مقدمة
غاضبٌ، مرتبك، انتقامي، وسيئُ التنظيم. يبدو أن الشخص الذي لم يكشف عن اسمه الذي حاول مهاجمة شارلي إيبدو الأسبوع الماضي يتقاسم العديد من السمات مع مهاجمين سابقين مماثلين، وإن كان أكثر فتكًا. فبالمقارنة مع الفترة الممتدة من عام 2015-2016، شهدتِ السنوات الثلاث الأخيرة تراجعًا في الهجمات الجهادية في أوروبا، ومن ثم تراجع التحذير العام بشأن هذا النوع من العنف. والآن بعد مضيّ فترة من عدم التعرض للعشرات من الهجمات الكبيرة والمتوسطة والصغيرة الحجم التي واجهناها في السابق، فإن الوقت مناسب لتحسين قدرتنا على فك رموز الإشارات الضعيفة وتقييم التهديدات الخافتة ورصدها.
يمثل الهجوم الأخير الذي استهدف شارلي إبدو مثالًا على ذلك، حيث سبقه وتبعه عدد من الأعمال والبيانات التواصلية من قبل الجماعات الجهادية والإسلامية والدعاة على حد سواء، التي لم يلاحظها أحد في الغرب وهذه الأمور تستحق مراقبة لصيقة.
الهجوم
في 25 سبتمبر، أصاب شخص يبلغ من العمر 18 عامًا من أصل باكستاني، شخصين بساطور يُستخدم في تقطيع اللحم في باريس. وقد اعترف بنيّته استهداف المكاتب السابقة لمجلة شارلي إيبدو الساخرة. غير أن المشتبه به، وهو أمر شائع لدى غيره من الجهاديين الطامحين، أظهر نوعًا من السذاجة المتهورة، ولم يدرك أن مقر المجلة قد نُقل إلى مكانٍ سري بعد مذبحة يناير 2015 التي ارتكبها تنظيم داعش ضد موظفيها. وذكرت التقارير أن المهاجم المشتبه به عَزَا أفعاله بإعادة المجلة نشر رسوم كاريكاتورية للنبي محمد (ص)، تزامنًا مع بداية محاكمة أربعة عشر شخصًا متهمين بالمشاركة في هجوم عام 2015.
الجدير بالذكر أن المبنى الذي كان يضم مكاتب تشارلى ايبدو تستخدمه الآن شركة الإنتاج التليفزيوني “بريميير ليجنيس”، والضحيتان في هجوم يوم الجمعة؛ هما رجل وسيدة كانا يعملان هناك. وذكرت شرطة باريس أنهما في حالة حرجة لكنها “غير مهددة للحياة”. وهناك ثمانية أشخاص آخرين محتجزين لدى الشرطة بسبب الهجوم، بمن فيهم زميل سكن سابق للمشتبه فيه الرئيس. ويندرج التحقيق تحت بند “محاولة قتل تتعلق بعمل إرهابي”.
فك رموز الإشارات الضعيفة والتهديدات الخافتة
ردًّا على إعادة نشر الرسوم المثيرة للجدل، أصدر تنظيم القاعدة -وعلينا أن نتذكر أن تنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية قد أعلن مسؤوليته عن هجوم عام 2015- تهديدات أخرى ضد المجلة. وفي 11 سبتمبر، حذرت نشرة “أمة واحدة” من أنه “إذا لم تحترم حريتك في التعبير الحدود، عليك أن تستعد لمواجهة حرية أفعالنا”. وقبل ذلك بأسابيع قليلة، ذكّرت “صوت الهند”، التي ينشرها أنصار داعش في الهند على الإنترنت، المسلمين في جميع أنحاء العالم بأن “الحكومات التي تعيشون في ظلِّها توفر الدعم والحماية الكاملين لكل شخص يهاجم نبينا الحبيب، تحت عباءة حرية التعبير”.
بالمقارنةِ مع مرحلة الإرهاب الجهادي التي كانت قائمة قبل بضع سنوات، تبدو هذه التهديدات عامة وغامضة. ولكن ماذا لو، من خلال اعتبار هذه التهديدات مجرد حفنة من الاستعارات المحفوظة، كنا نفوّت فرصة لتحسين قدرتنا على فك رموز الإشارات الضعيفة، ونحافظ على التركيز الدائم على أي نوع من الرسائل العنيفة؟ ماذا لو، كما يبدو مستحيلًا، أن بضع سنوات هادئة نسبيًّا تقودنا إلى نسيان جزءٍ من بعض الدروس المستفادة، على سبيل المثال، أنه حتى التهديد العام يمكن أن يدفع فاعلًا وحيدًا لتنفيذ هجوم، وأن المهاجم الأقلّ تنظيمًا والعصامي يمكن أن ينفِّذ هجومًا فتّاكًا؟
يستخدم تحليل الحساسية، الذي يُعرف أيضًا باسم “تحليل ماذا لو” لمقارنة سيناريوهات مختلفة ونتائجها المحتملة على أساس الظروف المتغيرة. ومن شأن تغيير الافتراضات يمكننا ليس فقط اتخاذ قرارات أكثر وعيًا، بل أن نصبح أكثر قدرة على التنبؤ بنتيجة قراراتنا أيضًا.
أليس هذا عنفاً؟ حالة الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي
مع وضع هذا في الاعتبار ينبغي أن ندقِّق في الإشارات الضعيفة؛ مثل التصريحات التي صدرت عن الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي الذي هاجم، قبل أسبوعين فقط من الهجوم، جرائم شارلي إبدو المزعومة ضد الإسلام بطريقة غريبة.
في مقطع فيديو حاز قرابة 5,000 إعجاب (حتى 27 سبتمبر) يُذكِّر الواعظُ الموريتاني المستمعين بأن أي شخص يقف مع الإسلام يجب أن يتذكر الجرائم المتكررة التي صدرت من المجلة الفرنسية، وأي مؤمن لا يزال على قيد الحياة يُتوقع منه الآن أن يرد على ذلك. وفي وقتٍ لاحق، وفي منعطفٍ مثير للاهتمام، يركز الشنقيطي على استراتيجية المقاطعة، ويحض المسلمين في جميع أنحاء العالم على مقاطعة المنتجات والسلع والخدمات القادمة من فرنسا.
ورغم أن الشنقيطي واعظٌ في الأربعينيات من عمره، ويُزعم أنه أصبح حافظًا للقرآن في سن الثامنة، يقدم بذكاء خطابًا ليس عنيفًا صراحة، لكنه يحتوي على بذور الانقسام والصدام. وفي الواقع، حتى لو كان استياؤه لا يدعو إلى العنف الجسدي والهجمات الجهادية، فإنه يستخدم “المجاز المُرسل”، وهي سمةٌ نموذجية لأي خطاب متطرف. المجاز المرسل هو صورة بلاغية تستخدم جزءًا من شيء ما ليدل على الكل: وبالمثل، يحثّ الشيخ الشنقيطي المسلمين على معاقبة بلدٍ بأكمله على ما قرره طاقم تحرير إحدى المجلات. وعند فك رموز الإشارات الضعيفة والتهديدات الخافتة، سيتوقف مستوى التأهب عن الاعتماد على مدى وضوح هذه التهديدات، ويبدأ في التركيز على الكيفية التي يمكن أن تؤدي بها إلى العنف.
فيما يتعلق بدراسة الحالة الموجزة هذه، تجدر الإشارة أيضًا إلى أن الشنقيطي -شأنه شأن العديد من الدعاة المعاصرين الآخرين- تمكَّن من أن يصنع لنفسه حضورًا متطورًا على التلفزيون والإنترنت ويظهر بانتظام في وسائل الإعلام الإقليمية العربية. وفي العديد من مقاطع الفيديو يتحدث الشيخ بالفصحى، بدلًا من لهجته الأصلية، ما يؤكد أهداف التواصل للواعظ.
من الناحية السياسية، هو مُقرّبٌ للغاية من تركيا ورئيسها رجب طيب أردوغان، الذي دعا له أيضًا في عام 2018، مشيدًا بخدمات الزعيم التركي لشعبه وضيوفه. كما أن نشاطه الذي لا يَكلّ ضد إسرائيل، الذي بدأ قبل أكثر من عقدين من الزمن، قرَّبه إلى جميل منصور وبقية قيادة التجمع الوطني للإصلاح والتنمية – تواصل، الفرع الموريتاني لجماعة الإخوان المسلمين.
يُظهر الحزبُ خصائص وتكتيكات واستراتيجيات تشبه إلى حد كبير خصائص الإخوان المسلمين في دولٍ أخرى في الشرق الأوسط الكبير. وفي موريتانيا، على وجه الخصوص، استندت خطة أسلمة المجتمع من القاعدة إلى القمة إلى الطابع المتعدد الأعراق للنسيج الاجتماعي. والواقع أن حزب “تواصل” كان يحاول باستماتة التقرب للمجتمعات المختلفة، وأن يبدو شاملًا. وعلاوة على ذلك، خلال وباء كوفيد-19، حاولت جماعة الإخوان الموريتانية استغلال حالة الفقر التي تعانيها الدولة من أجل الظهور من جديد على الساحة السياسية، من خلال توزيع المساعدات الغذائية، والإمدادات الطبية. ومرة أخرى، الوصفة التي يتبناها الحزب هي مزيجٌ من تقديم الخدمات على أرض الواقع جنبًا إلى جنب مع الدعوة الإسلامية في كل مكان. وفي الوقت نفسه، فلا يزال الشيخ الشنقيطي، البارع في التكنولوجيا والكوزموبوليتاني (الذي يتمتع بحضور عالمي)، مرشدًا مهمًا للحزب.
الخلاصة
عقب الهجوم، قال وزير الداخلية الفرنسي جيرار دارمانين: “ما زلنا في حرب ضد الإرهاب الإسلاموي”. واستكمالًا لذلك، أكد رئيس الوزراء جان كاستيكس من جديد ما تحارب فرنسا من أجله، أي “تمسكنا الثابت بحرية الصحافة” وغيرها من الحريات، حتى في الوقت الذي يجب فيه أن تستمر عمليات مكافحة الإرهاب، وقد تتطلب “التعبئة الكاملة للأمة”.
إن التقليل من شأن البيانات والخطب والعظات العامة؛ مثل تلك التي أصدرها الشنقيطي تُعرِّض جهود مكافحة التطرف للخطر. قد تكون الإشارات ضعيفة وليست عنيفة بشكل علني، ولكنها يمكن أن تزيد الأرض الخصبة بالفعل خصوبة وتقود لمزيد من التطرف، في أوروبا وأماكن أخرى.