عين أوروبية على التطرف
يدين كتابُ «الجهاز السري: الإخوان المسلمون وصناعة الموت» بصورةٍ قوية ومحددة الإخوانَ المسلمين من جانب، والدول الغربية مثل الولايات المتحدة، من جانبٍ آخر، لعجزها عن اكتشاف الخطر الذي يمثّله الإخوان.
وينطلق الكتابُ من أطروحةٍ رئيسة مفادها أن جماعة الإخوان المسلمين، التي تأسّست منذ قرابة قرن من الزمن (1928)، تشكّل تهديدًا أكبر بكثير من المتصور، فهي “حاضنة الإرهاب الإسلاموي الحديث في العالم”، و”أخطر جماعة متشددة”.
مؤلفة الكتاب، سينثيا فرحات، باحثة مصرية هاجرت قبل عقدٍ من الزمن إلى الولايات المتحدة، تخصصت في دراسة تنظيمات الجهاد الإسلامي، وتقدم المشورة لوكالات إنفاذ القانون الأمريكية، كما تدلي بإفاداتٍ أمام الكونجرس الأمريكي بشأن الإسلاموية والجماعات الجهادية.
عقود من البحث
ينبني موقف سينثيا الحانق على الجماعة، والواضح في كل صفحة من صفحات الكتاب، على دراسةٍ وبحث مستفيض للتنظيم، منذ أكثر من عقدين. وتهدي الكتاب تخليدًا لذكرى صديق عزيز، هو مايكل مسعد الناشط الليبرالي في مجال حقوق الإنسان الذي “قُتل على يد عناصر من الإخوان المسلمين”، خلال مذبحة ماسبيرو (2011).
على الرغم من أن الكتاب يبدو مدفوعًا بالاستياء العميق من جماعة الإخوان، فإنه يقدِّم حقائق ورواياتٍ دقيقة. ولا تعتمد الأبحاث والتحليلات والاستنتاجات الواردة في الكتاب على آراء أو ترجمات طرف ثالث، بل من النصوص الأصلية، وكلمات قادة الإخوان المسلمين أنفسهم.
كتب مقدمة الكتاب دانيال بايبس، رئيس منتدى الشرق الأوسط منذ تأسيسه في عام 1994. ومن أجل مساعدة القارئ على فهم الكتاب، وتقدير أهميته، قسّم محتوى فصول الكتاب الـ 13 إلى خمسة أجزاء رئيسة: العوامل المؤثرة في نشأة الجماعة، ومؤسس الجماعة، واستراتيجيات الخداع، والتأثير، والسياسة الأمريكية.
العوامل المؤثرة في نشأة الجماعة
ترجع سينثيا تشكُّل جماعة الإخوان إلى مصدرين رئيسيين. المصدر الأول: إيران والمذهب الشيعي. وعلى حدِّ تعبيرها، كان للحشاشين في العصور الوسطى التأثير الأكبر على تشكيل جماعة الإخوان، وهو أمرٌ كان ممكنًا بفضل عملية “التقريب”؛ أي الجهد المبذول لتضييق الخلافات الدينية بين الشيعية والسُنّة، بهدف إعادة تأسيس الخلافة، وشن الجهاد المشترك ضد أعدائهم المشتركين.
تذكّرنا المؤلفة بأن المٌنظِّر الإيراني جمال الدين الأفغاني ربما كان “أهم شخصية في إحياء الإسلاموية” لأنه جمع بين الجمعيات السرية الغربية، والدعوة الإسلامية السريّة. واعتمد مؤسس جماعة الإخوان المسلمين حسن البنا بشكلٍ كبير على هذا الإرث لإنشاء “المعادل في القرن العشرين لطائفة الحشاشين”.
في منتصف فترة الستينيات، استغل علي خامنئي وقته في سجن إيراني لترجمة اثنين من الكتب الرئيسة للإخوان المسلمين التي ألفها سيد قطب، إلى الفارسية، وشهدت الثورة الإيرانية في 1978-1979 تأسيس فرع للإخوان المسلمين رسميًا في إيران.
وأقام الجانبان روابط جديدة في أعقاب الإطاحة بحسني مبارك في عام 2011، عندما دعمت جماعة الإخوان المسلمين بحماس برنامج إيران النووي. ومن هذا السجل الطويل، تخلص المؤلفة إلى أن “الإخوان المسلمين والتعاون الإيراني هو واحد من أخطر العلاقات وأكثرها تعقيدًا في عالم السياسة الدولية والجهادية والإرهاب العابر للحدود”.
المصدر الثاني للتأثير على تشكيل الإخوان كان، وفقًا للمؤلفة، مجموعة مُنتقاة من الأيديولوجيات والقوى الغربية الحديثة: القيصر “حجي” فيلهلم الثاني، ودعايته في الحرب العالمية الأولى، والنازيون (خاصة وحشية كتيبة العاصفة)، والسوفييت (خاصة أفكار لينين)، ونموذج (الشيوعية الدولية لستالين).
حسن البنا
يتمحور الجزء الثاني من الكتاب حول البنا، الذي لا يزال تأثيره مهيمنًا رغم وفاته منذ فترة طويلة. تصف المؤلفة فكرة الطاعة المتغلغلة في نفوس الأعضاء، والتي تصل إلى حد التدخل في أمورهم الشخصية. فمن المعروف أن كل عضو يجب أن يتعهد بالطاعة الكاملة للقائد، المعروف باسم المرشد العام. ويشارك مسؤولو الجماعة في كل جانب من جوانب حياة العضو، بما في ذلك الزيجات والأمراض والمصاعب، في الجهد المستمر للضغط على الفرد والسيطرة عليه.
وبعيدًا عن المسائل التنظيمية، شدّد البنا على موضوعين: الخلافة والموت. وعلى غرار كل جماعة جهادية تقريبًا في جميع أنحاء العالم، بدا أن العودة إلى الخلافة هي الحل لكل مشكلة، في حين أن تقديس الموت قادته إلى تمجيدها باستمرار. تشير عبارة “صناعة الموت” في عنوان الكتاب إلى بعض التصريحات المعبّرة التي أدلى بها البنا، التي يناقش فيها مجد الموت من أجل الإسلام: “الموت فن، وأحيانًا فن جميل على الرغم من مرارته، بل قد يكون أجمل الفنون إذا تم إنشاؤه على يد فنان بارع. لقد قدمه القرآن الكريم للمؤمن به وأجبرهم على الاعتزاز به ومحبته أكثر من غيرهم الذين يحبون الحياة… لن ينقذ المسلمون من واقعهم ما لم يتبنوا فلسفة الموت القرآنية ويعتنقونها كفنٍ، فن جميل حقًا”.
الخداع التاريخي
بعد ذلك، تقدم المؤلفة ثلاث رؤى رئيسة حول الخدع التاريخية الثلاثة التي مارستها جماعة الإخوان. تستند الخدعة الأولى إلى الازدواجية، أي وجود وجه عام حميد إلى حد ما، الجهاز العام، وميليشيا سرية شيطانية، الجهاز السري. وقد انخرطت الجماعة في خطاب مزدوج منذ عام 1951، يعبّر أحدهما بانتهازية عن القيّم الديمقراطية الليبرالية، والآخر عن “خطاب متطرف ومؤيد للإرهاب”.
يتعلق الخداع الثاني بممارسةٍ قامت بها الجماعة، حيث وجهت الأعضاء إلى قطع العلاقات رسميًا معها وإنشاء فروع تبدو غير ذات صلة. على سبيل المثال، الجماعات السلفية المختلفة في مصر تجعل جماعة الإخوان المسلمين تبدو معتدلة، ونجحت حركة حماس في صبغ الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي بالعنف الذي أصبح نموذجًا لفروع الإخوان المسلمين الأخرى.
ينطوي الخداع الثالث على التسلل: “يتسلل الجهاز السري منهجياً إلى الأحزاب السياسية، والجيوش، ووكالات الاستخبارات، ووسائل الإعلام، والنُظم التعليمية، والمنظمات الحكومية وغير الحكومية، وغيرها من الجماعات المؤثّرة ويخرّبها من الداخل”.
التأثير
يتمحوّر الجزء الرابع من الكتاب حول مفهوم “الجهاد الحضاري”، الذي تُعرّفه المؤلفة بأنه مجموعة كاملة من الأعمال القانونية، والعمليات السرية والتسلل، والتخريب الثقافي والسياسي، وتجنيد الأشخاص داخل الأوساط الأكاديمية والعسكرية والاستخباراتية، ووكالات إنفاذ القانون، والوكالات الحكومية الأخرى.
مصر نموذج للجهاد الحضاري في جميع أنحاء العالم. ترى المؤلفة أنه منذ أواخر الخمسينيات، تمتلك جماعة الإخوان المسلمين المصرية سيطرة كاملة تقريبًا على جامعة الأزهر، وموظفو الأزهر يسيطرون فعليًا على الفرع التشريعي للحكومة، بحكم قدرتهم على صياغة القوانين أو فحصها قبل إحالتها إلى البرلمان. وترى الكاتبة أن عملية الجهاد الحضاري “أكثر ضررًا” من العنف.
السلوك الأمريكي
يركِّز الجزء الأخير من الكتاب على السياسات قصيرة النظر التي تنتهجها الولايات المتحدة تجاه تهديدات الإخوان المسلمين. وهنا، يتضح شعور المؤلفة بالانزعاج لنجاح عمليات الخداع التي يمارسها الإخوان المسلمون: “المصطلحات المبطّنة عاملٌ يسهم في التسلل إلى الحكومة الأمريكية، وقد أدّى إلى سياساتٍ دعمت جماعة الإخوان المسلمين”. وترى المؤلفة أن جماعة الإخوان تمثل تهديدًا وجوديًا، ويجب على واشنطن تجريمها من خلال تصنيفها “منظمة إرهابية”.
الخلاصة
الإخوان المسلمون يستخدمون مصطلحات الدين كسلاح، ويسمِّمونها بتعريفاتٍ عنيفة غريبة عن الغالبية العظمى من المسلمين. وتعمل الجماعة التي تأسّست قبل 94 عامًا كدولةٍ داخل الدولة، تمتلك أجهزة عسكرية واستخباراتية ودبلوماسية وتعليمية موازية عبر الحدود الوطنية.
وتحذِّر الكاتبة من أن الإدارات ووكالات الاستخبارات الغربية التي تعتقد أنها تستطيع توظيف الجهاديين كحلفاء لمصلحتها واهمة. وترى أن تكتيك التحالف مع الجماعات الجهادية منهجية تعطي بطبيعتها ميزة للإسلامويين بسبب استراتيجيتهم طويلة الأجل، ومهمتهم القائمة على الدين. لذا، فإنهم سيفوزون دائمًا في هذه المعادلة.
والأهم من ذلك، أن صبر النُسَّاك الذي يمارسه الإسلامويون يتيح لهم السيطرة على الدورات السياسية قصيرة الأجل، وحتى الذاكرة قصيرة الأجل في الغرب. فمشروعهم خطة طويلة الأجل. يمكنهم الانتظار والتكيّف وتغيير صورتهم، لكنهم باقون.
وختامًا، فكتاب «الجهاز السري: الإخوان المسلمون وصناعة الموت» يشع شغفًا، ويمتاز بالتوثيق الجيد، ويعين القارئ على رؤية الصورة الأكبر، وفهم سبب وجود الإخوان، واستراتيجياتهم، وروابطهم العابرة للحدود الوطنية.