د. سامي مبيض**
منذ أيامٍ قليلة، طلب الرئيسُ التركي رجب طيب أردوغان، من البرلمان التركي، تفويضًا لمدة عام لإرسال قواتٍ تركية إلى ليبيا، دعمًا لحكومة فايز السراج، التي تخوض معارك صعبة ضد المشير خليفة حفتر، وتأتي هذه الخطوة المثيرة للجدل بعد أيامٍ فقط من ظهور وكلاء تركيا السوريين في شوارع ليبيا. لقد تم إرسال المرتزقة مسافة 2,000 كم من بلدٍ مزقته الحرب إلى آخر من قِبل رئيس دولة ثالثة. لقد بدَت مؤشراتُ ذلك واضحةً منذ شهور، ففي شهر أغسطس دمَّرَت قواتُ حفتر قاعدة عسكرية تركية قيد الإنشاء في مصراته، التي تقع على بعد 200 كم شرق طرابلس(1). وأكد حفتر مرارًا وتكرارًا أن أردوغان يزوِّد السراج بالأسلحة والأموال، في تحدٍ واضح للحظر الذي تفرضه الأممُ المتحدة على ليبيا بأسرها.
السوريون في ليبيا
لقد أظهر مقطعا فيديو على شبكات التواصل الاجتماعي مقاتلين سوريين في ليبيا، ما دفع بعضَ المحللين للتكهن بأنهم أعضاء في “فرقة السلطان مراد”، فيما رأى آخرون أنهم أعضاء في “فيلق الشام”. يظهر مقطع فيديو رجلًا يقول إنه جاء إلى ليبيا للدفاع عن الإسلام والحفاظ على رايته(2). ورغم أن لهجته السورية لم تترك مجالًا كبيرًا للشك في جنسيتهم، لكن السراج نفى هذا الادعاء، وأصر على أن هذه اللقطات تخص مدينة إدلب الشمالية الغربية في سوريا(3).
الجدير بالذكر أن “فيلق الشام” قد ظهر لأول مرة في عام 2014 كاندماجٍ بين عددٍ من الميليشيات، جميعها مرتبطٌ رسميًا بالفرع السوري للإخوان المسلمين. وقد حاول “فيلق الشام” أن ينأى بنفسه عن التنظيم المحظور، على أمل الحصول على أموالٍ خليجية لحربه ضد القوات الإيرانية في سوريا، من دون نجاح(4). وحتى شهر نوفمبر الماضي، كانت قواته لا تزال موجودة بشكلٍ واضح في إدلب، حيث تجمعت بعد مغادرة ريف حلب في أواخر عام 2016. الشيء ذاته ينسحب على “فرقة السلطان مراد” -التي سُميت نسبة إلى سلطانٍ عثماني سابق- التي كانت تتمركز في مدينة عفرين السورية، بعد قضائها على مسلحين أكراد مرتبطين بحزب العمال الكردستاني، في منتصف عام 2018(5).
تفويض برلماني
يأمل رئيسُ البرلمان التركي مصطفى سينتوب في دعوة أعضاء البرلمان التركي للتصديق على مقترح أردوغان بحلولِ الثاني من يناير، قبل انعقاد مؤتمر الأمم المتحدة بشأن ليبيا الشهر المقبل في برلين، وقبل وصول الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى تركيا في 8 يناير. وتجدر الإشارة إلى أن بوتين يقف إلى جانب حفتر ضد دعم أردوغان للسراج.
يحظى المقترح المقدم إلى البرلمان التركي، بالفعل، بالدعم الكامل من كلٍّ من “حزب العدالة والتنمية” و”حزب الحركة القومية”، اللذين يستحوذان -مجتمعين- على 339 مقعدًا من أصل 589 مقعدًا(6). ومع ذلك، لكي تستطيع القوات التركية إحداث فارق كبير، هناك حاجة لإرسال قوة برية لا تقل عن 3000 جندي، مدعومة بقوات مشاة مدرعة وميكانيكية، وطائرات حربية، وطائرات القيادة والسيطرة (أواكس). وهذا بعيد كل البعد عن طلب السراج الذي يتمثل في تزويده بقرابة 200 شخص لتدريب وتجهيز قواته في معركته النهائية ضد الجنرال حفتر(7).
الدفع بالقوات التركية و1,600 من المقاتلين السوريين قد لا يحسم المعركة، لكن من شأنه أن يجرَّ ليبيا إلى حالةٍ غير مسبوقة من العنف وانعدام القانون(8).
منطقة آمنة في ليبيا
يأمل أردوغان أن تتمكن الوحدة المشتركة من القوات التركية والسورية من فرض منطقة آمنة تصب في صالح دعم السراج في ليبيا، وهذا يشبه مشروعًا عمل عليه بلا كللٍ، في سوريا، وحققه في شهر أكتوبر الماضي. والجدير بالذكر أن المنطقة الآمنة السورية كانت أصغر بكثير من طموحات أردوغان الأصلية، حيث يبلغ عرضها 100 كم فقط وعمقها 32 كيلومترًا، في حين كان يسعى إلى منطقة بعرض 460 كيلومترًا وعمق 35 كيلومترًا. في حالة ليبيا، يتمثل الهدف الرئيس من مثل هذه المنطقة الآمنة حماية العاصمة طرابلس من حفتر والجيش الوطني الليبي.
علاوة على ذلك، في 25 ديسمبر، قام أردوغان بزيارة تونس، على أمل تشكيل جبهة موحدة ضد حفتر مع تونس والجزائر، وسعيًا للوصول إلى المجال الجوي، والقواعد، والمياه التونسية، وهي أمور ضرورية لكي تؤتي تحركاته ثمارها في ليبيا. وحتى الآن، لا يبدو أن الحكومة التونسية مستعدة للتورط في مثل هذه العملية الجامحة، التي من شأنها أن تلحق الضرر بعلاقاتها مع الدول الاستراتيجية في المنطقة؛ مثل الإمارات، والسعودية، ومصر. وقد حاول التونسيون التوسط بينه وبين حفتر، لكن أردوغان أبى، مفضلًا الخيار العسكري فقط(9).
طموحات فاشلة
أردوغان يشعر بالضعف والعزلة في جميع أنحاء العالم العربي. ذلك أن مشروعه الخاص بسوريا لم يتحقق إلا في جزء صغير من الأراضي التي كان يطمح إليها في الأصل، في حين تم وأد أحلامه بالكامل في مصر من خلال الإطاحة بمحمد مرسي، عضو جماعة الإخوان في عام 2013. وهكذا، تلاشى أمله في استعادة النفوذ في كلا الدولتين، مما دفعه إلى التوجه صوب ليبيا عسى أن تكون المحطة الأخيرة التي يمكنه من خلالها توسيع النفوذ التركي -ومواجهة نفوذ منافسيه- في العالم العربي وشمال أفريقيا.
وهنا تنبغي الإشارة إلى أن وكلاء تركيا السوريين مدربون تدريبًا جيدًا على حرب العصابات، كونهم يقاتلون طوال عقد كامل، ومن ثم بإمكانهم المساعدة في تدريب المقاتلين الليبيين وتلقينهم وتجهيزهم بشكل أفضل. وهكذا، تروق لأردوغان فكرة استنساخ النموذج السوري في ليبيا. ففي سوريا، تمكن من اقتطاع رقعة كاملة من الأراضي على الحدود السورية التركية، وإنشاء منطقة آمنة، وفرض نفسه على العملية السياسية، من خلال تحالف تكتيكي مع روسيا وإيران. وهكذا، يأمل في تكرار هذا النموذج من استخدام المكاسب العسكرية ليصبح وسيطًا سياسيًا في العملية الليبية في عام 2020، سواء من خلال الأمم المتحدة أو من خلال تجمع خاص بمحادثات سلام بشأن ليبيا على غرار محادثات أستانا للدول المعنية.
الإرهاب المستقبلي
كلمحة على ما قد يحدث في ليبيا في الفترة المقبلة، ضربت ثلاثُ هجمات إرهابية بنغازي في الصيف الماضي، ويُعتقد أن تنظيم داعش هو من نفذها. واستنادًا إلى حجم التغطية التي حصلت عليها في الصحافة التركية، من الواضح أن تلك الهجمات كانت نعمة مُقنعة للرئيس التركي، الذي أراد أن يرسل رسالة مفادها أنه إذا سقط السراج، فسوف يظهر داعش مجددًا في ليبيا.
والآن أصبحت عودة داعش أكثر احتمالًا مع انتشار الفوضى في أعقاب التدخل التركي المزمع. ذلك أن التنظيم يتمتع بوضع جيد، حيث تتوفر لديه كميات كبيرة من الأسلحة في جميع أركان ليبيا الأربعة، وشبكات تهريب مخيفة في الصحراء الداخلية للدولة تمتد إلى فرع داعش في سيناء (أنصار بيت المقدس) وحتى غزة (سرية عمر حديد). إن إدخال متمردين سوريين من الذين عملوا جنبًا إلى جنبٍ مع جماعات متطرفة مثل “جبهة النصرة”، فرع “تنظيم القاعدة” في سوريا، يمكن أن يوفر بيئة أكثر خصوبة للتشدد الإسلامي.
المخاوف لا تقتصر عند حد تهريب أردوغان للأسلحة والمقاتلين بالوكالة إلى ليبيا، بل قد يقود الأمر إلى إمكانية زيادة الرقعة التي يسيطر عليها السراج. ويمكن استخدام الأموال -وربما القليل منها نسبيًا- لشراء الولاءات، لا سيما في دولة مدمرة، يتفشى فيها الفقر.
وختامًا، لقد أضحى التطرفُ في ليبيا قضيةً أمنية خطيرة، تؤثر على الدول المجاورة بما في ذلك الدول الأوروبية. وقد تشهد هذه المرحلة من الحرب انتشارَ مثل هذه الأيديولوجيات، وترسُّخِها، مع تصاعد العنف، وتكشف أجندات الدول التي لا تعبأ سوى بمصالحها.
*يسعى موقعُ «عين أوروبية على التطرف» إلى نشرِ وجهاتِ نظرٍ مختلفة، لكنه لا يؤيد بالضرورة الآراء التي يُعبِّر عنها الكتّابُ المساهمون، والآراء الواردة في هذا المقال تُعبِّر عن وجهةِ نظر الكاتب فقط.
**باحث وأستاذ جامعي سوري، متخصص في الدراسات التاريخية، عمل باحثا في مركز كارنيجي، مؤلف كتاب: تحت الراية السوداء- على مشارف الجهاد الجديد”، صدر في 2015.
المراجع:
[1] Mahmoud, Khaled. “Libyan National Army destroys plans to build Turkish base in Misrata,” Alsharq Alawsat (August 17, 2019): https://aawsat.com/english/home/article/1862626/libyan-national-army-destroys-plan-build-turkish-base-misrata
[2] “Jadal baad Tadawol mashahed lil Jaysh al-Souri al-Hurr fi Libya” (Controversy after circulation of scenes of the Free Syrian Army in Libya” Sputnik (December 31, 2019): https://tinyurl.com/u7mlab9
[3] “Maktab al-Sarraj yanfi Sihat Makate’ Video Tuzhir Tawajod Muqatileen Souriyeen fi Libya” (Sarraj’s office refutes video claims that show Syrian fighters in Libya) Russia Today (December 29, 2019): https://tinyurl.com/vf4pbny
[4] “The Sham Legion: Syria’s Moderate Islamists,” Carnegie Endowment for International Peace (April 15, 2014): https://carnegie-mec.org/diwan/55344?lang=en
[5] “Over 1,600 Syrian fighters in Turkey readying for Libya”, Ansa Med (December 30, 2019): http://www.ansamed.info/ansamed/en/news/sections/generalnews/2019/12/30/over-1600-syrian-fighters-in-turkey-readying-for-libya_92dbb877-40a0-4ae1-81e8-69213dd74ad4.html
[6] Bilgic, Taylan & Kozok, First. “Turkey’s Erdogan seeks a one-year mandate to send troops to Libya” Bloomberg (December 31, 2019): https://www.bloomberg.com/news/articles/2019-12-30/turkey-s-erdogan-seeks-one-year-mandate-to-send-troops-to-libya
[7] Gurcan, Metin. “Could Turkey’s military capability match Erdogan’s ambition in Libya,” al-Monitor (December 31, 2019): https://www.al-monitor.com/pulse/originals/2019/12/turkey-russia-libya-military-capacity-erdogan-ambitions.html
[8] “Over 1,600 Syrian fighters in Turkey readying for Libya”, Ansa Med.
[9] Gurcan, “Could Turkey’s military capability match Erdogan’s ambition in Libya”.