أمجد خان*
في مايو الماضي، قال روبرت جنريك؛ وزير المجتمعات في بريطانيا إن التصاعد الذي حدث مؤخرًا في معاداة السامية، في أعقاب الصراع في غزة بين حماس وإسرائيل، يشير إلى انتعاش التطرف الإسلاموي في المملكة المتحدة. وأشار جنريك بشكلٍ خاص إلى عددٍ من الحوادث التي شهدتها العاصمة، لا سيّما مهاجمة حاخام ونقله إلى المستشفى في شرق لندن، وإطلاق تهديدات “بقتل اليهود واغتصاب بناتهن” من قافلة من السيارات في شمال لندن. وفي هذا الصدد، قال حاخام إن المملكة المتحدة تمر بأسوأ موجة معاداة للسامية، خلال الثلاثين عامًا الأخيرة. من جانبه، أرسل جيفين ويليامسون، وزير التعليم، مذكرة إلى المدارس طالبها فيها بتوخي اليقظة والحذر من حوادث معاداة السامية التي قد تنجم عن الاحتجاجات الطلابية المؤيدة لفلسطين.
ورغم أن التصعيد العنيف في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني الملتهب يؤدي في كثيرٍ من الأحيان إلى ارتفاع حاد في معاداة السامية في المملكة المتحدة، فإن شيئًا ما يبدو مختلفًا هذه المرة. إذ تستغل الجماعات الإسلاموية الصراعَ بشكلٍ لم يسبق له مثيل، وتؤجج مشاعر المظلومية والكراهية والانتقام المعتادة. ومن خلال تأطير الصراع في شكل ديني حصري، يتم تصويره على أنه وثيق الصلة بقرب نهاية العالم، وصراع كوني بين الخير والشر. وهي بذلك تسعى إلى إثارة الهستيريا الجماعية وإحياء حظوظها المتراجعة. على سبيل المثال، تقوم جماعة مثل “حزب التحرير”، التي كانت في السابق في حالة انحدار واحتضار، بتنظيم ما يشبه التجمعات التي نُظمت في جميع أنحاء المملكة المتحدة للدعوة إلى الجهاد.
إن مزيجًا من تدابير الإغلاق العام، والسوابق التي أرستها احتجاجات “حياة السود مهمة”، وحقيقة أن الجماعات الإسلاموية لم يكن لديها مظلمة تلتف حولها في السنوات الأخيرة، كلها ساهمت في هذه الجولة من الصراع التي تستولي عليها الفصائل المتطرفة بالطريقة التي نشهدها الآن. ويشير هذا التطور أيضًا إلى أن التطرف لم يزُلْ في الواقع؛ بل كان خامدًا لفترة من الوقت. والأمر الأكثر إثارة للقلق هو أنه لا يوجد على الإطلاق ما يمكننا القيام به حيال ذلك. فالمجتمع المدني، الذي تشتت انتباهه بسبب الحروب الثقافية التافهة وضيقة الأفق، غير مستعد لتحدي الأيديولوجية الإسلاموية المتطرفة بشكلٍ صريح، في حين يبدو أن الدولة المنفصلة عن بعضها البعض قد استنفدت صندوق أدواتها المحدود.
فلماذا نحن في هذه الفوضى وإلى أين نحن ذاهبون؟
على الرغم من وجود بعضٍ من أشد قوانين مكافحة الإرهاب صرامة في العالم، وبرنامج وقائي راسخ تدعمه الحكومة الحالية بالكامل، ما زال التطرف يزدهر في المملكة المتحدة. ومن وجهة نظري، فهناك ثلاثة أسباب رئيسة لذلك. أولًا، في عالم معولم ومتشابك، هناك، للمفارقة، تفاعل أقل بكثير بين الناس من ذوي وجهات النظر المختلفة، بسبب توافر غرف الصدى على نطاق واسع على الانترنت. ثانيًا، لا يمكن أن يتماسك مجتمع شديد التنوع دون خطاب شامل يقدم قيمًا ووحدة مشتركتين. ثالثًا، في ظل المناخ السياسي الحالي، حيث يضطر الجميع إلى أن يكونوا شديدي الحساسية، خوفًا من التسبب في الإساءة للآخرين، يكاد يكون من المستحيل تحدي الأيديولوجية الإسلاموية علنًا دون إلحاق ضررٍ كبير بسمعة المرء.
مجازًا، لعبت ساحة المدينة تقليديًا دورًا في تحقيق الاعتدال في آراء الآخرين وميولهم. إن مطالبتك بالتفاعل مع المحيطين بك، في غياب أشكال بديلة من التنشئة الاجتماعية، يعني أن درجة من الاستيعاب الثقافي المحلي أمر لا مفر منه. ففي مثل هذه الساحة العامة يمكن للمرء أن يتعلم تقدير وجهات نظر المحيطين بهم، ومواجهة ردود فعلهم النقدية على أفكار المرء نفسه من خلال التفاعل اليومي.
أما اليوم، فيمكن للفرد أن يتجاهل تمامًا المجتمع المحلي الذي يعيش فيه، وأن يطور مجتمعًا على الإنترنت من الأشخاص ذوي التفكير المماثل من جميع أنحاء العالم، وأن يخلق بيئة من وسائل التواصل الاجتماعي لا يسمع فيها إلا وجهات النظر التي يتفق معها ويؤيدها. ومن شأن حالة التفكك الناجمة عن العصر الرقمي الذي نحياه حاليًا أن يجعل الأفراد محصنين تمامًا من قِيَم مجتمعهم المادي، الذي ربما يجبرهم التعرض له على تعديل وجهات النظر الأكثر تطرفًا في الماضي.
نحن فخورون، في المملكة المتحدة، بتنوعنا وكوننا أمة متسامحة حيث يعني الشكل الهجين، الذي يجمع بين النزعتين المحافظة الليبرالية، أننا نسمح للناس بأن يكونوا كما يريدون بينما نحاول التشبث ببعض القِيَم الأساسية. والجدير بالذكر أن ارتفاع مستويات الهجرة من الاتحاد الأوروبي والكومنولث في العقود الأخيرة يعني أن معظم المدن البريطانية لديها الآن العديد من الثقافات الممثلة واللغات المنطوقة. والآن، قرابة 32% من أطفال المدارس الابتدائية في المملكة المتحدة هم من الأقليات العرقية وهذا العدد يرتفع إلى أكثر من 80% في داخل لندن.
ولكن من دون تاريخ مشترك أو دين أو ثقافة، ما الذي يوحدنا؟ القيّم البريطانية؟ الملكة؟ الديمقراطية؟ لا أعتقد أن هذا سؤال سهل الإجابة عليه. هل تهتم الدولة فقط بخلق قاعدة استهلاكية محلية مستقرة وقوة عاملة موثوقة لمصلحة الشركات الكبرى على حساب التماسك الاجتماعي؟ وأيًا كانت الإجابة، فإن هذا المشهد المجزّأ هو بالتأكيد، وبشكلٍ واضح، على المستوى المحلي الذي أعمل فيه، أرضٌ خصبة للمتطرفين، الذين يمكنهم تقديم ما يبدو أن العديد من الناس يفتقدونه في حياتهم، ولا يبدو أن المجتمع الرئيس يقدمه، أي الشعور بالانتماء والهدف والمغامرة.
في المناخ السياسي اليوم، ما هو تعريف العنصرية؟ ما هو تعريف التحيز الجنسي؟ ما هو تعريف الإساءة للآخرين؟ لقد كنت مهتمًا بالسياسة طوال حياتي، لكنني لم أعد أستطيع الإجابة عن هذه الأسئلة. يبدو أن تعريف ما هو مقبول في الخطاب العام يتغيّر بسرعة كبيرة، ولا يوجد أي اعتبار لحقيقة أن الناس بحاجة إلى وقت للتكيّف. إن أية حجة تقريبًا تنتقد منظورًا لدى مجتمع يصادف أنه أقلية في المملكة المتحدة -أو حتى انتقاد الجماعات التي تخرج من داخل مجتمعات الأقليات، ولكن لا تُمثِّله، مثل حزب التحرير- يمكن، بل غالبًا ما تُعتبر، متعصبة وتفتقر إلى التقدير الثقافي.
لا أستطيع إحصاء عدد المرات التي كنت أُضطر فيها، كممارس في مجال مكافحة الإرهاب من أصول أقلية، للصمت خلال الحديث عن الإرهاب والتطرف خوفًا من أن أبدوَ كمن يكره ذاته (خلفيته العرقية). يبدو أن لدينا حساسية أعلى من العقل، وشفقة تفوق الفهم.
لعل الأمر الذي يجعل النقاش المعقول أكثر صعوبة هو استخدام بعض المصطلحات كسلاحٍ لخنق وجهات النظر المعارضة. على سبيل المثال، قبل بضع سنوات كنا جميعًا نعرف بالضبط ما تعنيه كلمة “عنف”. ولكن كلمة “عنف” الآن تُستخدم لوصف لغة يمكن اعتبارها مسيئة أو وقحة. ولا يمكن لهذا التحوّل الثقافي إلا أن يؤدي إلى نتيجة واحدة ممكنة: خنق شامل وتام للنقاش حول أي شيء مثير للجدل عن بعد من خلال، ما هي في الواقع، قوانين التجديف العلمانية.
الإسلامويون وأيديولوجيتهم يمثلون مشكلاتٍ حقيقية في الغرب، ما يجعل من المستحيل على التيار الرئيس في المجتمعات مناقشتهم، ومن ثم تُترك القضية في أيدي الجماعات الهامشية. والنتيجة هي تعزيز موقف المتطرفين من خلال سياسة نتبناها باسم التسامح.
وختامًا، فإن روبرت جنريك محق في قلقه، وينبغي أن نكون جميعًا كذلك. ولكن ينبغي علينا أيضًا أن نعي دورنا في تعزيز مناخ وثقافة تزدهر فيهما الأيديولوجيات المتطرفة. والأهم من ذلك، فإن الاتجاهات الموصوفة، أعلاه، تشير نحو الأسوأ، وليس الأفضل. وهذا يعني أن احتمالات التشدد والتطرف أصبحت أكبر. وبالنظر إلى حقيقة أن الطبقة السياسية الحالية في بريطانيا هي أسوأ طبقة رأيتها في حياتي، ويكاد لا يكون لدينا معارضة، فلا أعرف من أين سيأتي التغيير. ما أعرفه هو أنه لا يمكننا الاستمرار في تعزيز مجتمع مجزّأ ومفكك، ولا نتوقع أن يحدث أي خطأ.
*خبير بريطاني متخصص في مكافحة التطرف