مقدمة المحرر:
تعرض الكاتب السعودي مشاري الذايدي لحملة “اغتيال معنوي” إثر مشاركته في برنامج بقناة “الإخبارية السعودية” السعودية يوم 28 يونيو 2021، تناول فيه مرحلة “الصحوة في المملكة العربية السعودية. وقد استضافه الصحفي والإعلامي السعودي طارق الحميد في برنامج التلفزيوني “الموقف”، على قناة “السعودية” يوم 8 يوليو 2021، على خلفية هذه الحملة. وقد طرح الذايدي خلال اللقاء مجموعة من الآراء والأفكار المهمة حول الإسلام السياسي والتيار الصحوي وتحديات المرحلة.
والذايدي إعلامي وكاتب شبه يومي في جريدة الشرق الأوسط، وقدم لسنوات خمس منذ 2005 برنامجه اليومي “مرايا ” على قناة العربية، وبدأ مشاري الكتابة في جريدة المدينة السعودية العام 2000 ثم مجلة المجلة وجريدة الوطن السعودية، وعمل محررا في جريدة المدينة، قبل أن ينتقل إلى الشرق الأوسط ويصبح كاتباً ومحرراً على صفحاتها منذ 2003 ثم كبير المحررين في جريدة العرب الدولية كما كانت توصف قبل أن يكتسح الإنترنت العالم وتتقهقر الصحف خطوات إلى الوراء. ويمتاز الذايدي بعمق الفكرة والإحاطة والثقافة الواسعة، وبإلمام نادر بالثقافة والشريعة الإسلامية، إضافة إلى متابعته لكل مايجد على الساحة العالمية سياسياً وفكريا. كما أنه وجه مألوف على القنوات السعودية ومنها العربية محللآ ومعلقا.
أبرز ما قاله الذايدي خلال الحلقة.
تصل مدة الحوار الذي أجريته على قناة الإخبارية إلى 18 دقيقة، وقد اجتُزئت منها دقيقة ونصف الدقيقة، ثم اجتزئ من الدقيقة ونصف الدقيقة عشرون ثانية لتصبح موضوع حملة التشويه، وهذا “تتفيه” وتسطيح للموضوع، فقد تحدثت عن دراسة للأكاديمي السعودي ناصر الحجيلان، تحت عنوان “اللازمة اللغوية الدينية في كلام السعوديين.. أنماطها ووظائفها الثقافية”، نُشرت عام 2006، وورد فيها أن فترة “الصحوة” التي تحولت إلى مشروع اجتماعي وتعليمي متكامل في السعودية في الثمانينيات، أحدثت تغيرات سوسيولوجية بدت مظاهرها في اللغة المُستخدمة، فتبدلت “شكرًا” إلى جزاك الله خيرا، وتحولت “آلو” إلى “السلام عليكم”.
بين الطرح العلمي والمهزلة
دراسة الدكتور ناصر الحجيلان، هي رصد وتحليل لمجتمع في فترة تحول، حيث تترك عليه فكرة معينة آثارها في كل المجالات، مثل الطعام والمشرب والملابس والأزياء وطريقة تأثيث المنازل واللغة المستخدمة. وقد انتشر الجزء المُقتطع من المقابلة بكثافة، والتقطه المتطرفون وأنصار التيار الصحوي ليوجهوا إليَّ اتهامات بكراهية الإسلام ذاته والهجوم على كل ما يمت إليه بصله. وبذا تحول الأمر إلى مهزلة بعد أن كان طرحًا علميًّا، فاللغة كائن حي ينمو ويتطور وتدخله مفردات وتسقط منه أخرى وفقًا للتطور الاجتماعي.
وليست هذه الهجمة وهذا الأسلوب في الاجتزاء والتشويه بالأمر الجديد، فهما يعودان إلى أكثر من عقدين، وما تغير هو الوسيلة فقط، فبعد أن كانت “المنتديات” سابقًا ساحة لمجموعات المهاجمين المنظمة ومُروِّجي تُهم التكفير والزندقة، أصبح “تويتر” هو المنصة الجديدة. وقد تعرضت ومعي مجموعة من الكتاب السعوديين لمثل هذا التشويه حين واجهنا تنظيم القاعدة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، ووصفنا أعماله بأنها “إرهاب”، في حين كان الرأي العام السعودي يؤيد ابن لادن ويسميه “الشيخ أسامه”، قبل أن يبدأ ابن لادن والقاعدة تنفيذ أعمالهما الإرهابية في السعودية نفسها ويتغير الوضع.
لا تستفزوهم!
لقد قرأت الردود على مقابلة قناة “الإخبارية”، ولفت نظري – في خضم الحملة عليَّ – الدعوة إلى أن “لا نستفز هذه الشريحة” من الرأي العام، وهذا كلام سمعناه كثيرًا في مناسبات مختلفة وفي مواجهات سابقة وضرورية مع المتطرفين. والحقيقة أنه مع كل خطوة نحو الانفتاح الفكري والمجتمعي سابقًا، وحتى في العصر الزاهي الحالي لتطوير المجتمع وتمكين المرأة يُقال “لا تستفزوهم”. وهذا المنطق استنزاف للسعودية، ولو خضعنا له لما تقدَّمنا خطوة واحدة، فالتحريض على التفكير هو الوظيفة الأساسية لأصحاب الرأي والمثقفين والمفكرين. ويُقال لنا أحيانًا: أين كنتم من الصحوة وقت تغلغلها وتضخمها؟ وأقول إننا لم نبدأ المواجهة اليوم، وأرشيف الصحف والتلفزيون شاهد على ذلك. ولقد واجهنا “حزب الله” اللبناني وحماس حينما كانا ضمن البقرات المقدسة، وحين كانت مقالات الصحف تمجد حسن نصر الله وخالد مشعل. وهذا كله موثق ويمكن العودة إليه.
الآن تتصاعد وتيرة استهداف المملكة عبر “تويتر” من خلال بث محتوى ضخم يركز على قضايا سعودية داخلية كالبطالة وأسعار البنزين، في ثنايا هاشتاغات مثل “القدس تنتفض”، ويضم هذا المحتوى كمَّا هائلًا من المعلومات المغلوطة والشائعات بهدف إشغال الرأي العام. ويمكن الإشارة إلى أن الهاشتاغ الذي عارض قرار خفض مكبرات صوت المساجد، أُطلق من غزة، وكان نشطًا في كندا ودول خارجية أخرى. وقد اعتمد على تضخيم المغالطات والشائعات عبر آليات تقنية منظمة تجعله سائدًا ومنتشرًا بقوة في موقع “تويتر”.
حديث ملهم وجريء
ويحيلنا ذلك إلى الأسئلة المهمة عمن يقف وراء ذلك الاستهداف الرقمي، وكيفية مواجهته، وآلياته، لأن أغلب الهاشتاغات التي حظيت بالتفاعل تُدار بشكل منظم من الخارج. وتعزيز الوعي ضد الخطاب المتطرف وآلياته نقطة جوهرية في هذا الصدد، من أجل التصدي للاستهداف الممنهج. وللأسف، فإنه لا الدولة ولا المجتمع يقومان بما يكفي في مجال التوعية.
إن رؤية 2030، تقوم على عدة مرتكزات: اقتصادي، وتنموي، وإداري، وفكري. وهذا المرتكز الأخير أوضحه الأمير محمد بن سلمان بجلاء في مقابلات ولقاءات إعلامية، حذّر فيها من الإسلام السياسي، وقال إن تيار السرورية أخطر من الإخوان المسلمين، وهذا الحديث الملهم والجريء هو الوقاية الحقيقية لنا من تعثر تجربة الانفتاح. ويجب أن نترجم هذا التوجه الفكري الجريء في برامج دائمة مبنية على محتوى فكري صلب، وليس حملات مؤقتة لمواجهة الأفكار الضالة، التي لا تقتصر على التيار الصحوي وغيره من أشكال التطرف الديني، بل تشمل كذلك التيارات النسوية المتطرفة، والتيارات اليسارية المتطرفة أيضًا.
الأمير محمد بن سلمان ومعيار الاعتدال
يقول المتصيدون إنني كنت متطرفًا، وهذا ليس سرًّا، فقد اعتنقت أفكار التطرف فترة من حياتي قبل عام 1995، لكنني لم أتحول إلى “التطرف المضاد” وفق ما يدَّعون، فقد ناديت بعد انعتاقي من التطرف بقيادة المرأة للسيارة، والانفتاح المجتمعي والفكري، وعدم الانجرار وراء فكر الإخوان المسلمين ومشاريع “حماس” وحزب الله” اللبناني وتنظيرات سيد قطب، أي إنني اتجهت نحو الاعتدال وليس التطرف.
أعرف أن الكل يدعي الاعتدال، ولذا يلزم تعريف الاعتدال بدقة، لأن من الضروري في هذه المرحلة أن يكون لدينا توصيف لما يشهده المجتمع السعودي من آراء، فنحن نعيش في ظل حرب فكرية. والتوصيف والتصنيف من مهام العلم، وهذه مهمة الجامعات ومراكز الأبحاث والفكر التي ترصد وتحلل التحولات والانقسامات. ومثل هذه الدراسات والجهود حول التيارات والجماعات والاتجاهات المجتمعية، متطرفة ومعتدلة، تُكسب صاحب القرار ذخيرة معرفية وقدرة عالية على اتخاذ القرارات الصحيحة من خلال توقع ردود الفعل المختلفة لهذه الجماعات والتيارات وغيرها وفقًا لمرجعياتها الفكرية وانتماءاتها الاجتماعية.
وأعتقد أن التعريف الأوضح للاعتدال يتمثل في كلمات الأمير محمد بن سلمان التي قال فيها: “أنا أربط الاعتدال بالالتزام بالقوانين، وكل ما التزم بمبدأ الدولة وقوانين الدولة ولم يخرج عليها فهذا هو الاعتدال”، وأوضح سموه أن الرأي الشخصي لا يمكن التحكم فيه، لكن في اللحظة التي يخرج فيها الرأي إلى العلن ويؤثر في السياق الاجتماعي نفعًا أو ضرًّا فإنه يصبح نشاطًا عامًا، ويخضع للتقييم، وأن ما يكون اعتدالًا في مرحلة ما قد لا يكون اعتدلًا في غيرها وفقًا للسياق. وأوضح سموه أنه في مرحلة ما كان هناك اعتماد على ما يسمى الدعاة، لكن الأمر تغيرَّ الآن.
ومن جهتي أرى مشكلة في استخدام كلمة “الدعاة”، فهي مصطلح قرآني معروف، لكنك يمكن أن تنظر إلى توظيفها لتصبح مصطلحًا سياسيًّا حركيًّا لدى بعض الجماعات الباطنية السرية في الإسلام، مثل الفاطمية أو النزارية المستعلية التي انشقت عنها جماعة “الحشاشين”.
حين تتظاهر عاريات الصدور للإفراج عن الإخوان المسلمين!
يزعم المتصيدون والمتربصون أنني وغيري ممن يواجهون الإسلام السياسي والتطرف وجماعاتهما لا نهاجم الليبرالية. والحقيقة أنه إذا اعتُبر اليسار لب الليبرالية، فإنه لا يمكن لأحد أن يزايد على منتقدي الإسلام السياسي السعوديين في معاداة اليسار المتطرف، فقد كتبنا مواد غزيرة في مواجهة التيار الأوبامي. وشخصيًّا، فقد كتبت كثيرًا عن معايير هوليود في فرض تطبيع المثلية الجنسية وهاجمت الاستخدام المغرض لعناوين مثل البيئة والنسوية (الفيمنست). واليسار الليبرالي متحالف الآن مع التيارات التي تستهدف المملكة من الخارج، على النحو الذي نراه في نموذج النائبة الأمريكية إلهان عمر، فهي صومالية مسلمة محجبة تنتمي إلى فكر الإسلام السياسي، لكنها تنزل إلى مظاهرات الشوارع وتنادي بحقوق المثليين وترفع علمهم. ويمكن أن نرى ذلك أيضًا في حركة “فيمن”، التي تظاهرت عضواتها عاريات الصدور أمام السفارة المصرية مُطالبة بالإفراج عن الإخوان المسلمين، وهي صورة سيريالية تمامًا. ولقد وصل الإسلام السياسي الشيعي إلى الحكم في العراق، والإخوان المسلمون إلى الحكم خلال الربيع العربي بمساندة من أوباما.
إنهم يستعدون للانقضاض
أخيرًا، يخطئ من يظن أن الإخوان المسلمين والإسلام السياسي في حالة ضعف، فهم لا يزالون على قوتهم، ويواصلون يشنون حملاتهم العنيفة، وخاصة مع وجود إدارة بايدن، ويجب ألا تشغلنا الأضرار البسيطة التي تعرضوا لها عن الصورة الكبيرة، وهي أنهم يهيئون أنفسهم لموجة جديدة مما يُسمى “الربيع العربي”، ويجب أن نستعد لذلك.