في المملكة المتحدة، أشعلت قضية دولية معقدة نقاشًا ساخنًا، له تداعيات قانونية وأخلاقية وسياسية وأمنية عميقة. يعتمد التطور الأخير على حكمٍ مثير للجدل: كان على المحكمة العليا في المملكة المتحدة أن تقرر ما إذا كان بإمكان شميما بيجوم؛ تلميذة في مدرسة في لندن سافرت إلى سوريا في عام 2015 للانضمام إلى ما يسمى بتنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، أن تعود إلى وطنها للدفاع عن نفسها. وفي نهاية المطاف، في 26 فبراير، قال رئيس المحكمة إن القضاة قرروا بالإجماع الحكم برفض طلب بيجوم.
قضية بيجوم مؤشر على مشكلة أكبر
لا تزال بيجوم البالغة من العمر 21 عامًا، التي جُرِّدت من جنسيتها في فبراير 2019، تقبع في مخيم روج، مخيم احتجاز صغير في شمال شرق سوريا. عندما أعادت الصحافة الدولية اكتشافها في ذلك الوقت، كانت في مخيم آخر أكبر، هو الحول. أثارت بيجوم حالة من الاشمئزاز في بريطانيا، عندما أعربت عن تعاطفها المستمر مع التنظيم الجهادي في المقابلات الإعلامية، وبعض التعاطف عندما فقدت ابنها حديث الولادة في مارس 2019.
وفي السنوات الأخيرة، ظهرت حالات مماثلة في جميع أنحاء أوروبا وخارجها. ورغم التراجع العام في اهتمام الجمهور بالقضية، فإن مشكلة المقاتلين الأجانب لم تختف. ولا يزال آلاف الجهاديين وعائلاتهم محتجزين في سوريا والعراق، في وضع معلق محفوف بالمخاطر. إضافة إلى ذلك، فإن التعامل مع هؤلاء الأشخاص يمثل تحديًا كبيرًا لجهود مكافحة الإرهاب في عصرنا، خاصة بالنسبة لأوروبا.
أظهرت الموجة الأخيرة من المسافرين الجهاديين، المتوجهين إلى سوريا والعراق، وتيرة ونطاقًا غير مسبوقين. وتشير التقديرات المتاحة إلى وجود ما لا يقل عن 40,000 شخص (معظمهم من الرجال البالغين، وكذلك النساء والأطفال)، من أكثر من 100 دولة. ومن بين هؤلاء المتطوعين، جاء أكثر من 5,000 من أوروبا، مع اختلافات كبيرة من بلدٍ إلى آخر. الجدير بالذكر أن حوالي 80 % منهم ينتمون لأربع دول: فرنسا (حوالي 1,900 فرد)، وألمانيا (أكثر من 1,000)، والمملكة المتحدة (أكثر من 900)، وبلجيكا (أكثر من 500) فرد.
ووفقًا للتقديرات الأخيرة، فلا يزال ما بين 1,000 و1,100 مقاتل أجنبي أوروبي في مخيمات أو سجون في سوريا، في حين لا يوجد سوى بضع عشرات منهم في العراق. لدى هؤلاء خلفيات، ودوافع، وانتماءات، ومسؤوليات مختلفة.
الحكومات الأوروبية مترددة في استعادة الجهاديين
حتى الآن، تبنت الحكومات الأوروبية سياسات وطنية مختلفة، لكنها تتشارك عمومًا في التردد فيما يتعلق بإعادة مواطنيها إلى وطنهم، مع استثناءاتٍ قليلة جدًا (على وجه الخصوص، كوسوفو، بمساعدة من الولايات المتحدة الأمريكية)، على الرغم من الطلبات المتكررة من واشنطن، لا سيما بعد الهجوم التركي على شمال سوريا في أكتوبر 2019.
ومن المثير للاهتمام أنه في حين تعطي الحكومات في العديد من المناسبات الانطباع بالإفراط في رد الفعل بعد الهجمات الإرهابية، فإن الدول الأوروبية في هذه الحالة متهمة بالتقاعس في مواجهة المخاطر المتنامية. كلا النوعين من الاستجابة يمثل إشكالية. ولا يستند التقاعس الكبير للدول الأوروبية في الإعادة إلى الوطن إلى نقص المعلومات عن القضية والمخاطر التي تنطوي عليها. وعلاوة على ذلك، لا توجد مقاومة حقيقية مدفوعة أيديولوجيًا. بل على العكس من ذلك، يبدو أن هذا هو مزيج من النيّة المتعمدة لعدم التحرك (خاصة عندما يتعلق الأمر بالذكور البالغين) والتردد السلبي، نتيجة لأوجه قصور وقيود حقيقية.
وعلى وجه التحديد، يمكننا التمييز بين أربعة أسباب رئيسة لمثل هذا التقاعس: القضايا القانونية، والمخاطر السياسية المحلية، والتكاليف الاقتصادية، وقبل كل شيء، المخاوف الأمنية:
- من وجهة النظر القانونية، يمكن أن تشكّل محاكمة الجهاديين العائدين في الداخل تحديًا كبيرًا. فليس لدى جميع الدول الأوروبية أدوات قانونية مناسبة للتعامل بنجاح مع الإجراءات الجنائية ضد هؤلاء الأفراد: ففي عددٍ قليل من البلدان، على سبيل المثال، لا يعتبر القتال في دولة أجنبية في حد ذاته جريمة. وعلاوة على ذلك، فإن جمع الأدلة ذات الصلة في سوريا والعراق، ليس بالأمر السهل، كذلك فإن “الأدلة في ساحة المعركة” من مناطق القتال قد لا تعتبر دائمًا مقبولة في الإجراءات القضائية. ونتيجة لهذا النوع من المعوقات، اعترفت السلطات البريطانية في فبراير 2019، على سبيل المثال، بأن واحدًا فقط من كل عشرة جهاديين (قرابة 40 من أصل أكثر من 400) عادوا من سوريا إلى المملكة المتحدة، قد حوكموا بنجاح.
- المخاطر السياسية المحلية ليست أقل أهمية. في العديد من الدول الأوروبية، لا تحظى فكرة “إعادة استيراد” الأشخاص، إن جاز القول، الذين يحتمل أن يكونوا خطرين -لا سيما البالغين الذين غادروا بلادهم طوعًا، على عكس الأطفال، للانضمام إلى الجماعات الجهادية المسلحة في الخارج- بشعبيةٍ كبيرة. وتفضل الحكومات أو على الأقل بعض أحزاب الأغلبية تجنب اللوم المحتمل. وعلاوة على ذلك، وبشكل عام، وكما يمكن لعلماء السياسة العامة أن يعلمونا، فمن الصعب إلقاء اللوم على صناع القرار لعدم القيام بشيء ما بدلا من فعله. ولعل أبلغ حالة في هذا الصدد جاءت من النرويج. في يناير 2020، خسرت رئيسة الوزراء في أوسلو أغلبيتها البرلمانية، عندما سحب حزب التقدم اليميني وزرائه لمعارضته استعادة سيدة يشتبه في انتمائها إلى داعش مع طفليها من سوريا، لأسبابٍ إنسانية (احتاج طفل واحد إلى علاج طبي).
- كما أن تحمل مسؤولية هؤلاء الأفراد قد يتطلب استثماراتٍ اقتصادية كبيرة (وجزئيًا لوجستية)، على الأقل بالنسبة للدول التي لا تزال لديها أعداد كبيرة نسبيًا من المواطنين في سوريا والعراق، مثل فرنسا (قرابة من 150-200 شخص بالغ و200-250 طفلاً). وقد لا تكون تكاليف النقل، والمحاكمات، والمراقبة، ومبادرات إعادة تأهيل المتطرفين، وإعادة الإدماج المحتملة، وغيرها من النفقات، هينة، بل والأهم من ذلك أن هذه التكاليف قد تعتبر غير مستدامة، عندما تقترن بالأعمال العدائية السياسية.
- وأخيرًا، علينا أن ننظر في خطر إعادة الأشخاص المحتمل أن يكونوا خطرين، خاصة إذا كان العائدون لا يزالون يتمسكون بالأيديولوجية الجهادية، ولا يزالون مهتمين باستخدام العنف أو على الأقل الترويج له لتحقيق أهدافهم المتطرفة.
التهديد الأمني للمقاتلين الأجانب العائدين
هذا السبب الأخير لتردد الحكومات الأوروبية هو أسوأ سيناريو: المقاتلون الأجانب العائدون يستغلون صلاتهم وخبرتهم القتالية وأوضاعهم الاجتماعية التي اكتسبوها في مناطق النزاع لدعم أو حتى تنفيذ أعمال العنف بشكل شخصي. وهذا ليس أمرًا مستبعدًا لأن العديد من هؤلاء الأشخاص كانوا على طريق الإرهاب قبل مغادرتهم. في أوروبا، معظم الجناة الجهاديين يكونون معروفين لدى السلطات قبل هجماتهم، ومع ذلك فلا يمكن إيقافهم. إضافة العائدين يزيد من التهديد في أوروبا.
وعلاوة على ذلك، فإن الحوادث الإرهابية التي وقعت مؤخرًا في أوروبا، مثل عملية الطعن على جسر لندن عام 2019 وإطلاق النار في فيينا في عام 2020، أظهرت بالفعل أن بعض الجناة الجهاديين المراقبين على الأقل قادرون على إخفاء معتقداتهم وخططهم الحقيقية بمهارةٍ حتى فوات الأوان للقيام بأي شيء حيال ذلك. وفي هذا السياق، إذا ارتكب مقاتل أجنبي أعيد إلى وطنه هجومًا إرهابيًا بالفعل في دولة أوروبية، فكيف يمكن للحكومة أن تتجنب اللوم المباشر؟
ومع ذلك، ووفقًا للبيانات الموثقة الأخيرة، من بين الجهاديين الـ 101 الذين ارتكبوا عملًا إرهابيًا في أوروبا منذ إعلان الخلافة المزعومة في 29 يونيو 2014، لم يكن سوى خمسة عشر منهم من العائدين، على الرغم من أن بعضهم ارتبط بهجمات خطيرة في الفترة 2015-2017، مثل إطلاق النار على مقر مجلة شارلي إبدو، وهجمات باتاكلان في عام 2015، وتفجيرات بروكسل في عام 2016.
وبغض النظر عن قيام مثل هؤلاء بتنفيذ هجمات أم لا، فإن إعادة المقاتلين الأجانب الجهاديين إلى الوطن من شأنها أن تزيد من العبء الملقى على عاتق وكالات مكافحة الإرهاب الأوروبية التي تنشغل بالفعل بمراقبة آلاف الجهاديين المشتبه بهم، في خضم الجائحة العالمية الحالية.
وثمة مشكلة إضافية: حتى لو تم سجن الجهاديين بتهمةٍ ما، على الأرجح لفترة وجيزة، فهناك خطر يتمثل في قيامهم بممارسة الدعوة لأفكارهم المتطرفة في السجن، وتلك مشكلة خطيرة بالفعل.
الخلاصة
معظم الحكومات الأوروبية ليست مستعدة لتحمل تكاليف ومخاطر معينة الآن من أجل تجنب مخاطر أكثر خطورة محتملة من الخارج في المستقبل. وفي ضوء هذه الخلفية، يبدو أن إعادة المقاتلين الأجانب الأوروبيين بشكلٍ استباقي وجماعي إلى الوطن هي في الوقت الراهن حل غير واقعي. بل إن بعض البلدان، بما في ذلك المملكة المتحدة والدانمارك، تحاول تجنب أي مسؤولية من خلال سحب جنسية الجهاديين مثل شميما بيجوم. وقد بدأ هذا الأمر يتحول بالفعل إلى خلافات وتوترات بين الدول.
وهناك عدد قليل من البلدان الأوروبية التي سلكت الطريق المعاكس: فعلى سبيل المثال، لم تعد إيطاليا الأطفال (بمن فيهم طفل يبلغ من العمر 11 عاماً بجواز سفر ألباني) فحسب، بل أيضاً نساء، بل وحتى في حالاتٍ استثنائية، مقاتلين من الذكور. ولكن هذا هو الاستثناء الذي يثبت القاعدة من نواحٍ كثيرة: فقد فعلت إيطاليا ذلك لأن لديها مجموعة صغيرة نسبياً من المواطنين للتعامل معها، قرابة 145 مقاتلًا أجنبيًا لهم علاقات مع الدولة، لذا يمكن التعامل مع العبء دون ضغوطٍ لا داعي لها.
وإذا كانت إعادة الجهاديين للوطن أمرًا مشكلًا، فمن الواضح أن البديل المتمثل في ترك المقاتلين الأجانب الأوروبيين في سوريا له أيضاً آثار إشكالية للغاية. عادة ما تكون مخيمات النساء والأطفال، مثل “ملحق” مخيم الحول الشاسع، والسجون المؤقتة للرجال، بيئات مكتظة في ظروف مزرية قد تفاقم عمليات التطرف. كما أن حوادث العنف في هذه المرافق ليست نادرة، وقد ازدادت في الأسابيع الأخيرة. وعلاوة على ذلك، فإن جائحة كوفيد-19 يمكن أن تزيد الوضع سوءًا، وقد تسببت بالفعل في تعليق عمليات الإعادة إلى الوطن لأشهر. ويتمثل الخطر الأكبر في إمكانية قيام مجموعة من هؤلاء الأفراد، بما في ذلك حتى المقاتلين المخضرمين في السجون، بالهروب ومواصلة النهوض بالقضية الجهادية.
من ناحيةٍ أخر، فإن إمكانية إجراء محاكمات في سوريا تحت رعاية “قوات سوريا الديمقراطية” الكردية هي، على أقل تقدير، غير مؤكدة، وليس فقط لأن شرعية أي من هذه المحاكم من طرف فاعل من غير الدول هي موضع شك عميق. كما أن الخيار الآخر الواضح، وهو إنشاء محكمة دولية خاصة، لا يتمتع ببساطة بالدعم السياسي الكافي.
وعمومًا، يبدو في الوقت الحاضر أن مبادرات الإعادة إلى الوطن على نطاقٍ واسع غير محتملة نظرًا للأسباب الأربعة المتشابكة المذكورة أعلاه. وفي نهاية المطاف، فإن التردد المتعمد من قبل أغلب الدول الأوروبية قد لا يكون صائبًا وقد يفتقر إلى بُعد النظر، ولكنه، بعد الفحص الدقيق، ليس أمرًا غير عقلاني.