بقلم المحلل السياسي والخبير في الشؤون الأمنية الدولية: فابريزيو مينيتي.
لاحظ المؤرخ الأمريكي لورنس لافور في كتابه -حول تحديد أسباب الحرب العالمية الأولى- أن الأحداث الجيوسياسية ترجع إلى جذور تؤدي إلى زعزعة استقرار بعض المناطق أكثر من غيرها. في الحقيقة، يتم اللجوء إلى زعزعة الاستقرار لإحداث تأثيرات عميقة، في السياقات التي يمكن فيها للعوامل الأيديولوجية والتاريخية والثقافية والاقتصادية أن تحدث خللًا في توازنات القوى.
وهذا ينطبق بالتأكيد على الوضع الحالي في ليبيا، التي اهتزت جراء تغيير موازين القوى والاتجاهات السياسية المعقدة في المنطقة. لقد أدى الفراغ الأمني بعد عام 2011 إلى إحباط محاولات الانتقال من الحرب إلى السلم، مما زاد من تعقيد الاختلالات الداخلية. وقد أتاح هذا الوضع للجماعات الجهادية فرصًا لإنشاء جسور حصينة ومراكز قوى، فضلًا عن السعي لتحقيق نفوذ في مجالات عدة.
لقد قلل الغرب من شأن المشاكل التي ظهرت في أعقاب سقوط القذافي، برغم أن التطورات كانت معقدة للغاية. من الصعب فهم الوضع السياسي الليبي الحالي، إذ يوجد في البلاد برلمانان وطنيان يتنافسان مع بعضهما البعض، وثلاثة رجال أقوياء، وعدد كبير من الفصائل والجماعات المسلحة ذات الأجندات والأهداف السياسية المختلفة. جميع مراكز القوى الليبية، الرسمية والقائمة بحكم الواقع، تثبت أحقيتها في إنقاذ ليبيا من الفوضى، ولكن من الصعب تحديد هوية الجهة القادرة فعليًا على السيطرة على السلطة والمؤسسات، سواء من الجيش أو الميليشيات. في الحقيقة، تعتزم طرابلس ومصراته وبنغازي، وإلى حد كبير طبرق ودرنا، لعب أدوار سياسية حاسمة في البلاد.
وإذا كانت المدن تعكس مصالح الأعضاء البارزين في المجتمعات المختلفة، فلا ينبغي إهمال المواقف المتقلبة للأفراد الذين لا يتمتعون بقوة سياسية، إذ يمكنهم الاعتماد على علاقات جيدة مع جهات فاعلة أخرى مستعدة لدعم طموحاتهم ومنافساتهم. على سبيل المثال، النائب عبد السلام كاجمان قريب جدًا من جماعة الإخوان المسلمين، بينما عضو البرلمان السابق المثير للجدل، صلاح بادي، مقرب من الجنرال نوري أبو سهمين وخليفة غويل.
تنظيمات متشددة
استغل تنظيم الدولة الإسلامية هذه الفوضى، وسيطر على الساحل المتوسطي حول مدينة سرت عام 2015، ونفذ هجمات في جميع المدن الليبية الرئيسة، بما فيها العاصمة طرابلس. لكن جرى طرده من سرت عام 2016 من قبل القوات المحلية، وتعرض لهزيمة شديدة في بنغازي من قبل الجيش الوطني الليبي، وبالتحديد من المشير حفتر. وقد فرّ عناصر التنظيم من درنة وصبراته، ومع ذلك، ربما وجد أفراد داعش أماكن للاختباء، وهم الآن قيد انتظار أوقات أفضل للظهور من جديد.
الليبيون الذين انضموا إلى الدولة الإسلامية هم من الجيل الثاني من الجهاديين، الذين كانوا في العراق وسوريا بعد عام 2011، وكذلك من الجيل الثالث. هم أكثر راديكالية ومناهضة للديمقراطية من الجيل الأول من قدامى المحاربين، الذين قاتلوا ضد القوات السوفيتية في أفغانستان ثم عادوا إلى ديارهم لينشئوا مجموعات معارضة لمعمر القذافي، أكبرها كانت “الجماعة الليبية الإسلامية المقاتلة”.
وبالعودة إلى المدن، شهدت طرابلس صراعات بين زعيم حكومة الوفاق الوطني فايز السراج والمؤيدين الرئيسيْن للمؤتمر الوطني العام. تخضع مدينتا طبرق والبيضاء لسيطرة حفتر، بينما تواجه مدينة مصراته -التي تضم أكبر الميليشيات في البلاد- خصومات ومنافسات محلية تشعلها نزاعات بين الجماعات المسلحة المنتشرة في جميع أنحاء المدينة، بما فيها أكبر كتيبتين، الحلبوس والمحجوب. أما ائتلاف “البنيان المرصوص” الذي طرد داعش من سرت، فيتواجد كذلك في مصراته مع الكتيبة 604، التي شكلها في الغالب أتباع التيار المدخلي من السلفيين غربي ليبيا.
جهات إقليمية
في هذا السيناريو المعقد، لا يمكن أن تكون مواقف الجهات الإقليمية السياسية الفاعلة مفهومة تمامًا على الدوام. على سبيل المثال، برغم أن مصر -المعارضة الرئيسة للإسلام السياسي- أكدت رسميًا دعمها لفايز السراج في طرابلس، إلا أنها تواصل تجارة الأسلحة مع طبرق وتفضل قيادة حفتر. أما دول الغرب والأمم المتحدة، فحثوا الحكومات المتنافسة في البلاد على وضع الخلافات جانبًا وإجراء انتخابات وطنية وتوحيد المؤسسات.
من جانبه، لعب حفتر دورًا رئيسًا في الصراع الليبي. يعدّ حفتر شخصية مركزية وحاسمة لكل مرحلة من مراحل مفاوضات السلام في البلاد، وبمقدوره توحيد الفصائل المتناحرة. ولكن في الوقت ذاته، يبقى حفتر شخصية مثيرة للجدل ذات استقطاب عميق للشعب الليبي.
وفي الوقت الحاضر، من شأن التغييرات في ميزان القوة بطرابلس وطرد الميليشيات الإسلامية في مصراته أن تمهد الطرق لاتفاق يشمل الجيش الوطني التابع لحفتر. إن حفتر مقرّب من رئيس برلمان طبرق، عقيلة صالح عيسى. ولكن برغم تمتعه بدعم العديد من الأطراف الدولية (مثل السعودية والإمارات ومصر)، إلا أن مواقفه المتعنتة والمناهضة للإسلاميين جعلته شخصية مثيرة للانقسام. كما أن صحته تقلق جيشه والأطراف الأخرى.
وبرغم وجود معارضين ومنتقدين، لا يزال بإمكان حفتر الاعتماد على الدعم الشعبي القوي، الذي حصل عليه بفضل مبادراته العسكرية ضد الهيمنة الإسلامية على مجلس الشورى الثوري في بنغازي، وضد ميليشيات الدولة الإسلامية.
قطر وتركيا
أما بالنسبة لقطر وتركيا، فقد قدّمتا السلاح والدعم للشخصيات الليبية السياسية من الجهاديين السابقين. إلا أن الخصوم الليبيين البارزين لا يبدو أنهم قد تحالفوا مع أي من هذين البلدين. وعلى المستوى الإقليمي، فبرغم أن الحكومات تفضل البحث عن حل يجلب الأمن والاستقرار إلى ليبيا، إلا أن الجزائر وتونس لم تقدّما الدعم لمراكز القوى المختلفة في البلاد.
إن القراءة الكاملة للوضع الليبي الحالي تتطلب النظر في عامل آخر، هو تأثير الجماعات السلفية في قيادة اللجنة الأمنية العليا في طرابلس. فمن بين الأعضاء البارزين، هاشم البِشر، والرئيس السابق للجنة الأمنية العليا عبد اللطيف قدور، وأيضًا قائد وحدات الدعم عبد الرؤوف كارة. وتشمل الوحدات في بنغازي أيضًا العديد من الألوية الثورية السابقة المستوحاة من السلفيين.
وفي نهاية المطاف، تشير سلسلة الهجمات ضد مكاتب الاتصال الأمريكية في بنغازي (11 أيلول/سبتمبر 2012)، وقافلة السفير البريطاني، ومكاتب اللجنة الدولية للصليب الأحمر في بنغازي ومصراته، إلى صعود الجماعات التابعة للتيارات السلفية الراديكالية. وبرغم أنها تعمل في الغالب خارج الإطار المؤسسي، إلا أن بعضها قد يعتمد على الدعم الداخلي من اللجان الأمنية العليا.
وقد لعبت الفرق الجهادية السلفية دورًا لافتًا خلال الثورة عام 2011، وبرزت واحدة منها: أتباع المخلدي. كان هؤلاء محايدين بشكل عام، لكنهم دعموا النظام القديم في بعض الحالات.
يرى السلفيون التابعون للتيار المدخلي أن “المدخلية” هي الحل الأكثر عملية، إذ تدعو إلى تطبيق الشريعة في المجتمعات الإسلامية المحافظة للغاية، وإلى إزالة البدع الغربية عن الإسلام. وبالطبع، يشترك الإخوان المسلمون والجهاديون في الهدف نفسه المتمثل في إقامة دولة إسلامية وتطبيق الشريعة.
تأثير المدخلي في ليبيا
نفى المدخلي تشجيع أتباعه على دعم الانقلاب العسكري وحفتر. ومع ذلك، شكل العديد من السلفيين ميليشيات مسلحة للقتال إلى جانب القوات الموالية لحفتر. بينما استخدمت جماعة حفتر الدعم السلفي كأداة دعائية في صالحها، لأن المدخلية تدعو إلى الطاعة ولا تشجع على المعارضة السياسية. في الواقع، كان القذافي نفسه يعتبر المدخلية كنز مذهبي ثمين، لأنها منحت الشرعية الدينية للنظام، ولم تتدخل في الشؤون الداخلية السياسية في البلاد. فعندما اندلعت الثورة عام 2011، أصدر المدخلي فتوى تطالب الجميع بالبقاء في البيت ونبذ الثورة في ليبيا باعتبارها “فتنة”.
ومن جانبها، قررت قطر تمويل جماعة الإخوان المسلمين الليبية والجماعة الإسلامية الليبية المقاتلة. وخلاصة القول، استمرت الصراعات الإقليمية بين السلفيين وآخرين من السلفيين لعقود. وفي ليبيا، فإن التداعيات تزعزع الاستقرار بشكل خاص.
النص كاملًا متوفر باللغة الإنجليزية هنا