عين أوروبية على التطرف
في 7 ديسمبر 2022 اعتقلت السلطات الألمانية خمسة وعشرين شخصًا في مداهماتٍ في إحدى عشرة ولاية من أصل ست عشرة ولاية ألمانية. وسُرعان ما أعلنت السلطات إجهاض محاولة انقلاب يمينية متطرفة. وبتحليل الأدلة التي ظهرت في الأيام التي تلَت ذلك يبدو أن اليمين المتطرف يحتفظ بموطئ قدم في الحياة العامة الألمانية، بما في ذلك داخل الأحزاب السياسية القانونية التي تخوض الانتخابات. وأوضحت المداهمات أن مثل هذا الحدث لا تهاون في التعامل معه من قبل الحكومة الألمانية، ومن جانب آخر يبدو أن هذه القوى لا تمثّل (حتى الآن) تهديدًا خطيرًا للدولة، فهي تخضع في الواقع لمراقبة شديدة، ويمكن تحييدها بسهولة عندما تحاول فعل أي شيء، حتى لو بدا أنه يشكِّل خطرًا محتملًا.
حركة “مواطنو الرايخ”
من بين الرجالِ الخمسة والعشرين الذين اعتقلوا أعضاء سابقون في الجيش، والعديد من نشطاء اليمين المتطرف. إذا كان هناك كيان محدد يمكن اعتباره في قلب مؤامرة الانقلاب هذه، فهو حركة “مواطنو الرايخ”. تُعتبر هذه المجموعة -بدرجةٍ ما- تجمعًا لنظريات المؤامرة الغريبة.
وتجدر الإشارة إلى أن موقع “عين أوروبية على التطرف” كان من بين أوائل من نشروا تحليلًا متعمقًا حول هذه الحركة باعتبارها تحديًا أمنيًا، ففي عام 2019، كتبت ليندا شليجل تقريرًا لموقع عين أوروبية على التطرف أوضحت فيه أنه:
لا يمكن تصنيف حركة “مواطنو الرايخ” على أنها منظمة… ذلك أن الحركة تتألف من مجموعاتٍ منشقة متنوعة، ما يصعّب تقييم العدد الحقيقي لأعضائها. وقد صنّفت هيئة حماية الدستور الألمانية قرابة 18 ألف فرد كأعضاء في الحركة في عام 2018… ما يوحّد حركة “مواطنو الرايخ” هو منظومة معتقداتها المشتركة. أحد الأسس الأيديولوجية الرئيسة للحركة هو أن جمهورية ألمانيا الاتحادية غير موجودة، وليست دولة فعلية. وهكذا، يرون أن الرايخ الألماني (الإمبراطورية الألمانية) لم يسقط في عام 1945 وما زال يمثل السلطة الشرعية في ألمانيا، وأن الجمهورية الفيدرالية كيان غير شرعي، ويمثل احتلالًا أجنبيًا. ويعتقد أعضاؤها أنه نظراً لأنه لم تكن هناك معاهدة سلام رسمية، فإن الاحتلال مستمر حتى يومنا هذا. ومن ثم، فإن حكومة الجمهورية الاتحادية هي أداة لقوات التحالف بغرض منح الألمان إحساسًا وهميًا بأن ألمانيا دولة مستقلة وديموقراطية.
وبما أن الحركة ترى أن الحكومة الرسمية غير شرعية، فإنها بطبيعة الحال ترفض الامتثال لسلطة الدولة، بما في ذلك رفض دفع الضرائب. ويرى أتباعها أيضًا أن ممتلكاتهم الشخصية، بما في ذلك منازلهم، كيانات مستقلة، تقع خارج سلطة جمهورية ألمانيا الاتحادية. وترفض الحركة القانون الألماني الأساسي (الدستور) والنصوص القانونية الأخرى. وعلى هذا النحو -الاعتقاد بأن أجهزة الدولة بيادق أجنبية- أطلق أحد أعضاء الحركة النار على عددٍ من ضباط الشرطة في عام 2016…
ولم يقتصر الأمر عند هذا الحد، بل ذهبت مجموعات منشقة عدة أبعد من ذلك، فانتقلت من العصيان إلى إنشاء هياكل تنظيمية خاصة بها، على سبيل المثال، يلتزم ألكساندر شلواك، الذي نصَّب نفسه رئيسًا للحكومة الشرعية في المنفى للرايخ الألماني، وأنصاره بالقوانين التي صدرت من عام 1867 أو 1913 ويصدرون “جوازات الرايخ”، جوازات سفر بديلة للحالية.
وقد أشارت شليجل -في نهاية مقالتها في أوائل عام 2019- إلى أن الطبيعة المتباينة لحركة “مواطنو الرايخ” جعلتها أقل خطورة مما قد تكون عليه، ولكن كانت هناك زيادة في ملكية السلاح في ألمانيا، وكانت هناك منظومة متنامية عبر الإنترنت، حيث كانت الحركة وأفكارها تنتشر وتزداد تطرفًا، ما يفتح المجال لإمكانية أن يصبح هذا التحريض الأيديولوجي مصدر إلهام لنشوء “ذئاب منفردة”. علاوة على ذلك، وكما خلصت شليجل، فإن “الصراع مع السلطة أمرٌ أساسي في أيديولوجية الحركة”. والآن بدأ يحدث هذا.
مؤامرات في كل مكان
يمكن القول إن مؤامرة الانقلاب التي أحبطتها ألمانيا الأسبوع الماضي تأثّرت إلى حدٍّ ما بتمرد 6 يناير في الولايات المتحدة: ثمة اعتقاد بتأثر المعتقلين بحركة “كيوآنون” في الولايات المتحدة، وصوروا الحكومة الألمانية على أنها دمية تعيسة لـ”دولة عميقة” أسطورية. من الواضح أن هذا الاعتقاد ينسجم بسهولة مع الأفكار المعادية للسامية -القول بأن اليهود يتحكمون في هذه “الدولة العميقة”- مع تصوّر حركة الرايخ للدولة الألمانية على أنها كيان غير شرعي مفروض من قبل الأجانب و/ أو اليهود.
لذلك، فهناك بعض القواسم المشتركة مع الحركات اليمينية المتطرفة الدولية، وقبل كل شيء تلك الموجودة في الولايات المتحدة -ومن ذلك محاولة الأشخاص المرتبطين بحركة “مواطنو الرايخ” اختطاف وزير الصحة الألماني في أبريل احتجاجًا على عمليات الإغلاق، حيث كانت عملية على غرار حركات نظرية المؤامرة التي تقودها الولايات المتحدة- لكن العناصر الجوهرية للمؤامرة في ألمانيا حملت بصماتٍ ألمانية واضحة.
وفق الخطة، كان من المقرر انتظار “اليوم المحدد”، وفيه سيقتحمون البرلمان، ويستولون على السلطة، وسينصّبون الأمير هاينريش الثالث عشر، 71 عامًا، سليل البيت الملكي رويس الذي اعتاد أن يحكم أجزاء مما يُعرف الآن بولاية تورينجن الحرة في وسط ألمانيا، رئيسًا للدولة.
بمراجعة الأدلة التي كشفتها المداهمات، أشارت صحيفة نيويورك تايمز إلى أن الأمير هاينريش حاول التواصل مع الحكومة الروسية، التي ارتبطت بأنشطة تخريبية في جميع أنحاء الغرب، غالبًا من خلال التضليل والتجسس، ولكن في بعض الأحيان بشكل مباشر، مثل محاولة الانقلاب في جمهورية الجبل الأسود عام 2016. وكان هناك مسؤولة سابقة من الحزب السياسي اليميني المتطرف، حزب البديل من أجل ألمانيا اليميني المتطرف، بيرجيت مالساك وينكمان، التي كان من المقرر أن تصبح وزيرة العدل في النظام الجديد إذا نجح الانقلاب. إن الارتباط بروسيا، ووصول أمثال حركة مواطنو الرايخ إلى دوائر اليمين المتطرف “الرئيسة”، حول حزب البديل من أجل ألمانيا، أمرٌ مثير للقلق.
ومع ذلك، فإن الانطباع الذي انتشر على نطاقٍ واسع على وسائل التواصل الاجتماعي بأن الحكومة الألمانية قد منعت استيلاء نازي آخر في الوقت المناسب، خاطئ. من الواضح أن أولئك الذين اعتقلوا كان لديهم طموحٌ أيديولوجي للإطاحة بالنظام الدستوري الحالي في ألمانيا، ولكن الجدول الزمني للتحرك الفعلي على هذه الجبهة ليس ضبابيًا فحسب؛ بل من غير الواضح أنه كان سيحدث على الإطلاق، كما أشارت صحيفة “التايمز”:
ليس من الواضح مدى قدرة المتآمرين على تنفيذ مثل هذا الهجوم، ولا مدى قربهم من تنفيذ خطتهم: وفقًا لبعض مسؤولي الاستخبارات، فإن المجموعة قد أخفقت مرتين في شنِّ هجومها في المواعيد المقررة.
علاوة على ذلك، تُظهر بقية الأدلة مدى اختراق أجهزة الأمن الألمانية لهؤلاء المتآمرين.
الخلاصة
من الصعب تقييم مدى تأثير هذه الاعتقالات لأن حركة “مواطنو الرايخ” كانت بالفعل شبكة موزعة، وليست منظمة هرمية: ليس من الواضح، على سبيل المثال، مقدار الضرر الذي سيحدث من خلال اعتقال “القادة”.
من نواحٍ كثيرة، يُظهر هذا الحدث أن النظام الألماني فعّال. ومن المفارقات أن إحدى نتائج الدعاية قد تكون زيادة اهتمام المُنظّرين اليمينيين المتطرفين بالحركة، وفي ظلِّ المراقبة الأمنية التي تخترق صفوفها، قد لا تكون هذه النتيجة من قبيل المصادفة تمامًا. وإذا ما أصبحت أكبر وأكثر وضوحًا، فقد تصبح معتدلة نسبيًا.
لقد أشرنا سابقًا في عين أوروبية على التطرف إلى أهمية وضع تهديد اليمين المتطرف في منظوره الصحيح، على وجه التحديد بسبب عجزه عندما يتعلق الأمر بالقيام بعملٍ ملموس، وبسبب الرقابة الوثيقة للغاية التي تفرضها أجهزة الاستخبارات الغربية -تحديدًا في ألمانيا- على الجماعات اليمينية المتطرفة. كان كلا العاملين واضحين، فيما حدث الأسبوع الماضي.
وبقدر أهمية مواصلة اليقظة بشأن جميع الحركات المتطرفة، من المهم أن تظل المخاوف مبنية على حقائق. وباعتباره تحديًا أمنيًا في الغرب، ناهيك عن كونه تهديدًا لاستقرار الدولة، لا يزال الإرهاب اليميني المتطرف في ذيل قائمة الأولويات، والاعتقالات في ألمانيا الأسبوع الماضي هي تذكيرٌ بأنه من المرجح أن تظل هذه حقيقة دائمة.
حتى هذه اللحظة، حدث تقدم اليمين المتطرف في المقام الأول في المجال السياسي. وربما تترجم المكاسب السياسية -بمرور الوقت- إلى تهديدٍ عنيف خطير، ولكننا لم نصل إلى ذلك بعد.