عرض: د. عبدالله فيصل آل ربح*
تتَّسم الخطواتُ التي تتم من خلالها عمليةُ تجنيد الأشخاص في الجماعات المتطرفة والإرهابية بعددٍ من القواسم المشتركة على نحوٍ واسع، فعادة ما يتم عزل الشخص عن العائلة والأصدقاء، وأيِّ شخصٍ لا يشارك الأفكار ذاتها ومنظومة المعتقدات لدى الأشخاص المسؤولين عن عملية التجنيد.
من جانبٍ آخر، يتعرض الشخص لعمليةٍ أشبه بإعادة تعريف لهويَّتهِ بما يتلاءَم مع الأفكار الجديدة التي عليه أن يتبناها، إلى جانبِ غرسِ عدم الثقة في “الجماعة الخارجية”.. إلخ.
وهكذا، تتشابه عملية التجنيد لضمِّ أشخاص إلى طائفة ما، واللافت أن عملية تحررهم من هذه الأفكار المغلوطة والكيفية التي تحدث بها يمكن أن تتشابه أيضًا. وبالتالي يمكن أن تكون الأدبيات المتعلقة بهذا الأمر مفيدة، وهي المتعلقة بآليات انضمام الأفراد إلى طائفة ما ثم الانسلاخ عنها. ويُعتبر الكتاب الذي بين أيدينا «عندما تفشل النبوءة» المنشور في عام 1956، من تأليف ليون فيستنجر، وهنري ريكن، وستانلي شاكتر1، نموذجًا كلاسيكيًّا في هذا الصدد.
نبوءة غير محققة
في فترة الخمسينيات، زعمت ربة منزل من ولاية ميتشيجن تُدعى ماريان كيش -واسمها الحقيقي دوروثي مارتن، كانت تعيش في مدينة شيكاغو- أنها تلقت رسائل من خلال “كتابة تلقائية” من “حراس الأرض”، في إشارة إلى كائنات فضائية من كوكب “كلاريون”. وقالت إن هذه الكائنات الفضائية حذَّرت من فيضان كارثي سيحل بكوكب الأرض كله، وأن الخلاص سيأتي في شكل صحون طائرة سينقذ القلَّة المختارة التي استمعت إلى رسالة الكائنات الفضائية، وفق ما نقلته ماريان.
عُرفت المجموعة المختارة باسم “الباحثين عن الحقيقة”، وقد تجنب أفرادها الدعاية في معظم الأحيان، ولم يقوموا سوى بعددٍ قليل من المقابلات مع الغرباء، ولم يسمح إلا لأولئك الذين يعتقد أنهم مؤمنون بمعتقداتها بالانضمام إلى المجموعة. ومع ذلك، نجح فيستنجر وعددٌ من زملائه الباحثين المتخصصين في دراسات علم الاجتماع باختراق المجموعة.
في منتصفِ الليل في 20/21 ديسمبر 1954 جاءتِ الساعة الحاسمة، واللحظة الموعودة، لكن الفيضان لم يحدث، ومن ثم لم تأتِ صحونُ إنقاذ. وبعد قرابة خمسِ ساعات من الانتظار الدامع وتأنيب الذات، كانت ماريان تخبر مجموعتها أنها كانت على موعد آخر من الكتابة التلقائية، حيث أرسلتِ الكائنات الفضائية رسالةً للمؤمنين مفادها أن نهاية الكوكب قد تأجلت، وأنهم (أي المؤمنين) قد أنقذوا الأرض من الدمار بإيمانهم وحسِّهم الديني اليقظ.
وكما هو الحال مع أتباع ويليام ميلر الذين أصيبوا بـ “خيبة أمل كبرى” قبل قرن من الزمان، وجد فيستنجر وآخرون أن معظم الباحثين “عزَّزوا” معتقداتهم في مواجهة فشل النبوءة. والمفارقة هي أن عدم تحقق معتقداتهم في العالم الحقيقي قد عزز الطائفة، ولم يُثنِهم عنها.
الإطار النظري
قبل تمكُّن فيستنجر ورفاقُه من التسلل إلى مجموعة نهاية العالم، كانوا قد طوروا أفكارًا تستند إلى دراسة وتحليل عدد من الحالات التاريخية لمجموعات شبيهة في محاولة للوصول إلى الكيفية التي تتشكل بها طائفة ما. وخلصوا إلى أن هناك إطارًا يشمل شروطًا خمسة (الصفحات من 7-8)؛ هي:
1) توفر اعتقادٍ قوي، يرتبط هذا الاعتقادُ بأفعال المؤمن وسلوكياته.
2) إيمانٌ تام بهذا الاعتقاد من قبل الشخص الذي يحمل المعتقد والتزامه به. وفي سبيلِ تحقق هذا الالتزام يجب أن يكون قد اتخذ بعض الخطوات والأفعال المهمة التي يصعب التراجع عنها. وبصفةٍ عامة، كلما كانت هذه الأمور أكثر أهمية، كان من الصعب التراجع عنها، ومن ثمّ كان التزام الفرد بالعقيدة أكبر.
3) يجب أن يكون الاعتقاد محددًا بما فيه الكفاية ومهتمًا بالعالم الحقيقي، بحيث يمكن أن تدحض الأحداث بشكل لا لبس فيه هذا الاعتقاد.
4) يجب أن تحدث مثل هذه الأدلة غير المتسقة التي لا يمكن إنكارها، ويجب أن يعترف بها الفرد الذي يحمل الاعتقاد.
5) يجب أن يكون لدى الفرد المؤمن الدعم الاجتماعي. فمن غير المرجح أن يتمكن أحد المؤمنين المعزولين من تحمل هذا النوع من الأدلة غير المتسقة التي تم تحديدها. ولكن إذا كان المؤمن عضوًا في مجموعة من الأشخاص المقتنعين الذين يمكنهم أن يدعموا بعضهم بعضًا، فقد يتم الحفاظ على المعتقد، وقد يحاول المؤمنون التبشير أو إقناع غير الأعضاء بأن الاعتقاد صحيح.
تمثِّل هذه الشروط استراتيجية لحماية المعتقد من “التنافر المعرفي”. يهدف الشرطان الأوَّلان للحماية الشخصية للعقيدة من خلال تأكيد القناعة العميقة والالتزام الذاتي من أجل إعداد المؤمن لمقاومة أي تغيير. والشرطان الآخران يتعلقان بالضغوط القوية التي قد تُمارس على المؤمن للتخلي عن معتقده ومساعدته على تجاهل الضغوط في مواجهة التأكيد القاطع. وأخيرًا، يتضمن الإطار الدعم الاجتماعي لتعزيز حفاظ المؤمن على معتقداته بحماسة جديدة.
وبما أن نظام الاعتقاد -الذي يتمثل في هذه الحالة في النبوءة- يبدو كما لو أنه فشل، “[بندان] من بنود المعرفة متنافرين عن بعضهما البعض لأنهما لا يتوافقان معًا” (ص 25). يقترح فيستنجر وزملاؤه ثلاث طرق للحد من التنافر كما تمثله السمات الملحوظة لذلك التنافر (ص 26):
الأولى: قد يحاوِل الشخص تغييرَ معتقد أو أكثر من المعتقدات أو الآراء أو السلوكيات التي يعتريها التنافر. أو
الثانية: قد يحاول الشخص اكتساب معلومات أو معتقدات جديدة تعزز الاتِّساق القائم، وبالتالي يقلِّل التنافر التام. أو
الثالثة: قد يحاول الشخص تناسيَ تلك الإدراكات المتنافرة أو التقليل من أهميتها.
وإلا، فإن أعضاء المجموعة يحتاجون إلى “تعمية أنفسهم” بفعالية لمواجهة حقيقة أن النبوءة لم تتحقق من أجل الحدِّ من التنافر (أو التخلص منه) (ص 27).
النقد والاستنتاجات
إحدى المشكلات المباشرة في هذه الدراسة هي البيانات. نظرًا لكونها نوعية بطبيعتها، فإنها مستمدة من السجلات التاريخية المتصلة بدراسة الحالة “لقصة السيدة كيش”، وبيانات المشاركين، حيث تنطوي هذه الأخيرة على إشكالية لأن الخط الفاصل بين الملاحظة والمشاركة قد ثبت أنه يشكل تحديًا. وهي المشكلة الأوسع نطاقًا.
في السنوات الستين التي مَضَت منذ نشر هذا الكتاب، ظهرت مجموعةٌ كبيرة من الأدبيات، والسؤال المتكرر لدى العلماء حول مدى صحة الدراسة هو التأثير التحفيزي المحتمل على المجموعة من قبل المؤلفين ومساعديهم. في حين أن بعض العلماء يقولون إنه لا يوجد دليل على أن فيستنجر وزملاءه فعلوا أي شيء سوى جمع البيانات، وأنهم لم يؤثروا على البيانات، هناك خطوطٌ أخرى من النقد، حيث يرى البعض أن البحث يشوبه عدمُ الموضوعية والتحيز2.
بالنسبة لي، أرى أن النقدَ الذي يقول بأن النهج المتبع ضيِّقٌ جدًّا مقنعٌ، وأنه يمكن تقليل التنافر بوسائل أخرى غير مجرد التبشير، وهو أمر يردده عددٌ من العلماء3. في الواقع، يذهب أحد النقاد إلى حد القول إنه “لا توجد دراسة حالة لنبوءة فاشلة، بما في ذلك [دراسة فيستنجر]، تدعم فرضية التنافر المعرفي!4“
وهناك انتقادٌ ثان جدير بالملاحظة، أبسط بكثير وإن كان من الصعب تحديده كميًّا، هو أن المؤلفين لم يولوا اهتمامًا كافيًا للاحتياجات النفسية وتاريخ الأشخاص موضوع الدراسة. وهذا يعني أنهم أخفقوا في الأخذ بعين الاعتبار، بشكل كامل، وجهات النظر التي يتبناها هؤلاء الأشخاص تجاه العالم، التي جعلت الطائفة مُقنعة للغاية في المقام الأول، فضلًا عن ما هي الاحتياجات التي كان يرى هؤلاء الأشخاص (أي أعضاء المجموعة) أنها تتحقق عندما بدأ “العد التنازلي” إلى يوم القيامة أو نهاية العالم.
ولعل أكثر النقاط أهمية وعملية في الكتاب هي العواقب التي تترتب على النبوءة الفاشلة على الناس، أو بعبارةٍ أخرى كيف يتعامل الناس مع التنافر المعرفي، حتى لو لم يتم استخدام هذه العبارة. ماذا يفعل الأشخاص عندما تدحض الأحداثُ فلسفتهم؟ وعلى نحوٍ مماثل، في مجموعةٍ من المقالات الكلاسيكية عن الحرب الباردة التي حرَّرها ريتشارد كروسمان، بعنوان «الإله الذي فشل»، يوثِّق ستة مؤلفين مهمِّين في القرن العشرين إيمانهم بالشيوعية، ثم خيبة أملهم فيها في نهاية المطاف. وغنيٌّ عن القول إن هناك حالاتٍ أخرى مهمة، مثل الاعتقاد في الإسلاموية في العصر الحديث، سواء كانت تتمثل في الثوار الذين تخلوا عنها في إيران، أو المنشقين عن جماعة مثل تنظيم القاعدة.
ولا شكَّ أن كتاب «عندما تفشل النبوءة» يشكِّل نقطة انطلاقٍ ممتازة في دراسة هذه الظاهرة.
* أستاذ علم الاجتماع الديني والنظرية الاجتماعية بجامعة جراند فالي ستيت، ميتشجين، الولايات المتحدة
[1] Festinger, L., Riecken, H. W., & Schachter, S. (2011). When Prophecy Fails. Blackaburg, VA: Wilder Publication.
[2] Dein, S. (2001). “What Really Happens When Prophecy Fails: The Case of Lubavitch”, Journal of Sociology of Religion, Vol (62), N.3, pp.383-401.
[3] See, for example, Stone, J. R. (2000). Expecting Amageddon: Essential readings in failed prophecy. New York: Routledge. And also: Dawson, L. (1999). “When prophecy fails and faith persists: A theoretical overview”, Nova Religio Vol (3), pp. 60-82.
[4] Bader, C. (1999). “When Prophecy Passes Unnoticed: New Perspectives on Failed Prophecy”, Journal for the Scientific Study of Religion, Vol. 38, No. 1, pp. 119-131.