ليام دوفي*
هناك (غياب) واضح جدًا لخطاب جيِّد حول مسألة تفوق البيض لدرجة أنني شبه مستسلم لفكرة أني سأتلقى اتهامات ومعارضة لما سأقوله، ولكن: نحن بالفعل في نهاية المطاف نعيش في حالة ذعرٍ أخلاقي. يتجلى ما يُسمى بـ “الرعب الأبيض” في شكل مطاردة غير عقلانية وغير متناسبة، تحاول استئصال فكرة تفوق البيض من الحياة العامة، وأيضًا تظهر بوضوح في التنديدات المعتادة والاعترافات التي تؤكد الشعور بالعار، في حين أن التعامل مع التهديد الحقيقي الذي يأتي من العنف العنصري من البيض واليمين المتطرف غامض ومرتبك.
الطبيعة الإنسانية لا تتغير
لا ينبغي الاندهاش من ظهور “الرعب الأبيض” في هذه اللحظة. إذ تميل حالات الذعر والأسئلة الأخلاقية الكبيرة للظهور في فترات الاضطراب وعدم الارتياح وعدم اليقين، وبقدر ما نطمئن أنفسنا بأننا نعيش في عصرٍ يتسم بالشفافية والعقلانية المتزايدة، لا يمكننا تجاوز تاريخنا أو أمراضنا الحضارية بتلك بسهولة.
لقد وصل الذعر الأخلاقي الأكثر شهرة في التاريخ حين كان الناس في بداية أوروبا الحديثة يواجهون الرياح الشديدة والمطر والثلوج، خلال ما عرف باسم “العصر الجليدي الصغير”. ثم مع تفشي القوارض والحشرات، كانت الأوبئة تعصف بالسكان بشكل دوري، ويفاقم من شدة هذه الأوضاع، اليأسُ الاقتصادي المصاحب لذلك. كان الناس المرهقون والمذهولون في أوروبا المسيحية في حاجة إلى الخلاص، وإلى كباشِ فداء، وهي “العملة” الرائجة التي كانت تتاجر بها الكنيسة الكاثوليكية، ومنافستها البروتستانتية الصاعدة في ذلك الوقت، اللتان كانتا تتنافسان على العالم المسيحي.
هذه القصة التي تتعلق بالتفكير الجماعي وكباش الفداء من الأمور سيئة السمعة والتي درج تداولها ووصل الأمر إلى أن مصطلح “مطاردة الساحرات” أصبح متضمناً في اللغة واستخدم بدرجة وصلت حد الابتذال المفرط، لكنه نموذج مهم لفهم كيف يمكننا جميعا أن نصبح سجناء لغرائزنا الدنيئة.
وإذا كانت ظروف المرض، والانكماش الاقتصادي، وعدم اليقين المناخي، والمنافسة الأيديولوجية تبدو مألوفة، فربما يكون ذلك لأنك على قيد الحياة في عام 2020. ولكن الأمر يتطلب أكثر من مجرد اضطراب الحياة لظهور الذعر الأخلاقي، فهو ينطلق عندما يتم تحديد الانحراف الذي يهدد قيم المجتمع ونظامه الأخلاقي.
المُثُل تضربها الفوضى
عبادة الشيطان والسحر والشعوذة كانت بمنزلة المعكوس الأخلاقي لمعتقدات أوروبا المؤمنة بالخرافات العميقة والمسيحية، من جانب آخر تعرضت المجتمعات لفوبيا من نوع آخر مثلا طارد الذعر من التسلل الشيوعي مخيِّلات المحاربين الأمريكيين خلال الحرب الباردة، وقت ما عُرف باسم “الرعب الأحمر” (نسبة إلى الجيش الأحمر)، وتسبب جنون صحف الإثارة البريطانية حول “الأشخاص الذين يتحرشون جنسيًّا بالأطفال” إلى هجمات على أطباء الأطفال الذين يُظن خطأً أنهم متحرشون بالأطفال.
في الغربِ الحديث، تم إعلاء مناهضة العنصرية كواحدة من أعلى المُثُل المجتمعية، لدرجة أن الأكاديمي الأمريكي جون ماكورتر قد شبهها بدين علماني جديد معيب، لديه كتبه المقدسة الخاصة به، ووعود الخلاص من الخطيئة الأصلية الجديدة “البياض”. هذا الشكل الجديد من مناهضة العنصرية ليس مجرد فعل من أفعال معارضة العنصرية فحسب، ولكنه يأتي معلَّبًا كأيديولوجيا شاملة، وتوفِّر قائمة نيويورك تايمز للكتب الأكثر مبيعًا نُسخًا مختصرة وسهلة للنصوص العقائدية؛ مثل كتاب «الهشاشة البيضاء وأنا وتفوق البيض».
وقد جاء الصعود السريع لهذا المثل الأعلى بشياطينه الشعبيين الخاصين به، ليس السحرة أو الماركسيين هذه المرة، بل دُعاة تفوق البيض، الذين يمثلون النقيض لمُثلنا العليا المناهضة للعنصرية. ومتاريس هذا الذعر الأخلاقي الجديد لا يحرسها الرهبان أو السيناتور جوزيف مكارثي، بل المحرِّرون والصحفيون ومجالس إدارة الشركات ورواد الأعمال الأخلاقية، على وسائل التواصل الاجتماعي.
شركات مستحضرات التجميل تزيل أيَّ إشارة للتبييض من منتجاتها، وتطلب “نيويورك تايمز” من الأمَّهات أن يراقبن أبنائهن البيض بحثًا عن ظهور مؤشرات على تجنيدهم من قبل دعاة تفوق البيض. وتشمل هذه المؤشرات قول “انفجر”. وفي الوقتِ نفسه، اعتاد البيض الذهاب لوسائل الإعلام ليعلنوا أن: “تفوق البيض يعيش في داخلي“. وليس هناك ما يدعو إلى الشك في صدق هذه الاعترافات -أيا كانت الحالة الموضوعية- بنفس الطريقة التي قدَّم بها العديد من المتهمين في بداية أوروبا الحديثة اعترافاتٍ صادقة بمسِّ الشيطان أمام محاكم التفتيش.
خلال صيحة “الساحرات”، كانت حياة القرية تطن بالفولكلور الشيطاني، وقيل إنَّ الأدلة على السحر ومس الشياطين يمكن سماعها في كل شيء من السعال غير المنتظم إلى الناس الذين يشذون عن اللحن. واليوم، يُلاحظ أن وسائل التواصل الاجتماعي تنحدر إلى عمق أكبر من السخافة من المعتاد، حيث يتم “اكتشاف” الرسائل المشفرة لتفوق البيض في البث التلفزيوني الروتيني، من جلسة سماع بريت كافانو (مرشح ترامب لعضوية المحكمة العليا) إلى منافسة كرة القدم الأمريكية بين القوات البرية والقوات البحرية. هذه الاكتشافات المحمومة لمؤامرة كبيرة لتفوق البيض تستهلك وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي لأيام عدّة كل فترة، على الأقل حتى يظهر رعبٌ جديد.
وحقيقة أن مجموعة من المعلقين كانوا مقتنعين جدًّا بأن العشرات من المجندين المراهقين في الجيش كانوا يومضون برمز قوة البيض على التلفزيون الوطني -وهو دليلٌ مفترض على انتشار تسلل تفوق البيض في الجيش- وشرعوا في تخريب حياة هؤلاء الجنود الشباب ومهنهم في مهدها، يشير إلى انفصام خطير عن العقل والعقلانية.
الحرمان الكنسي
ويمكن أن يكون للذعر الأخلاقي آثار إيجابية، حيث يضمن ابتعاد الأغلبية عن الممارسات المنحرفة (العنصرية في هذه الحالة) وتهميشها. غير أن التكلفة مرتفعة جدًّا، وهذا النوع من الفولكلور الشيطاني في القرن 21 يظهر كل مؤشرات التحول للأسوأ في ظل انتشار ردود الفعل المبالغ فيها والجامحة ورؤية تجليات تفوق البيض في كل اتجاه حولنا.
وبعيدًا عن الآليات النفسية الفاعلة حاليًا، فإن الذعر الأخلاقي لديه مهندسون أكثر سخرية أيضًا، في ظل أنهم يعملون أيضًا على جمع المجندين، وعزل الأعداء أو المعارضين المتصورين وتدميرهم، وإعطاء الانطباع بالقوة. ومن غير المستغرب أن الكنيسة في بداية أوروبا الحديثة شاركت في ذلك بنشاط وهمة.
جرى نشر الاتهامات بالعنصرية وتفوق البيض-وهي الاتهامات الأكثر خطورة في الوقت الراهن- على نحوٍ متزايد ضد المعارضين السياسيين مع عدم اهتمام متزايد بالحقيقة. المتهمون يتضررون، اجتماعيًا ومهنيًا، بغض النظر عن صحة التهم الموجهة إليهم. والقدرة على القيام بذلك ليست مجرد إظهار للقوة من قبل نخبة جديدة. فهذه الاتهامات تخدم الغرض المتمثل في إظهار عضوية الجماعة الخاصة، الفاضلة أخلاقيًا، وتمييزها من تلك الملوثة بآراء ضارة. وإذا ترجمت هذه العملية إلى مصطلحاتٍ مسيحية، فإن الاتهام هو الهرطقة والعقوبة هي الحرمان الكنسي.
كان الانتشار الساخر لهذا التكتيك واضحًا بشكلٍ صارخ في أعقاب الهجوم الإرهابي اليميني المتطرف ضد مسلمين في كرايستشيرش، نيوزيلندا: امتدت أصابع اللوم من المتطرفين الحقيقيين في اليمين وورطت المعلقين الذين ينتمون إلى التيار الرئيس المحافظ في المذبحة. الأشخاص الذين يواجهون هذه الاتهامات يعانون شيئًا من قبيل “المحاكمة بالتعذيب” و”فخ كافكا”، حيث يزيد الإنكار الوضع سوءًا، حيث يتم اتخاذه كدليلٍ إضافي على الذنب.
الرؤية المستقبلية
يحدث هذا “الرعب الأبيض” على خلفية التحديات التي تواجه النظام الليبرالي التي تجلت بطرق مختلفة في أماكن مختلفة – “بريكست” في بريطانيا، و”السترات الصفراء” في فرنسا، وبالطبع دونالد ترامب في أمريكا. وقد ألحقت هذه الظواهر جروحًا نفسية بأولئك الذين يحرسون المتاريس الأخلاقية في مجتمعاتنا، وساعدت في دفعهم إلى أرض الذعر التي يمكن أن يشدّونا جميعًا إليها.
وكما كتب مايكل ليند، المؤسس المشارك لمؤسسة “أمريكا الجديدة”، فإن ردود الفعل على هذه الاتجاهات دفعت “النخب الهستيرية” إلى إعادة تعريف “التطرف” أو “الفاشية” أو “القومية البيضاء” لتشمل “الشعبويين العاديين، والمحافظين، والليبرتاريين، واليساريين غير العاديين”، وهو إغراء يسمح لهم بشكل ملائم بتجنب أي اعتبار لشرعية حجج أصحاب الشكوى، ناهيك عما إذا كان عليهم إعادة النظر في أي من وجهات نظرهم.
وبصرف النظر عن حقيقة أنه سيكون من قبيل الهزل ربط حمقى الحرب الثقافية الليبرتارية، المهتمين بشكل رئيس بـ “هزيمة الليبرتاريين وإذلالهم”، بالكراهية العرقية والعنف المرتبطتين بالعنصريين البيض، فإن هذا الخلط بين مختلف ظلال السياسة اليمينية العادية وبين تفوق البيض يشوش هذه القضية المهمة للغاية ويطمسها.
في بريطانيا، التي لم تصل فيها القضية إلى الدرجة ذاتها من السخونة كما في أمريكا الشمالية، أدت التظاهرات اليمينية المتطرفة الأخيرة في لندن إلى مزاعم واسعة النطاق بأن المتظاهرين كانوا يقدمون “التحية النازية” للنصب التذكاري لقتلى الحرب في بريطانيا. والواقع ببساطة هو أنه لا يوجد دليل على هذا بخلاف لقطات غير واضحة لأشخاص يهتفون هتافات تتعلق بكرة القدم وأيديهم في الهواء. هناك اختلافات ضخمة ومهمة بين أيديولوجية جماعات مثل “بريطانيا أولاً” والنازيين الفعليين، وخلط كل هذا معاً سيكون من قبيل عدم النزاهة الفكرية والعبث.
يمكن للمرء أن ينام الليلة دون قلقٍ شديد، هكذا أودّ أن أعتقد، من أنه كان هناك أو يوجد سحرة وشياطين يتجولون ويفعلون ما يحلو لهم عبر أوروبا. ولكن اليوم يوجد فعليًّا دُعاة تفوق البيض. المشكلة هي أن الرعب الأبيض، من خلال الاستقطاب وتدمير حياة الأبرياء، يترك الأشرار دون أن يمسهم أحد تقريبًا، إن لم يكن في الواقع يعززهم. إن المهتمين منا بالتطرف يتحملون مسؤولية خاصة في أن ندلو بدلونا المناسب في حالة الجنون الحالية، ويجب علينا أن نقود دفة النقاش بشأن تفوق البيض، لا أن ننقاد لأحدث قصص الرعب الإعلامي.
– يسعى موقعُ «عين أوروبية على التطرف» إلى نشرِ وجهاتِ نظرٍ مختلفة، لكنه لا يؤيد بالضرورة الآراء التي يُعبِّر عنها الكتّابُ المساهمون، والآراء الواردة في هذا المقال تُعبِّر عن وجهةِ نظر الكاتب فقط.
* باحث في شؤون التطرف ومكافحته في مركز “سيفيتاس” البحثي