ليام دافي*
خرج غوغاء يمينيون إلى شوارع لندن في الصيف الماضي لمهاجمةِ الممتلكات العامة، والرموزِ التي ربطوها بالسياسة التقدمية. وفي الوقت نفسه، عبر المحيط الأطلسي، أغلق المتظاهرون اليمينيون مربعاتٍ سكنية عدة من مدينة رئيسة في جنوب الولايات المتحدة الأمريكية، وأعلنوها منطقةً ذات سيادة. واعترف عمدة المدينة الجمهوري بـ “المظالم المشروعة” للمتظاهرين، ما أثار رعبًا في الأوساط الصحفية. وردًا على ذلك، أعلن العاملون في مجال مكافحة التطرف حالة التأهب. وأعلن عن تمويلٍ جديد، وتلَت ذلك مؤتمراتٌ واجتماعات موائد مستديرة وحملات مضادة للروايات المتطرفة.
لقد شهدنا بالطبع الكثير من أحداث العنف السياسي من جانب الجماعات اليمينية، لكن المتظاهرين والناشطين والمثيرين للشغب الموصوفين أعلاه لم يكونوا يمينيين، بل ينتمون إلى اليسار في الطيف السياسي. لم يكن مانديلا هو الذي تعرّض للهجوم، بل تشرشل والنصب التذكاري وضباط شرطة “وايت هول”. ولم تكن الجماعة التي استولت على تلك المنطقة التي اقتطعت من وسط المدينة، التي أعلنت أنها منطقة تتمتع بالحكم الذاتي، ميليشيا يمينية محلية أمريكية، ولم يكن العمدة الجمهوري متملقًا، بل كانت جماعة نصبت نفسها مناهضة للفاشية، جماعة مدللة من قبل سلطات المدينة في مركز التكنولوجيا الساحلية التقدمي المستنير في سياتل.
ولم يكن هناك رد فعل من الأفراد والمنظمات غير الحكومية والمؤسسات التي عادة ما تصبح في حالة تأهب ردًا على ظهور مؤشرات الكراهية والتطرف. في الواقع، التزموا الصمت، صمتًا يثير الدهشة، صمتًا يصم الآذان. وفي بعض الحالات، شرحوا “الأسباب التي لا تجعلهم يهتمون بالعنف اليساري”. وحتى تصوُّر مثل هذه النقطة العمياء سيدمر الثقة في تحليل التطرف.
وفي هذا الصدد، وصف مؤخرًا مستشار “داونينج ستريت” السابق نيك تيموثي كيف يهيمن على المؤسسات الرئيسة اليسار الليبرالي إلى الإجماع التقدمي (progressive consensus)، حتى لو لم يدركوا ذلك وهو محق تمامًا. وهذه الدينامية خطيرة، لا سيما عندما يتعلق الأمر بالعنف والتطرف السياسيين؛ لأنها تؤثر على القدرة على تحليل وفهم ومواجهة مختلف التيارات المناهضة للديمقراطية والعنيفة بالوضوح المطلوب على وجه السرعة.
وبدلًا من التحليل المتزن الذي يتناسب مع التهديدات، رأينا ظهور معيار مزدوج يزيد الوضع اشتعالًا. هناك تصنيف للعنف السياسي تُنكر بموجبه عمليات الفوضى والتخويف والتدمير التي يرتكبها اليسار أو يتم التقليل من شأنها بصورة خرقاء، وربما يؤسف لارتكابها، ولكنه يُرتكب في نهاية المطاف لأسبابٍ تحررية تُعتبر “جيدة”. على النقيض من ذلك، فإن عمليات العنف والفوضى التي يرتكبها اليمين: تُستهجن أخلاقيًا، وتدان بأقسى العبارات، أو حتى تُضخم بشكلٍ كبير، مع إصدار تحذيرات شديدة اللهجة من ظهور حركات تمرد في جميع أنحاء الدولة وتكهنات بشأن قدراتهم النووية المحتملة.
لقد كتب جورج أورويل في عام 1945 أن “الأعمال تعتبر جيدة أو سيئة”، “ليس على أساس مزاياها الخاصة، ولكن وفقًا لمن يفعلها، وليس هناك أي نوع تقريبًا من الغضب.. الذي لا يغير لونه الأخلاقي عندما يُرتكب من جانبنا”.
في نواحٍ كثيرة، إنها مثل كرة مألوفة يتم تقاذفها بشكل مؤلم، “عنفي هو أفضل من عنفك”، ولكن كما أثيرت المخاطر السياسية المحلية، الدينامية التي وصفها أورويل موجودة في كل مكان من حولنا في الآونة الأخيرة. وكما تتأهب منظومة الإعلامي اليميني لـ “نهاية العالم” بسبب العنف الذي يرتكبه اليسار، فإن المؤسسات الليبرالية والتقدمية مذنبة بسبب التقليل من شأن ذلك العنف نفسه، وإنكاره، والترويج له، حتى عندما يكون على الطرف المتلقي له.
في البداية، صوّرت بعض وسائل الإعلام “منطقة الحكم الذاتي” في سياتل كما لو أنها مزيجًا يجمع بين “سوق المزارعين” وما أطلق عليه في فترة الستينيات “صيف الحب”، بدلًا من كونها منطقة ترمز للانهيار الخطير لسيادة القانون الذي كانت عليه بالفعل. غير أنها تخلت عن هذه الرواية بسرعة ولكن في صمت عندما قتل الناس- كما هو متوقع بشكل محزن- على يد “السلطات” غير المنتخبة، وغير الخاضعة للمساءلة داخل المنطقة.
وفيما يتعلق بجماعة أنتيفا التي تعلن نفسها أنها معادية للفاشية، كان التعليق استثنائيًا. فلقد وصفت إدارة ترامب الجماعة، بشكل خاطئٍ وهستيري، بأنها جماعة إرهابية محلية، لكن هذا صبَّ في صالح معارضي ترامب الذين اعتبروا أن أنتيفا ليست فقط جماعة غير إرهابية، بل يجب أن تكون قوة للخير أيضًا. وفي نهاية المطاف، أنها ضد الفاشية، كما يتضح حرفيًا من اسمها.
تعريفات “المناهضون للفاشية” للفاشية مشوَّشة إلى الحد الذي يجعلها تشمل أصحاب الأعمال الصغيرة، ولا تشمل السياسيين التقدميين المخلصين. وهكذا، فإن الحروب الثقافية قد طغَت على النقاش: فمن جانب، يقول البعض إن أنتيفا جماعة إرهابية تشكّل تهديدًا وجوديًا للولايات المتحدة، وعلى الجانب الآخر، يشبه آخرون أعضاء أنتيفا بالأبطال الذين قاموا بعملية الإنزال في نورماندي لتحرير فرنسا من النازيين.
على هذا الجانب من المحيط الأطلسي، الأمور ليست بالدرجة ذاتها من السخونة، لكننا لسنا محصنين. في الوقت ذاته تقريبًا الذي شهد هجمات على تشرشل والنصب التذكاري -الذي شاهده بلا حول ولا قوة الملايين الذين يكنون كل التقدير والإعزاز لهذه الرموز- ألقى حشد في بريستول تمثال ادوارد كولستون تاجر الرقيق في البحر بالدرجة ذاتها من الجنون الذي صاحب قيام غوغاء تكفيريين بحرق رواية «آيات شيطانية». وقد رحّب نائب منتخب عن حزبٍ ملتزم بالديمقراطية البرلمانية بهذا الأمر باعتباره “عملًا من أعمال المقاومة”، مروّجًا للوهم المغري للعنف بأن الحياة في بريطانيا كابوس مستبد.
لقد تخبطت مؤسساتنا وموظفونا العموميون. وبخلاف أن نواب حزب المحافظين الذين يبدون وكأنهم معارضة غارقة أكثر من الحزب الحاكم، لم يخرج سوى عدد قليل ممن هم في مواقع السلطة لإدانة عمليات التدمير، خوفًا من الاتهام الصبياني لهم بأن القيام بذلك سيكون بمثابة الدفاع عن العبودية نفسها.
وكان التعليق العلني الوحيد على أسابيع من الفوضى من اللجنة المستقلة لمكافحة التطرف هو تحذير صارخ من أن اليمين المتطرف يمكن أن يستفيد مما حدث، كما لو كان هذا في بعض الدوائر هو السبب المشروع الوحيد لمعارضة مثل هذا الخروج على القانون.
في اللحظة ذاتها، استفاد اليمين المتطرف بالطبع، وقدم عرضًا مشينًا من البلطجة والهمجية بذريعة حماية التماثيل. ولكن أي شخص يعرف أي شيء عن البشر يمكن أن يستشعر أن الأزمة تتفاقم من على بعد ميل. لم يستغل اليمين الفوضى فحسب، بل استغل أيضًا التصور بأن المؤسسات الليبرالية غير قادرة أو غير راغبة في مواجهة الدمار والعنف المرتكبين لأسبابٍ تقدمية ظاهريًا.
بالعودة إلى أورويل، وعلى الرغمِ من المعارضة الشديدة للاستعمار والنازية، فإن انتقاداته العنيدة بنفس القدر للستالينية، تعني أنه ارتكب خطيئة خطيرة لا تغتفر في نظر بعض اليساريين: فقد “قدَّم ذخيرة للعدو“.
إن الخوف من تقديم ذريعة لليمين، أو القرب الإيديولوجي منه، يضعف الاستجابة للمظاهر غير الليبرالية والعنيفة للقضايا اليسارية أو التقدمية اليوم. وفي الواقع، فإن الصمت الواضح بشأن الفوضى التدريجية يوفر ذخيرة لليمين أكثر مما يمكن أن توفره أي إدانة على الإطلاق. من يحتاج لأخبار مزيفة؟
هذا لا يتعلق بالإرهاب، حيث التهديد من اليمين يفوق بكثيرٍ التهديد من اليسار. إنها مشكلة من نوع مختلف، حيث شهدت بريطانيا في العامين الماضيين حوادث عنف سياسي على مستوى الشارع وترهيب وتدمير لقضايا تخص اليسار أو البيئة أو التقدميين أكثر من أي قضايا أخرى.
علاوة على ذلك، تحذِّر المنظمات اليهودية بانتظام من أن معاداة السامية من قبل اليسار لا تؤخذ على محمل الجد، بل إن ما يُطلق عليهم “تويتر تانكيز” (Twitter Tankies) ينشرون التعصب المعادي للعرب والمسلمين؛ دعمًا لـ”معاداة الإمبريالية” المفضلة لديهم، في حين يواجه المحافظون وغير البيض المعاملة المهينة والاتهامات القبيحة بالخيانة العرقية.
ومع ذلك، فإن هذه ليست أشكال الكراهية التي تضعها في اعتبارها مختلف مصادر التمويل والمبادرات التي أنشئت في إطار مكافحة التطرف؛ حتى أن أحد خبراء مكافحة التطرف قال لي إن الناس ببساطة “يناضلون من أجل عالم أفضل” – وكأن هذا ليس بالضبط ما آمنت به كل حركة سياسية غير ليبرالية أو عنيفة في التاريخ.
ثم هناك نظريات التضليل والتآمر، التي أثارت الذعر الأخلاقي إثر تطورين مهمين في عام 2016. ولكن ما يوصف أو لا يوصف بأنه نظرية مؤامرة أو معلومات مضللة يبدو أنه يتعلق أكثر بالوضع الثقافي للمتهمين والمروّجين.
بناء على هذا، فإنهم يعتبرون أن مشاركة أبناء الطبقة العاملة للأكاذيب على فيسبوك تُعرِّض الديمقراطية للخطر، ولكن السيل اليومي من الأكاذيب الذي يطلقه جيل الألفية النخبوي المعتمد على تويتر لا يثير أي دهشة.
عندما كان الصحفيون التقدميون ينشرون افتراءاتٍ مدمرة للغاية، وتعرض حياة الناس للخطر حقًّا، حول السجل الفرنسي المفترض للأطفال المسلمين، وانزلاقهم نحو الفاشية، كان على الصحفية اليسارية كارولين فوريست أن تشير إلى أن “قطاعًا من النخبة الأمريكية لم يكن أكثر تعلقًا بالحقيقة من ترامب”.
على نحوٍ مماثل، أدى نزع الشرعية بلا هوادة عن ترامب و”بريكست” من قبل المؤيدين لأكثر المؤامرات الروسية سخونة إلى خروج الاستقطاب عن نطاق السيطرة، وإلحاق أضرارٍ هائلة بالثقة في الديمقراطية، ومع ذلك فلا توجد حاجة مؤسسية ملحّة للتصدي لنظريات المؤامرة “ذات المكانة العالية”.
ومن ثم، فإن النتيجة الطبيعية لذلك هي أن الجهود الحالية لمكافحة الكراهية والتضليل ونظريات المؤامرة تبدو أشبه بفرض الانسجام الأيديولوجي من الجهود المخلصة لمنع العنف، مشروع سيؤجج بالتأكيد نيران الصراع بدلًا من أن يطفئها.
من بعض النواحي، يمكن تفهّم إجراء تمييز أخلاقي بين اليمين المتطرف، والعنف المرتكب باسم القضايا التقدمية. فاليمين المتطرف بعيد كل البعد عن القيم التي نقدسها، والتي ننفر منها بطرقٍ لا يفعلها اليسار المتطرف، ولكن بسبب هذا، يطغى على تحليل كليهما جوٌّ من الاشمئزاز الأخلاقي، ناهيك عن الغطاء الأخلاقي بدلا من التقييم الواضح.
في نهاية المطاف، فهمنا للقيمة الأخلاقية للقضايا ليس مهمًا في هذا السياق. ولا يمكن السماح بتصنيف العنف السياسي إلى “جيد” و”سيئ”. في الديمقراطية لا يوجد سوى عنفٍ سياسي، وهو ضد “قواعد اللعبة”. القضية لا تهم صاحب العمل الصغير الذي دمرت سبل عيشه، وهي بالتأكيد غير ذات أهمية لثقة الجمهور التي سوف تنهار إذا نُظر إلى المؤسسات على أنها مسيّسة بشكلٍ ميؤوس منه، ولا تكترث لأشكالٍ محددة من العنف.
وختامًا، فإن توفير غطاء أخلاقي أو سياسي، ولو عن غير قصدٍ، لن يؤدي إلا إلى زيادة بروز العنف كأداة في نظر الجهات الفاعلة جميعها، كما رأينا بالضبط في الصيف الماضي، عندما احتشد أنصار اليمين المتطرف في وسط لندن.
وإذا أخفقنا في معالجة هذه المسائل الأساسية، سنرى مدى السرعة التي يمكن أن ينفرط بها عقد ديمقراطياتنا المتوازنة بدقة. وهنا يحضرني ما كتبه تينيسي وليامز في مسرحية «الوحوش الزجاجية»: “كم هي جميلة.. وكيف يمكن كسرها بسهولة!”.
* مستشار مشروع مكافحة التطرف، ومقره في لندن.