كانت أكثر إثارة للقلق. في الواقع، أدان ترامب المظاهر الفظيعة للكراهية والتعصب والعنف التي تمارسها العديد من الفئات. وعقب يومين، وفي محاولة واضحة للتراجع عن بيانه السخيف، قرأ ترامب بيانًا أدان فيه أولئك الذين أتوا إلى تشارلوتزفيل لارتكاب أعمال عنف “بما في ذلك كو كلوكس كلان والنازيين الجدد والعنصريون البيض، وغيرهم من مجموعات الكراهية”. غير أنه قال، بعد ذلك، إنه كان هناك “أناس مهذبون للغاية”، يسيرون مع العنصريين البيض.
وبرغم أن ترامب لم يصنع هذه الجماعات المتعصبة للبيض أو المشاعر التي يضمرونها، فإنه ترك مساحة لانتشار هذه المشاعر المقيتة أكثر من ذي قبل.
على الجانب الآخر، من الطيف السياسي، نجد السياسي البريطاني جيرمي كوربين. وهنا تجدر الإشارة إلى أنّ سجل كوربين في السياسة أكبر من سجل ترامب، كما أن معتقداته الأيديولوجية أكثر تجذرًا ورسوخًا.
كان كوربين جزءًا من الحركة العمالية والنقابية البريطانية، منذ بداية حياته المهنية. في فترة السبعينيات، عمل كوربين في الأمور التنظيمية الخاصة بنقابات العمال، وكان نشِطًا في الحركة المناهضة للفصل العنصري في جنوب إفريقيا. وأظهر تعاطفًا قويًا مع الجيش الجمهوري الأيرلندي، وتولى زعامة حزب العمال في عام 2015.
وعلى حد تعبير المؤلفة، “يبدو أن لدى كوربين تعاطفًا تلقائيًا مع أي شخص يكون، أو يبدو، مضطهدًا أو مستضعفًا، ويترافق مع ذلك نظرة إلى العالم قائمة على الطبقة والعرق”.
بالنسبة لكوربين، أي شخص أبيض، أو ثري، أو على علاقة بمجموعة تبدو أنها تتمتع “بامتيازات خاصة”، لا يمكن أن يكون ضحية.
تتحلى ليبستات بنزاهة كافية للإقرار بأن كوربين لا يبحث عمدًا عن أشخاص معاديين للسامية ليرتبط بهم أو يدعمهم. ومع ذلك، يبدو أنه عندما يلتقيهم، فإن كراهيتهم لليهود لا تهمه ما دامت كانت مواقفهم الأخرى -فيما يتعلق بالطبقة، والعرق، والرأسمالية، ودور الدولة، وإسرائيل/فلسطين- توافق هواه.
وفي هذا الصدد تحديدًا، انبرى كوربين للدفاع عن شخصياتٍ مشكوك فيها. بعد مضيّ شهرٍ على هجمات الحادي عشر من سبتمبر، أكدّ رائد صلاح، واعظ إسلامي فلسطيني، أن يهودًا أمريكيين متواطئين مع إسرائيل خططوا ونفذوا الهجمات بغية “تحويل انتباه وسائل الإعلام” عن الأخطاء الإسرائيلية، وتوجيه التعاطف تجاه الأمريكان.
وعندما أعلنت وزارة الداخلية البريطانية حرمان صلاح من دخول المملكة المتحدة، احتج كوربين ووصفه بأنه “مواطن محترم”، ودعاه علنًا إلى زيارة البرلمان.
إضافة إلى ذلك، عمل كوربين مع دياب أبو جهجه، ناشط سياسي عربي، أعرب بعد شهرين من هجمات 11 سبتمبر، عن شعوره “بانتقامٍ يثلج الصدر” وهو يشاهد الهجمات. وفي عام 2006، وصف جهجه “تقديس الهولوكوست وعبادة اليهود” بأنها “الدين البديل” لأوروبا، وفي وقت لاحق دعاه كوربين للمشاركة في تجمع مناهض للحرب في لندن. وبعد بضع سنوات، ادّعى كوربين الجهل، وقال إنه لا يستطيع أن يتذكر أنه عمل مع جهجه.
بناء على ذلك، تذكر المؤلفة أن ترامب وكوربين ليسا معاديين للسامية، لكنهما ساهما على الأغلب في تسهيل مظاهر معاداة السامية وتضخيمها وتشجيعها.
اثنان من أكثر الفئات الاستفزازية المدرجة في التصنيف؛ هما “المعادي للسامية على حفل عشاء[i]“، و”المعادي للسامية الجاهل”.
غالبًا ما يكون لدى النوع الأول علاقات عمل تجارية مع يهود، وربما يكون لديه صديق يهودي أو اثنين. لكنه سيكون الخصم الأول للكنيس الجديد، متعللًا بـ “التداعيات طويلة المدى، من حيث التوازن السكاني”[ii].
وترى ليبستات أنه إذا أصدر الشخص تصريحاتٍ متعصبة ضد اليهود، فإنه يُعتبر معاديًا للسامية، بغضّ النظر عن عدد اليهود المرتبط بهم. ووصف الشخص المتحامل على اليهود بأنه شخص “مهذب” لا يقلل بأي حال من أهمية ذلك.
أما “المعادي للسامية الجاهل” فهو شخص لطيف وحسن النيّة، وغير مدرك تمامًا بأنه قد تبنى الصور النمطية المعادية للسامية بدون وعي، ويساهم في استدامتها.
بعد هذا التصنيف، تضع المؤلفة العديد من أهم القضايا المتعلقة بمعاداة السامية في سياقها، بدءًا من العلاقة بين معاداة السامية والعنصرية وصولًا إلى إنكار الهولوكوست.
في إطار العلاقة المعقدة بين كراهية اليهود والعنصرية، تشير ليبستات إلى أن هناك اعتقادًا على نطاقٍ واسع، خاصة بين الأقليات المحرومة، أن اليهود أعضاء في النخبة، ومن ثم لا يمكن أن يكونوا ضحايا التمييز.
ورغم عدم جدوى المشاركة في لعبة “تمييزي أسوأ من تمييزك”، تحذر المؤلفة من الاعتقاد بأن فعل التمييز لا يحدث إلا إذا اعتدى جليات (جالوت) القوي أو المتميز، سواء بشكل حرفي أو مجازي، على ديفيد (داوود) الذي ينتمي لأقلية عرقية أو اثنية. فهذا أمر خطير ومضلل.
وهناك مسألة أخرى خطيرة بشكل ملحوظ، وهي ما يُسمى خطاب “نعم، ولكن”، الذي يحاول تبرير الشر.
لمعالجة هذه المشكلة، تستدعي ليبستات قضية سلمان رشدي الذي اشتكى، بعد الفتوى التي أصدرها ضده الزعيم الإيراني آية الله روح الله الخميني، بسبب كتابه «آيات شيطانية»، من غياب الدعم له من بعض المثقفين الغربيين. وهنا، تجدر الإشارة إلى أن المترجم الياباني للكتاب قُتل، فيما تعرض المترجمون الإيطاليون والنرويجيون للهجوم وأُصيبوا بجروح خطيرة. كما قُتل العشرات في أعمال شغب في تركيا على خلفية الكتاب.
وبينما أدان العديد من المثقفين حكم الإعدام الذي أصدره الخميني، فقد حاولوا في الوقت ذاته تبريره من خلال القول بأن “رشدي جلب هذا على نفسه، من خلال ازدراء الإسلام”.
على غرار ذلك، تظهر معاداة السامية سمات مماثلة: “نعم، الخطاب المعادي للسامية والعنف أمران خاطئان. لكن كيف يمكنك أن تتوقع مشاعر المسلمين وتصرفاتهم عندما تقوم إسرائيل باضطهاد الفلسطينيين؟” هناك طرق للاعتراض على سياسات الحكومة الإسرائيلية دون معاداة للسامية أو تضخيمها.
فيما يتعلق بإنكار الهولوكوست، تقرّ ليبستات بأنها أصيبت بالدهشة، في البداية، بسبب الافتقار التام لمنطق هذه الظاهرة، ورفضت منكري المحرقة. لكن تعلمت، بعد ذلك، مواجهة أكاذيب المنكرين، وتوضيح أن هذا الإنكار لا يتعلق بالتاريخ، بل بتشويه اليهود وشيطنتهم. وربما يقول الجُناة إنهم أُجبروا على القتل، لكن لا أحد يؤكد أن القتل لم يقع.
وهناك ثمة اتجاه خطير آخر بشأن الهولوكوست، وهو “الإنكار الناعم”، الذي يحدث غالبًا على المستوى الوطني.
في بولندا، على سبيل المثال، حاول “حزب القانون والعدالة الوطني” إعادة كتابة سجل بولندا في الحرب العالمية الثانية. أي شخص أو مؤسسة تشكك في سجل بولندا في مكافحة النازيين يتعرض للهجوم. وتم إقالة منسقي المتاحف الذين حاولوا تقديم صورة دقيقة عن سلوك بولندا أثناء الحرب. وتصاعد هذا الوضع في شتاء عام 2018 عندما اعتمد مجلسا البرلمان البولندي، بعد مداولاتٍ طويلة، تشريعًا يُجرّم الادعاء علانية أنّ الأمة البولندية تتحمل أية مسؤولية عن الجرائم التي ارتكبها الرايخ الثالث خلال الهولوكوست.
وبينما كان هناك بولنديون ساعدوا اليهود خلال الحرب، وتم تكريم أكثر من 6700 منهم باعتبارهم ضمن ما يُعرف باسم “الصالحون بين الأمم”[iii] من قبل “متحف ياد وشيم” في القدس، فإنه كان هناك أيضًا بولنديون- ربما أكثر من ذلك بكثير- خانوا اليهود. وكان هناك بولنديون ممن قتلوا اليهود من تلقاء أنفسهم، دون أي تحريض من قبل الألمان.
ولا تتردد المؤلفة في القول إن البولنديين الذين تعاونوا مع النازيين فعلوا ما فعلوا، إلى حد كبير، لأسباب معادية للسامية أو مالية. وربما يكون هذا الحكم قاسيًا بعض الشيء؛ لأن بولندا كانت دولة محتلة تَعَرّض مواطنوها أيضًا للقتل الجماعي؛ بوصفهم ينحدرون من “عرق أدنى”. فلقد تعاون العديد من البولنديين -بدرجاتٍ متفاوتة- مع النازيين، في محاولة لإنقاذ حياة أسرهم. وهكذا، تبدو هذه لحظة نادرة من التحليل الضحل للغاية في كتاب عميق.
أما في المجر، فقد كانت هناك جهودٌ حثيثة من قبل حكومة رئيس الوزراء فيكتور أوربان للتقليل من دور المجريين، إن لم يكن إنكاره، في قتل اليهود أثناء الحرب. وكحليفٍ لألمانيا في وقت الحرب، أخضعت المجر يهودها لمحاكماتٍ قاسية لكنها قاومت محاولات ألمانيا ترحيلهم. وفي عام 1944، غزا الجيش الألماني المجر، ومن ثمّ، بدأت عمليات الترحيل. وفي غضون قرابة ستة أسابيع، تم ترحيل أكثر من نصف مليون يهودي مجري إلى أوشفيتز – بيركينو[iv]، حيث قُتل أكثر من 400.000 شخص.
وفي هذا السياق، تشير ليبستات إلى أن أوروبا الغربية ليست مُحصّنة ضد هذا النوع من إعادة كتابة التاريخ. ففي 9 أبريل 2017، زعمت مارين لوبان أن فرنسا لا تتحمل أية مسؤولية عن عملية الاعتقال الجماعي سيئة السمعة التي تعرف باسم “فيل دي هييف” لأكثر من 13.000 يهودي في يوليو 1942، حيث تم احتجاز اليهود في استاد بالقرب من برج إيفل لخمسة أيام حتى تم ترحيلهم إلى معسكرات الموت. وكان قد تم التخطيط لعمليات الاعتقال هذه من قبل “الجستابو” (الشرطة الألمانية السرية) وأعضاء الحكومة المتآمرة في فرنسا.
يركز القسم التالي من الكتاب على حركة المقاطعة، وسحب الاستثمارات، وفرض العقوبات، التي أسستها منظمات فلسطينية في عام 2005، ودعت إلى ما يلي:
- مقاطعة المنتجات والخدمات الإسرائيلية، وكذلك الأحداث العامة التي يشارك فيها الإسرائيليون.
- سحب الاستثمارات الحكومية والخاصة في الشركات الإسرائيلية.
- فرض عقوبات دولية على إسرائيل.
ربما تكون هذه هي الفصول الأكثر إثارة للجدل في كتاب. وتعترف المؤلفة أنه في حين أن بعض المؤسسين معادون للسامية، بشكلٍ واضح، فإن العديد من مؤيدي حركة المقاطعة قد لا يكونون معادين للسامية، ويؤمنون حقًا بالإجراءات السلمية بغية التأثير على سياسات إسرائيل المتعلقة بالفلسطينيين من أجل التوصل إلى حل وسط.
غير أن الأمر الأكثر إثارة للجدل، هو رأي المؤلفة في الشخصيات العامة التي اختارت مقاطعة إسرائيل.
ففي عام 2009، على سبيل المثال، قرر مهرجان ملبورن الدولي للسينما عرض فيلم «البحث عن إريك» للمخرج البريطاني كين لوش. وعندما علم لوش أن السفارة الإسرائيلية هي الراعية للمهرجان، ألغى عرض الفيلم احتجاجًا على قيام إسرائيل “باحتلال غير قانوني للأرض الفلسطينية، وتدمير المنازل وسبل العيش”.
وفي عام 2012، رفضت الكاتبة الأمريكية أليس ووكر السماح بنشر ترجمة عبرية جديدة لروايتها «اللون الأرجواني» في إسرائيل “المُدانة بالفصل العنصري، واضطهاد الشعب الفلسطيني”.
ورغم زعم ليبستات أنها تقبل الأشكال السلمية للمعارضة والانتقاد ضد إسرائيل، فإنها تدرج الأمثلة المذكورة أعلاه عندما تقول إن “القائمة المتزايدة لأولئك الذين ينضمون إلى جهود هذه المقاطعة تثير القلق”.
وتخصص الكاتبة أحد الفصول الختامية -ربما الأكثر حميمية وشغفًا- للتغلب على الشعور بالمظلومية الذي يبدو تاريخيا أنه يشكل نظرة اليهود للعالم.
نقطة الانطلاق في هذا الجزء، هي ظاهرة الرقابة الذاتية التي قد يواجهها الأشخاص، على سبيل المثال، عند مناقشة السياسات الإسرائيلية، خشية اتهامهم بمعاداة للسامية. ومع ذلك، تحث الكاتبة الأشخاص على عدم الخوف من التحدث علنًا عندما يشعرون أن الحكومة الإسرائيلية تستحق النقد: “إذا كان المدافعون عن إسرائيل يريدون دعمكم، فيجب أن يكونوا مستعدين لسماع انتقاداتكم”.
وذهبت الكاتبة خطوةً أبعد من ذلك، محذرة من أنه “إذا أصبحت معاداة السامية محور اهتماماتنا الوحيد، فإننا نجازف برؤية التجربة اليهودية بأكملها من خلال أعين الناس الذين يكرهون اليهود”.
في مقالته التي نُشرت عام 1948 بعنوان “إسرائيل: الشعب المُحتضر”، تناول الفيلسوف والمؤرخ سيمون رويدوفيتش ظاهرة التشاؤم اليهودي هذه؛ موضحًا أن العالم يقدم صورًا عديدة لإسرائيل. لكن إسرائيل تقدم صورة واحدة فقط لنفسها: أن تكون دائمًا على وشك التوقف عن الوجود، على وشك الاختفاء.
وتؤكد ليبستات أنه بالنسبة إلى رويدوفيتش، فإن نظرة اليهود لأنفسهم “الاحتضار الدائم”، هي في الواقع آلية للتأقلم النفسي، نوع من المشاعر الفردية والجماعية الوقائية. ذلك أنه من خلال توقع الأسوأ، يتمكن اليهود من حماية أنفسهم من أن يُصدموا بالمنعطفات السيئة للأحداث. الجانب السلبي هو أن هذه النظرة إلى العالم يمكن أن تصبح الهوية الجماعية لليهود.
وخِتامًا، قدمت ليبستات كتابًا ممتازًا، في الوقت المناسب، يمزج بين الدقة والعاطفة. وكما تقول بوضوح، قد يجد بعض القراء أنفسهم متفقين معها في بعض المواضع، وغاضبين مما تقوله في مواضع أخرى.
وربما هذا هو الذي يجعل الكتاب شائقًا، ومثيرًا للتحدي، ويستحق القراءة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[i] المترجم: في إشارة إلى أحاديث عابرة تتم، على سبيل المثال، خلال حفل عشاء، حيث يقول أحدهم “إن شركتنا وظفت مؤخرًا زميلًا جديدًا، إنه يهودي، لكنه أمين حقًا”. وهكذا، عادة ما تسمع مثل هؤلاء الأشخاص يقولون إن اليهود جيدون، لكن يظلون غير واثقين في اليهود بشكل عام، ويريدون استبعادهم من مجتمعاتهم، ونواديهم، إلخ.
[ii] المترجم: انظر الشرح السابق.
[iii] المترجم: الصالحون بين الأمم؛ هو مُصطلح أُطلق على سكان أوروبا وشمال أفريقيا من غير اليهود، لتكريم الذين ساعدوا في إنقاذ اليهود خلال محرقة الهولوكوست.
[iv]المترجم: أوشفيتز بيركينو أو معسكر أوشفيتز للاعتقال والإبادة كان معسكر اعتقال وإبادة أقامته ألمانيا النازية أثناء الاحتلال النازي لبولندا خلال الحرب العالمية الثانية.