واثق واثق*
أصدرت محكمة بريطانيا حكمًا بالسجن مدى الحياة على “علي حربي علي”، المولود في لندن والذي ينحدر من أصول صومالية، لارتكاب جريمة إرهابية تمثلت في قتل السير ديفيد أميس، عضو البرلمان الذي ينتمي لحزب المحافظين، خلال كلمة كان يلقيها أمام دائرته الانتخابية في منطقة لي أون سي في أكتوبر 2021.
أوردت التقارير أن علي قال للمحكمة: “لن يتمكّن أميس من التصويت مرة أخرى. لذا فإن إيذاءَه للمسلمين سوف يتوقف”. يبدو أن علي قد حدد وبرر من هو هدفه، وما الذي كان عليه القيام به لتحييده. ومن ثم تعد هذه المحاكمة دليلًا يُظهر العديد من السمات التي تتسم بها الأيديولوجية السلفية الجهادية.
والسؤال ما هي هذه الأيديولوجية؟ وكيف تدفع شخصًا ما إلى ارتكاب أعمال إرهابية؟ يشرح شيراز ماهر -مدير المركز الدولي لدراسة التطرف– هذه المسألة بتفصيلٍ كاف في كتابه “السلفية الجهادية: تاريخ فكرة“. يؤسس ماهر لجذور الحركة السلفية، ويقتفي أثرها حتى الأجيال الثلاثة الأولى بعد النبي محمد (ص)، المعروفة مجتمعة باسم السلف أو السلف الصالح. يعتبر هذا الجيل الأكثر تقوى والقدوة التي يجب على المسلمين اتباعها. وفي حين أن السلف يعتبرون مجموعة من المسلمين، فإنهم ليسوا مجموعة متجانسة. ويمكن تقسيم الحركة السلفية إلى ثلاثِ فئاتٍ: السلفية العلمية/المسالمة، والسياسية/الحركية، والجهادية.
المجموعة الأولى، وهي العلمية/المسالمة، ترفض النشاط السياسي. وبدلًا من ذلك، يسعون إلى استخدام أساليب غير عنيفة لنشر الإسلام، وتثقيف الجماهير -المسلمة وغير المسلمة على حد سواء- والسعي إلى تطهير العقيدة. علاوة على ذلك، يحذر التيار المسالم من السلفيين من تكفير الحكام المسلمين لأن ذلك قد يؤدي إلى الفتنة، وبالتالي، يفضلون الاعتماد فقط تقريبًا على تحقيق أهدافهم من خلال الدعوة.
المجموعة الثانية من السلفيين هم “حركيون”، يُشار إليهم أحيانًا باسم “السياسيين”. تشارك هذه المجموعة بنشاط في السياسة لتحويل المجتمع، وتطبيق تفسيرها للشريعة الإسلامية. في الواقع، يعتقدون أن الإسلام هو أساس الدولة، وأن إطار العمل من أجل الحكم يتحقق من خلال الشريعة. وبالتالي، فإن منطق السلفيين الناشطين هو أنه لا يمكن الفصل بين الإسلام والسياسة.
المجموعة الأخيرة من السلفيين هم “الجهاديون”. ببساطة، هؤلاء يتشاطرون السلفيين الناشطين الرؤية ذاتها، لكنهم يعتقدون أنه لا يمكن تحقيقها سوى من خلال الجهاد. وفي هذا الصدد، يشير الخبير في العنف الذي تمارسه جماعات الإسلام السياسي، البروفيسور محمد حافظ، في بحثه عن الانتحاريين في العراق، إلى أن الأيديولوجية السلفية الجهادية جديدة نسبيًا، وظهرت في القرن الماضي. يمثل انهيار الإمبراطورية العثمانية وإلغاء الخلافة في عام 1924 نقطة الأساس في الأيديولوجية السلفية الجهادية. إذ شعر العديد من العلماء والمفكرين المسلمين أنه بما أن الحكام في الأراضي ذات الأغلبية المسلمة قد أخفقوا في إعادة تأسيس الخلافة، كان لا بد من إيجاد وسيلة بديلة، ويدّعي السلفيون الجهاديون أنها الطريقة الوحيدة القابلة للتطبيق لتحقيق ذلك.
راجت هذه النظرة في السنوات اللاحقة، وبدأ المسلمون في تجميع أنفسهم في مجموعات لتخطيط مسار عمل يمكن أن يحوّل هذه الرؤية إلى الواقع. وهنا، يرى دانيال بايمان، باحث أول في مؤسسة بروكينجز، في بحثه حول حركات التمرد السلفية الجهادية، أن الجانب المسلح لهذه الأيديولوجية هو ما ساعد في تشكيل جماعات مثل “القاعدة” و”الشباب” و”بوكو حرام” و”داعش”. لقد كان داعش هو التنظيم الذي أراد علي حربي الانضمام إليه، لأنه مقتنع برؤية داعش للخلافة العالمية.
ليس من الصعب تحديد ذلك. فلقد ذكر علي في مقابلته مع الشرطة أنه يريد السفر إلى سوريا -أي الهجرة- للانضمام إلى داعش. ومع ذلك، وجد أن هذا كان صعبًا للغاية. ووجد السلوى في السعي إلى القيام بما أراد تحقيقه في سوريا هنا في المملكة المتحدة. وبهذا، جلب علي حربي الجهاد إلى الوطن.
للقيام بذلك، كان علي بحاجة إلى الاعتقاد بأن أفعاله سيكون لها تأثير إيجابي واضح على الأمة، ولذلك فقد اقتنع تمامًا بالرسائل السلفية الجهادية بأن المسلمين يتعرضون للهجوم من الغرب. لكن من المهم التأكيد على أن الخطاب الذي يتبنى “اقتلوهم حيث ثقفتموهم”، على ما يبدو لم يعد حكرًا على السلفيين الجهاديين، بل يبدو أنه امتد إلى التيار “غير العنيف” للإسلامويين والسلفيين على حد سواء. وبذلك يبدو أنه كان لدى علي سبب ودعم ديني وأيديولوجي ومجتمعي كافٍ لتبرير ما كان يخطط للقيام به.
أعضاء البرلمان هم الأهداف الرئيسة للإرهابيين. خلال “الاضطرابات” في أيرلندا الشمالية، حيث تحدى الأفراد ذوو النزعة التحررية في الجيش الجمهوري الأيرلندي المؤقت الحكومة البريطانية، وجرت محاولات عدة لقتل النواب البريطانيين.
وفي سياق الإرهاب، يكون هذا منطقيًا تمامًا: فأحد الأهداف الرئيسة للإرهاب هو تحقيق تنازلات سياسية من خلال استخدام العنف، والأهداف الموثوقة لتحقيق هذه الغاية هي المدنيون في الدولة المستهدفون، ونخبتهم أو مؤسستهم السياسية، وحتى البنية التحتية. وتنظيم داعش ليس استثناءً في هذا الصدد، لذلك عندما قرَّر علي حربي علي استهداف سياسيين، كان بالفعل على طريق التطرف، وكان الإرهاب هو الوجهة النهائية.
كان علي حربي علي يفكر في عدد من السياسيين: وزير الخارجية آنذاك دومينيك راب، وزعيم المعارضة العمالية كير ستارمر، ومستشار دوقية لانكستر آنذاك مايكل جوف، ومفوض الخزانة مايك فرير، والسير ديفيد أميس. لقد اختار هؤلاء الأعضاء في البرلمان لأنه كان ينظر إليهم على أنهم أعداء للمسلمين. لم يؤمن علي بهذا فحسب، بل بحث عن كل واحد منهم، وسجلاته التصويتية فيما يتعلق بالضربات الجوية ضد داعش خلال الفترة من 2014-2015. في البداية كان مايكل جوف هدفًا له، ولكن تخلى عن خطة قتله لأن جوف انفصل عن زوجته، وانتقل من منزل العائلة. كما فكّر علي في قتل مايك فرير بعد أن زار مكتب دائرته الانتخابية. لكنه استقر في النهاية على قتل السير ديفيد أميس.
استخدم علي الإنترنت، خاصة تويتر، لمعرفة أين ومتى سيلقي السير ديفيد أميس كلمته. كانت هذه المعلومات حاسمة في التخطيط لقتله والإعداد له. ثم شرع علي في تحديد موعد مع النائب واستغلال ذلك كفرصة لقتله و”الانتقام لموت المسلمين”، الذي كان السير ديفيد مسؤولًا عنه وفقًا لما ارتأه علي. إن ما فعله علي هنا يعتبر بمثابة وضع مخطط للجهاديين المحتملين الآخرين لاتباعه. لقد أظهر علي مدى البساطة النسبية لقتل عضو في البرلمان ببساطة عن طريق استخدام الإنترنت، وشراء سكين.
لقد طُعن السير ديفيد أكثر من عشرين طعنة، وتوفي في مكان الحادث. ثم تمكّن اثنان من ضباط الشرطة -مسلحين بالهراوات فقط- من القبض على علي حربي واعتقاله. بيد أن الاعتقال أصاب علي بخيبة أمل، الذي أراد أن “يستشهد” لا أن يُعتقل. مرة أخرى، هذا يدل على أن علي كان يرى أن الاستشهاد في خدمة “حماية المسلمين” كون الأمة في حالة حرب مع أعداء الإسلام هو رسالة تجنيد يجري تسويقها للأيديولوجية السلفية الجهادية، تمامًا كما الوعد بالجنة لمن يضحي بحياته من أجل الأمة.
لقد استهدف السلفيون الجهاديون السير ديفيد أميس لأنه كان أحد أعضاء البرلمان الذين أيّدوا استخدام الوسائل العسكرية لدحر “خلافة” داعش. باختصار، كان السير ديفيد يدافع عن كل ما يكرهه داعش، الحرية.
وختامًا، فعلى الرغم من أن الحكومة البريطانية تأخذ تهديد السلفية الجهادية على محمل الجد، على الأقل منذ هجمات 11 سبتمبر، فإن هناك مجالات لا تزال لندن مقصرة فيها. أولئك الذين يتصرفون بعنف في القضية السلفية الجهادية ليسوا سوى جزء صغير من المشكلة. إذ يتعين على الحكومة البريطانية اتخاذ إجراءات صارمة ضد جميع أولئك الذين يمنحونهم غطاءً سياسيًا، والانخراط بشكلٍ إيجابي مع المسلمين المعتدلين، الذين يقودون المعركة ضد الأيديولوجية التي تفضي إلى ارتكاب أعمال إرهابية. ذلك أن غض الطرف عن تهديد السلفية الجهادية يمكن أن يُكلف المزيد من الأرواح، وهو ما لا يمكن السماح بحدوثه.
* باحث في جمعية هنري جاكسون، ومستشار مؤسسة المسلمين لمكافحة معاداة السامية.