فرهاد خسروخافار، المدير السابق للدراسات في كلية الدراسات العليا للعلوم الاجتماعية في باريس، هو أحد علماء الاجتماع المعاصرين الأكثر تميزًا. تركز بحوثه على علم الاجتماع في الإسلام المعاصر، وعلى المشكلات الاجتماعية والأنثروبولوجية للإسلام في فرنسا، وعلى الفلسفة والعلوم الاجتماعية.
في كتابه الذي نعرضه هنا «النزعة الجهادية في أوروبا»، يستعين خسروخافار بفئتين من المعلومات: البحوث الأكاديمية من ناحية، والتقارير الصحفية والسير الذاتية، والمقالات من ناحية أخرى. من جانب آخر، فإن أحد المصادر الرئيسة لتحليل النزعة الجهادية في هذا الكتاب تعتمد على بحوثه السابقة عن السجون والمناطق المحرومة في فرنسا.
علاوة على ذلك، اختار المؤلف 105 أشخاص من البيانات العامة المتاحة له. لم يكن العديد من الأشخاص الذين قابلهم جهاديين، بل كانوا متعاطفين معهم إلى حد ما، وجاء معظم الجهاديين من بيئتهم الاجتماعية، حيث معظمهم من بين الشباب في المناطق الفقيرة، من أصل مهاجر، وجرائم جنائية متعددة باسمهم.
فيما يتعلق ببنية الكتاب، تتضح وفرة المفاهيم ووجهات النظر الرئيسة عند قراءة عناوين فصول الكتاب:
- المجتمعات الأوروبية والنزعة الجهادية
- ميلاد الدولة الإسلامية وتأثيرها على الشباب الأوروبي
- الثقافات الفرعية للإهانة ومكافحة الإهانة
- الجماعات الجهادية
- الجهاديون والأسرة
- الأمم الأوروبية وجهادييها
- البيئة الحضرية الجهادية
- الخلايا الجهادية الأوروبية والدوافع التي تقف وراءها
من بين المفاهيم العديدة التي يتناولها هذا الكتاب بالتحليل، ما يستحق اهتمامًا خاصًا من قبل دارسي قضايا الإرهاب، ومنع التطرف العنيف، ومكافحته. ومن الفصول الغنية بشكل خاص: “الجهاديون والأسرة”. ووفقًا للمؤلف، فهناك أربعة أنواع رئيسة من الأسر الجهادية، يجب أن نكون على علمٍ بها:
- الأسرة الأبوية بلا عائل، حيث يمكن أن يحل فيها العنف بديلًا عن السلطة؛
- الأسرة التقليدية الجديدة؛
- الأسرة الربيبة (التي يكون فيها أولاد يعيشون مع زوجة أب أو زوج أم) وأزمة السلطة؛
- الإخوة الجهاديون (Jihadi Fratriarchy)
بالنسبة لخوسروخافار، كلمة “fratriarchy”، تعني في المقام الأول الإخوة، ولكنها تشمل أيضًا أبناء العم أو غيرهم من الشبان داخل الأسرة، الذين ينجذبون في كثيرٍ من الأحيان إلى أخٍ أكبر كبديلٍ لسلطة الأب الغائب. إن الحقيقة البنيوية للعديد من الآباء الغائبين في الضواحي تُعتبر في حد ذاتها دليلًا على التأثير التخريبي للمجتمعات الغربية على السكان المسلمين في أوروبا.
إن تنازل الأب عن دوره يزيل مصدرًا محتملًا للاعتدال؛ لأن الجيل الأكبر من المسلمين في الغرب أقل تطرفًا بشكل ملحوظ من أولادهم، ومن ثم فإن ترك القيادة داخل الأسر لأخ أكبر من المرجح أن يتأثر بتيارات عصره، وبالتالي يدفع أقاربه الأصغر سنًا نحو العمل العنيف. وحتى عندما لا يكون الإخوة الأكبر سنًا متطرفين، فإنهم يفتقرون إلى السلطة الأخلاقية نفسها التي يتمتع بها الآباء، ما يزيد من صعوبة منع الأخوة الأصغر من السير على طريق المتطرفين. وداخل عائلة شابة منقسمة، يمكن أن يصبح الجهاد العامل المشترك الذي يجمعهم معًا. وينتقل الكتاب إلى توضيح عدد من هذه الحالات.
الفكرة الأخرى المثيرة للاهتمام للغاية التي يقدمها المؤلف هنا هي الأسرة الجهادية/ المحبة للجهاديين “jihadophile family”. يتميز هذا النوع من الأسر بحقيقة أن جزءًا كبيرًا من الأسرة ينضم إلى تنظيم داعش أو إلى تنظيم جهادي آخر (أو حتى يشجع الآخرين على الانضمام إليه).
في هذه الحالة، لا يوجد صراع بين الأجيال: الأسرة، لا سيّما الأب والأم -وأحيانًا الأعمام والعمات أيضًا- ينحازون إلى أولادهم، الذين عادة ما يبادرون بالانتقال إلى المناطق التي يسيطر عليها جهاديون، أو تضع الأسرة مواردها تحت تصرف ذريتها من أجل تزويدهم بالوسائل اللازمة لتحقيق أهدافهم. ويكمن الفرق بين هذا النوع من الأسر، وتلك التي يطلق عليها “الإخوة الجهاديون”، في حقيقة أنه في الأسر المحبة للجهاديين، يلتزم جيل الآباء برؤى الأبناء، وهو ما لا يحدث في أسر “الإخوة الجهاديون”.
وإذ كان يتعين علينا الاختيار من بين قدر هائل من الأفكار، يوجد فصل مهم آخر بعنوان “البيئات الحضرية الجهادية”، أي البيئات الحضرية التي تضم أعدادًا أكبر من العملاء الجهاديين مقارنة بالأماكن الأخرى، وهي فكرة تذكرنا بمراكز التطرف. في العديد من الدول الأوروبية، تُشكّل المناطق الموصومة والمحرومة التي تضم نسبة عالية من المهاجرين العرقيين من العالم الإسلامي بؤرًا للتطرف. السمات المميزة لهذا النوع من البيئة الحضرية هي انتشار المشكلات الاقتصادية والبطالة والوصم والسجن والتطرف، إلى جانب أزمات الهوية العميقة.
وختامًا، يثبت فرهاد خسروخافار من خلال كتابه أنه قادر على تزويد القراء بمفاهيم جديدة حول النزعة الجهادية في أوروبا والتطرف كظواهر اجتماعية متعددة الأوجه. الرسالة الرئيسة لهذا الكتاب الرائع، المهم في مجال دراسات الإرهاب، هي أن النزعة الجهادية في أوروبا تنبع بشكل أساسي من بيئتها، وترتكز على الخيال المعاصر، والنظرة العالمية في أوروبا، التي تشمل الحقائق الاجتماعية والثقافية والاقتصادية في كل مكان من حولنا.