آدم جارفينكل [1]
إن أشكال السلطة الاجتماعية القادرة على تحفيز الأفراد على الانخراط في أعمال عنف وإرهاب ليست ثابتة في جميع المجتمعات. فمن شأن البنى الاجتماعية المختلفة، فضلًا عن الثقافات المرتبطة بها، أن تؤثر على أساليب الإقناع والتلاعب، التي تساعد في توليد أسوأ أنواع السلوك، بأفضل وجه ممكن.
ينهمك اليوم جيل كامل من الباحثين ومحللي السياسات في محاولة فهم الأسباب التي تدفع البعض إلى التطرف السياسي، إلى درجة الاستعداد للانخراط في أعمال عنف، أو حتى الاستعداد للانخراط في أعمال إرهابية. وخلال السنوات الـ 17 الأخيرة -منذ هجمات 11 سبتمبر 2001- انتشرت الكثير من النظريات المستندة إلى أصول تهذيبية متنوعة، وهي كافية لملء مكتبات بأكملها، لكنها لم تسفر سوى عن حالة تفكير مترامية الأطراف، فقد بات من المستحيل فهم المؤلفات الموجودة بشكل عميق.
وبرغم كل هذه الجهود والمؤلفات، ليس هنالك توافق في الآراء حول نموذج توضيحي شامل، قوي بما فيه الكفاية لتوجيه صناع القرار بمختلف المستويات، وفي مختلف البلدان.
من شأن استعراض مثال واحد أن يبين لنا المشكلة العملية في هذا السياق. قبل عقد من الزمان، طرح الطبيب النفسي الأمريكي، المسؤول السابق في المخابرات المركزية الأمريكية، المؤلف د. مارك ساغمان نظرية “الجهاد بلا قيادة”. استعرضت النظرية عملية من 4 خطوات، تبيّن كيفية حصول التطرف. كما شددت النظرية على الدور الجديد للإنترنت، باعتباره نظامًا فعالًا للتعبئة الاجتماعية. وقد رفض ساغمان في نظريته جميع الميول الهيكلية، أو الحجج الحتمية، وبالتحديد، الادعاء بأن الإرهاب ناتج عن عيوب المجتمع الأكبر، أو عيوب النظام العالمي، أو عيوب سمات شخصية ميالة للإرهاب، وهذه هي الاتجاهات التي شاعت في الأيام الأولى بعد هجمات 11 سبتمبر.
إلا أن خبير شؤون الإرهاب، البروفيسور بروس هوفمان، انتقد ساغمان لتضخيمه تأثير الإنترنت، وتخفيض الدور المركزي المستمر للمنظمات الإرهابية الهرمية مثل تنظيم القاعدة. ثم ناقش الاثنان المسألة، وانضم آخرون للنقاش، لكن البعض انتقد ساغمان لعدم منح الإنترنت دورًا أكبر في التأثير في عملية التطرف (لأنه قلل من دور الصور كمحفزات عاطفية). ساعدت تلك المناقشة في توضيح خطوط الخلاف، وتوليد أسئلة أفضل، لكنها لم تقدم الكثير من المساعدة لصناع السياسات رفيعي المستوى، أو للمسؤولين عن الأمن الداخلي وإنفاذ القانون، في مسائل تتعلق بكيفية توزيع مواردهم واهتماماتهم.
وكما لوحظ في مقال سابق، ترك الاختصام ميراثًا من الفوارق السياقية بين البلدان المستهدفة من قبل التنظيمات الإرهابية. تلك الفوارق تمثل الجهود الذي تبذلها السلطات الوطنية في تعاملها مع مشاكلها المتباينة. على سبيل المثال، يميل الأمريكيون إلى التركيز على قوة الأفكار الدينية، ويقللون من شأن الديناميكيات الاجتماعية الأقل وضوحًا، أما السلطات الأوروبية، فتهمل التفكير الديني، وتركز على الأبعاد الاجتماعية كأفكار محفزة بجميع أنواعها.
دور السلطة في تحفيز الانخراط في العنف:
إن تحليل العنف السياسي والإرهاب ليس من عملي اليوم، وأنا لا أدعي إدراك الجزء الأكبر من المؤلفات حول هذا الموضوع. لكن الإبداع في العلوم غالبًا ما يقع على عاتق من هم على دراية بالأصول المنهجية الحديثة. قد يحتوي منهجي على ميزات، وربما على سلبيات كذلك، ولذلك، آمل أن أتخطى معظم الأدبيات الخاصة بالإرهاب، وأن أقدم اقتراحًا جديرًا بالاعتبار.
جوهر الاقتراح هو أن أشكال السلطة الاجتماعية القادرة على تحفيز الأفراد على الانخراط في أعمال عنف وإرهاب ليست ثابتة في جميع المجتمعات. فمن شأن البنى الاجتماعية المختلفة، فضلًا عن الثقافات المرتبطة بها، أن تؤثر على أساليب الإقناع والتلاعب التي تساعد في توليد أسوأ أنواع السلوك، وبأفضل وجه ممكن.
ومن أجل التخصيص، يمكن للسلطة الكاريزمية أن تحقق فاعلية في التحفيز أو التلاعب في سلوك الأفراد الذين ترعرعوا في مجتمعات ذات هياكل اجتماعية قبلية متوارثة، أكبر من فاعليتها في المجتمعات الحديثة التي تسيطر فيها السلطة الرسمية ويتلاشى فيها الطابع الشخصي. والأهم من ذلك، فإن السلطة الكاريزمية فعالة بشكل خاص عندما تتراجع أو تنهار السلطة التقليدية.
سيلاحظ دارسو علم السلوك الاجتماعي أننا نستحضر ماكس فيبر حتى دون ذكر اسمه. ففي مؤلفه الشهير “السياسة كمهنة” لعام 1919، ميّز فيبر بين 3 أنواع من السلطة الاجتماعية: السلطة القانونية العقلانية، والسلطة التقليدية، والسلطة الكاريزمية. وأشار فيبر إلى 3 أنظمة للتوصيل الاجتماعي، تعمل على إقناع الشباب على وجه التحديد بالاعتراف بسلطة كبار السنّ والشيوخ: المكانة، والمعرفة، والمنزلة الاجتماعية. يمكن لهذه الأنظمة الثلاثة أن تعمل مع أنواع السلطة الثلاثة، ولكن ليس بالنسب نفسها.
السلطة هي الاستخدام المعتمد اجتماعيًا للقوة، على شكل قواعد اجتماعية متداولة. بعبارة أخرى، هي قوة خارقة اكتسبت شرعيتها في مجتمع كامل، يجري ممارستها بشكل غير مباشر وبشكل غير متساو. إن وضع القواعد وتطبيقها أمر موجود في كل مجتمع بشري، وهو ما يساهم جزئيًا في تعريفنا كمخلوقات اجتماعية. وفي هذا السياق، لا يمكن لكل ميل اجتماعي أن يتحول مع الوقت إلى نزاع، ولا يمكن كذلك القول إن مجموعة ما ستتوقف عن الوجود نتيجة لتلك النزعات. وبالتالي، فإن قواعد الانضباط تعمل كوظائف اجتماعية، يجري تعميمها على السلطة الاجتماعية.
كانت السلطة القانونية العقلانية هي الشكل المهيمن في الدول الغربية المتقدمة في عصر ماكس فيبر. وقد ارتبطت تلك السلطة ببيروقراطيات الأمم الحديثة وبحكومات الدول. في المقابل، احتاجت الدول إلى براعة تجريدية من أجل خلق شعور بالوحدة الاجتماعية، علمًا بأن الغالبية العظمى من الناس لم تكن تنظر إلى بعضها البعض من منظور المقارنة، برغم أن غالبية المجتمعات الأوروبية الحديثة في ذلك الوقت تألفت من عائلات ممتدة كبيرة. وقد تحققت البراعة التجريدية آن ذاك في إطار التثقيف الشامل، وهي حقيقة اجتماعية تاريخية هامة، لكن غالبًا ما يتم تجاهلها. مكنت تلك البراعة من بث شعور القوة في صفوف الأفراد؛ ذاك الشعور القوي الذي يطلق عليه بعض علماء النفس اسم “قوة الباطن”.
كما يأتي مع هذه البراعة مفهوم نمطي للأدوار الاجتماعية: يمكن ربط الرجل بعائلة، ولكن أيضًا بمهنة، وطبقة اجتماعية، وحتى بمجتمع ديني مختلف عن مجتمع والديه. لقد كانت المعرفة المتخصصة في المجتمعات ذات السلطة القانونية العقلانية أكثر أهمية من المكانة الشخصية أو المنزلة الاجتماعية فيما يتعلق بوسائل الإقناع.
السلطة التقليدية في مواجهة السلطة القانونية:
السلطة التقليدية هي القوة التي حصلت على شرعيتها من خلال قوالب ثقافية طويلة الأمد، ذات أصول دينية بحتة، أو ذات منابت مغلفة بالدين، تتوافق مع بنية اجتماعية تشمل أعدادًا أصغر من الناس المرتبطين ضمن عائلة أو عشيرة موسعة جينيًا. وهكذا، ترتبط السلطة التقليدية بمجموعات إثنية لغوية أو عرقية (غالبًا ما تتداخل مع جماعات طائفية)، وترتبط حتى بالمجموعات الحديثة التي تشكل اليوم مجتمعات متداخلة في دول حديثة.
ولذلك، تسود وتهيمن السلطة التقليدية –على سبيل المثال– على “إمارات” المسلمين في شمال نيجيريا، في ظل وجود “رجال كبار” وشبكات الحماية والمحسوبية، بعيدًا عن السلطة القانونية العقلانية للدولة النيجيرية.
تكون مستويات التثقيف العميق في مجتمعات السلطة التقليدية أقل من نظيرتها في مجتمعات السلطة القانونية العقلانية، كما تكون البراعة المجردة أقل قوة فيها، حيث يجري استبعاد الفعالية السحرية، ويكون نطاق الهويات النمطية أضيق كذلك.
في المجتمعات التي تسود فيها السلطة التقليدية، غالبًا ما يجري تعريف البنية الاجتماعية المتوارثة من خلال الذرية والنسل، حيث يسود فيها الزواج اللحمي، أو الزواج بين الأقارب. في هكذا مجتمعات، تكون المنزلة الاجتماعية أكثر أهمية من المعرفة المتخصصة كوسيلة للإقناع.
السلطة من خلال الكاريزما:
وكما يصفها ماكس فيبر، السلطة الكاريزمية هي السلطة التي تحصل على شرعيتها من خلال شخصيات غير اعتيادية واستثنائية وخارقة للعادة، قادرة على إلهام الولاء والطاعة في صفوف أفراد المجتمع ككل.
ونظرًا للمحددات الفيزيائية التي تحدّ من قدرة الإقناع الشخصية، لا سيما في تلك الظروف التي سبقت الحداثة والتكنولوجيا، اقتصرت السلطة الكاريزمية آن ذلك على مجموعات صغيرة لا تشكل دولة حديثة أو حتى مجموعة عرقية. في ذلك الوقت، لم يتمكن الأفراد الجذابون سوى من الصراخ بصوت عال لجذب انتباه من في المكان فحسب.
هذه السلطة الكاريزمية تتوافق بشكل أفضل مع البنى الاجتماعية القبلية. وفي هكذا مجتمعات، تكون المكانة الشخصية أكثر أهمية من المعرفة المتخصصة والمنزلة الاجتماعية من ناحية القدرة على الإقناع.
تزدهر السلطة الكاريزمية بشكل سلس في البيئات ذات الطابع المؤسسي، المتصفة بهياكل اجتماعية غير متخصصة (وأيضًا في البيئات المنزوعة عن الهياكل المؤسسية، كما سنرى فيما بعد). ارتبطت الشخصيات الكاريزمية بشكل وثيق بالسحرة في الماضي، في مجتمعات ما قبل الحداثة، التي اتسمت بالوعي الأسطوري، أو الخرافي. وارتبطت الكاريزما كذلك بمجموعة من الشخصيات المعتبرة، التي برزت خلال عملية التحول الاجتماعي باتجاه السلطة التقليدية، التي امتازت بالانتقال التدريجي من الخرافة إلى الدين. فما الفرق بينهما؟
بين الأسطورة والدين:
يتساوى الوعي الأسطوري مع مفاهيم روحانية عالمية، في عالم مغمور بالسحر، وبعاطفة صلة الدم والقرابة، كما يتحرك من خلال قانون التحول، الذي يمكن خلاله لأيّ شيء أن يتحول إلى أيّ شيء آخر. في هكذا عالم، تكون الآلهة ملازمة للبشر، بل بينهم، وليس متعالية أو أبعد من مدى تجربة الإنسان الفيزيائية. في هكذا عالم، تسود كلمة سحر. وفي هكذا معتقد، فإن معرفة اسم شيء ما تمنح الفرد القوة على ذلك الشيء المسمى.
في هكذا عالم، تكون القوة شخصية للغاية، إذ يجري استنساخ السلطة لمنح الفرد دور المهيمن. في هكذا عالم، لا يجري تمييز النظام الاجتماعي بدرجة كبيرة، لأن التخصص في العمل محدود للغاية. في هكذا عالم، تُمارس السلطة فقط من خلال قوة اللغة الشفوية، وتكون لغة لاذعة وغامضة في غالب الأحيان في طريقة التقائها مع الأفكار الدينية.
تكون الرواية في هذا العالم مثل الحلم والخيال. في هكذا عالم، يقدّم الرقص والموسيقى وغيرهما من أشكال الفن عناصر تفصيلية لطقوس أسطورية خرافية، مأخوذة من سرد خرافي بحت. وأخيرًا، فإن جمع ما سبق يميز المجتمعات القبلية كما وصفها علماء الأنثروبولوجيا الثقافية.
وعلى الجانب الآخر، يعتمد الدين بشكل مطلق على الكتاب المقدس، لا سيما الدين الإبراهيمي، وغيره من الأديان. في هكذا بيئة، غالبًا ما يجري الحديث عن أمور خارقة ومعجزات، يمكن رؤيتها في كل قصص الكتاب المقدس. في الرواية الواردة في الكتاب المقدس، لا يمكن تحويل شيء إلى شيء آخر حسب أهواء ونزوات شخص ما. هنالك صرامة منطقية متأصلة في السرد، وأيضًا في الطريقة التي يُقرأ بها، وكذلك في الطريقة التي ينقل بها من قبل الأشخاص القادرين على القراءة إلى الأشخاص الذين لا يقرؤون.
هذا النوع من التواصل مغمور بعاطفة كبيرة، لكن المحتوى المعجمي للكتاب المقدس يحدّ من انحراف القوة العاطفية للمفردات. في هكذا بيئة، الروايات لا تتشابه مع الأحلام والخيالات؛ بل تتحدث بقصص متماسكة ومحكمة ومترابطة منطقيًا، تتمحور حول مسائل أخلاقية وسببية قابلة للتعلم. في هكذا بيئة، تكون الفنون الداعمة حاضرة، ولكن بشكل منسلخ عن الطقوس. الدين المكتوب في الكتب المقدسة ليس موجهًا للسحرة، بل للكهنة والأنبياء والرسل. في هكذا بيئة، يكون الإله متعال عن البشر فيزيائيًا، وليس بين البشر، أو داخل الروح ذاتها.
يستطيع الكاهن أو النبي –في ظروف مناسبة– أن يستخدم الكتاب المقدس ودروسه وقواعده وطقوسه من أجل الوصول إلى ما وراء المجموعة الصغيرة من العشيرة أو القبيلة الأكبر. وعندما يحدث ذلك، يسود نفوذ السلطة الكاريزمية، ويهيمن على المجموعات الأكبر حتى لو كان ذلك بشكل مؤقت، فالأمر يعتمد على أساليب النقل المتاحة. يمكن لهذا التأثير أن يبقى طالما بقي صاحب الكاريزما على قيد الحياة. وبعد ذلك، يتبخر التأثير، إما بسرعة أو ببطء، أو يكتسب الطابع المؤسسي عبر الوقت، وعند هذه النقطة، تتحول السلطة الكاريزمية إلى سلطة تقليدية مغروسة بشكل عام في الثقافة الدينية المتوارثة.
يمكن تجسيد الحالة الأولى في “جيش الرب”، الذي قاده جوزيف كوني في أوغندا، والذي فشل في إضفاء الطابع المؤسسي على جيشه. ويمكن تجسيد الحالة الثانية في عقيدة وليام ميلر الفريدة لعام 1830، الذي تمكن بمساعدة تابعيه من إضفاء الطابع المؤسسي على أنفسهم، من خلال تأسيس طائفة “الأدفنتست السبتيين”. ربما ساهمت الهياكل الاجتماعية المختلفة في منتصف القرن التاسع عشر (القبلية في أوغندا) و(الحديثة في أميركا) في فشل جوزيف كوني في إضفاء الطابع المؤسسي على جيشه، وفي نجاح ميلر في تحقيق ذلك.
ومن أجل أن تتمكن المؤسسات من الظهور والبقاء، عليها أن تتوافق مع المواقف في رؤوس الناس: إذا كان النظام الاجتماعي الأوسع يوفر دلالات ثقافية مؤسسية، سيجد الناس محفزًا من أجل إضفاء الطابع المؤسساتي على مشروعهم الاجتماعي. وفي هذا السياق، ستظهر نماذج تبين كيفية القيام بذلك. وإذا لم يكن الأمر كذلك، فإن الابتكار المؤسسي سيصبح أكثر صعوبة وأقل قابلية للتحقيق.
من الأسطورة إلى الدين:
هذه الحركة الانتقالية من الأسطورة إلى الدين، كما هو محدد هنا، تُميّز تاريخ الإسلام منذ بداياته. لقد كان (النبي) محمد شخصية قبلية كاريزمية، تمكن من إيصال رسالته، واستطاع تحقيق قوة وسلطة عابرتين للقبائل. ويرجع ذلك جزئيًا إلى أن سياقه الاجتماعي في القرن السابع، في الجزيرة العربية، مثّل نقطة مفصلية بين الثقافات الشفوية والثقافات المكتوبة، فضلًا عن السياق المادي الذي اندمجت فيه الهياكل الاجتماعية القبلية الأصغر حجمًا مع الهياكل العرقية المتوارثة الكبيرة، في الوقت الذي اعتمدت فيه البيئة الحجازية على تجارة القوافل المزدهرة.
تمكن (النبي) محمد من توحيد معظم القبائل المتشاحنة في الجزيرة العربية من خلال قوة الرواية الإبراهيمية، كما استخدم سلطته الكاريزمية لتعزيز وتغذية ما وصفه أنتوني والاس بـ “الحركة التنشيطية” – أو ما يطلق عليه الجميع اسم الإسلام. ومع تمرير السلطة لأبي بكر والخلفاء اللاحقين، جرى تأطير السلطة الكاريزمية في سلطة تقليدية، وبعبارة أخرى، سلطة متضمنة في ثقافة، أي ثقافة دينية متغيرة بشكل كبير.
هذا النمط الأساسي تكرر لفترة طويلة بعد أن غاب (النبي) محمد عن المشهد. لنأخذ بعض الأمثلة المعروفة فقط، من بينها الزعيم الكاريزمي [محمد] بن تومرت، مؤسس الحركة الموحدية في القرن الثاني عشر، والحركة المهدية في أواخر القرن التاسع عشر في السودان (محمد أحمد بن عبد الله)، وحركة السانوسية في أوائل القرن العشرين في ليبيا (محمد بن علي السنوسي)، وأيضًا تنظيم القاعدة (أسامة بن لادن)، والدولة الإسلامية (إبراهيم عواد إبراهيم علي البدري) اللتان ظهرتا في الآونة الأخيرة.
انطلقت جميع هذه الحركات -والعديد من الحركات الأخرى التي يمكن الاستشهاد بها داخل المجتمعات الطائفية السنية، والمجتمعات القائمة على البدعة- في سياق قبلي، وتوسعت تدريجيًا من أجل نشر السلطة الكاريزمية إلى مجموعات أكبر، بغرض إضفاء الطابع المؤسسي عليها في نهاية المطاف، أو تحولها إلى سلطة تقليدية إن فشلت في تحقيق ذلك، أو الانصهار في سلطة تقليدية قائمة، كل ذلك يحدث بمجرد غياب الشخصية الكاريزمية عن المشهد.
من القبلي إلى العرقي:
إن الانتقال من المستوى القبلي (السلطة الكاريزمية) إلى المستوى العرقي (السلطة التقليدية) ينطبق على كل قارة مأهولة، وعلى كل مجتمع ديني، وليس على العرب والمسلمين فحسب. على سبيل المثال، اعتمد نموذج التعبئة السياسية وبناء الهوية في جنوب الصحراء الإفريقية –ما بعد الاستقلال- على شخصيات قبلية كاريزمية، مثل كوامي نكروما (أكان)، وجومو كينياتا (كيكويو)، وجوليوس نيريري (زانكي). وقد تمكن أولئك من توسيع سلطتهم الشخصية إلى مستويات أكبر، على مستوى العرق والولاية. كانت المجتمعات آن ذاك قبلية -في مرحلة ما- من ناحية البنية الاجتماعية. ولكن مع مرور الوقت، أصبحت تقليدية عرقية، وبعضها تحول إلى النمط الحديث.
وفي سياق هذه الهياكل الاجتماعية، يمكن للسلطة الكاريزمية أن تنشأ في أي مكان توفرت فيه وسائل الاتصال. في الواقع، جميع النماذج الواردة في إطار الحركة الدينية القديمة (التي سبقت الألفية) انطوت في مرحلة ما على قذف السلطة الكاريزمية إلى المجال الاجتماعي الأوسع. وفيما يلي قائمة مختصرة: قاد شمعون بار كوخبا اليهود المتحمسين في القرن الثاني ضد الاحتلال الروماني، بمساعدة الحاخام أكيفا، وقد فعل ذلك على غرار نموذج المكابيين الذين قادوا ثورة ناجحة ضد اليونانيين السلوقيين قبل ذلك بحوالي 300 عام.
وقاد الإمبراطور الصيني زهو يوانزهانغ تمرد العمامة الحمراء في مجتمع “وايت لوتس” ضد سلسلة المغول في القرن الرابع عشر. وقاد توماس مونتزر ثورة الفلاحين عام 1525 فيما يعرف اليوم باسم ألمانيا. وأثار هونغ أكزوكوان تمرد تايبينغ في منتصف القرن التاسع عشر في الصين. وقاد وفوكا “الشبح” الأمريكي الأصلي أو “رقصات الروح” في الوقت ذاته تقريبًا. وباستثناء جزئي لـ “وفوكا” و”راقصي الأشباح”، لم تنشأ أي من هذه الحلقات داخل بنية اجتماعية قبلية.
وسائل الاتصال:
كيف ومتى تنجح السلطة الكاريزمية –المرتبطة بالمجتمعات القبلية ما قبل الحداثة– في الدفع باتجاه الأشكال الثقافية الاجتماعية الأكبر، والأكثر تماسكًا وتطورًا من الناحيتين المادية والتعليمية؟ مجددًا، يمكن لها أن تحقق ذلك طالما توفرت وسائل الاتصال. ولكن، عندما تفشل هياكل السلطة القائمة، فإنها تفقد قدرتها على الإقناع، وتخفق في إدارة الوقائع الاجتماعية التي يراها الناس من حولهم. هنالك شخصيات كاريزمية في جميع الأماكن وفي جميع الأوقات، لكنها لا تسود ما لم تتفسخ هياكل الوضع الراهن السائدة بطريقة أو بأخرى (مصطلح بيتر بيرغر في الستار المقدس).
إن الحفاظ على الخرافة أمر هام في جميع النطاقات الحضارية، ولا توجد هناك أية ثقافة إنسانية خالية من العقيدة. وعندما تتوقف القصص التي ترويها السلطة عن الإقناع، ينطلق بحث جديد عن قصص قادرة على تحقيق النجاح، من أجل تفادي الأزمة الإدراكية الجماعية على الأقل.
إذا كان انهيار المرتكزات العقائدية في المجتمع عميقًا بما فيه الكفاية، قد ينشأ سوق للسلطة الكاريزمية، فضلًا عن ظهور جوانب متعددة من التفكير الأسطوري (الخرافي) المرتبط بها، حتى عندما تسود البنى الاجتماعية الثقافات الحديثة. وعندما يحدث ذلك، فإن اللغة المجازية الأسطورية تغلب على اللغة السياسية إلى درجة أكثر من المعتاد.
ربما كان إيريك فويجلين أول من أشار صراحة إلى أوجه التشابه بين النظام العقائدي الديني وأيديولوجيات الحركة الجماهيرية في أوائل القرن العشرين: الفاشية والشيوعية. وربما كان خوسيه أورتيغا غاسيت هو أول من أظهر طبيعة الفاشية والشيوعية العاطفية للغاية، وأسباب رفضهما المنطقية، وتغليفهما بالسلطة القانونية العقلانية بغلاف كاريزمي، وقد كتب عام 1930 قبل وصول هتلر إلى السلطة: “اتصفت المخلوقات الفاشية والمذهبية بظهور النوع الأول للإنسان، الذي لم يكترث بشرح الأسباب حتى لو لم يكن على حق، والذي كان مصممًا على فرض آرائه. وهذه هي البدعة: أن تمتلك الحق في عدم الصواب، وأن تمتلك الحق في أن تكون غير منطقي، وبعبارة أخرى، منطق اللامنطق”.
التقنيات الرئيسة في تلك الحقبة، التي أدت إلى انتشار السلطة الكاريزمية في المجتمعات الحديثة بشكل سريع، مثل الصحف والمجلات والإذاعة، دفعت الحكومات إلى الرغبة بالسيطرة على هذه التقنيات، إدراكًا منها بقدرة هذه الوسائل على تحفيز السلوك السياسي الفوضوي، وربما العنف. ولذلك، جرى إنشاء لجنة الاتصالات الفدرالية في الولايات المتحدة عام 1934، على سبيل المثال، من بين مؤسسات أخرى مشابهة في مختلف دول العالم.
تميزت الحركات الشمولية الاستبدادية بوجود شخصيات كاريزمية خاصة بكل واحدة منها، فضلًا عن البدع والطقوس المصاحبة لكل شخصية من تلك الشخصيات: موسيليني وهلتر، فرانكو وبيرون، لينين وستالين، وماو تسي تونغ. جميعهم كانوا مضربًا للأمثال، يأتون على خيول بيضاء من أجل إنقاذ “الناس”، وجرى تصويرهم بالوحدة والتراص الاجتماعي.
تتميز أشكال الشعبوية اليمينية واليسارية اليوم بوجود زعماء يتمتعون بالكاريزما، أو قادة بارزين محتملين، أو أشكال مشابهة لهذا النوع من القيادة. حتى أن بعض الناس يصرون على أن دونالد ترامب يتمتع بشخصية كاريزمية!
إن صعود النزعة الشعبوية في اللحظة الراهنة هو بالطبع أحد أعراض انحطاط السلطة النخبوية السابقة التي أخفقت في إخبار القصص وفشلت في تحقيق مصداقية في نظر الجماهير. وقد انتقلت تكنولوجيا الإرسال اليوم إلى ما هو أبعد من الراديو أو التلفاز؛ إلى الإنترنت.
إسقاط على الحاضر:
والآن، وبعد أن حددنا المصطلحات، ووضعناها في سياق اجتماعي – تاريخي، كيف يمكننا ترجمة كل ما سبق إلى مشكلة التطرف المعاصر والعنف الناتج عنه؟ يجب أن تكون الإجابة واضحة لأولئك الذين يتمتعون بوعي شديد بوقائع العالمين العربي والإسلامي. إن رواد التطرف الإسلامي، الذين يرغبون في إثارة العنف داخل وخارج المجتمعات الإسلامية، يستهدفون بشكل رئيس الأفراد الذين لم يعودوا يؤمنون بقصص “الصدق واللوم”، التي يسمعونها بشكل متكرر من قبل السلطات التقليدية (في المنطقة)، أو السلطات القانونية العقلانية (في الغرب بشكل رئيس).
وللأسف، يمكن فهم ضعف الدول العربية على نطاق واسع، لا سيما الدول الحديثة المعاصرة غير الملكية. ويمكن كذلك إدراك ضعف الدول الإسلامية غير العربية مثل باكستان وأفغانستان وحتى تركيا وإيران. وقد حملت روايات النخب العربية تأثيرًا قويًا في فترة ما بعد الاستقلال مباشرة، مما غذى الاستياء من الاستعمار، وعزز رؤى النهضة العربية، لكنها تراجعت مع مرور الوقت بسبب مجموعة متنوعة من أوجه القصور والخلل: الفشل الإداري في توفير الخدمات الأساسية، عدم القدرة على توليد نمو اقتصادي مشترك على نطاق واسع، والفشل في التغلب على الانقسامات الطبقية، وعدم التجانس الطائفي، وغيرها من الإخفاقات.
لا تزال نظرية هشام شرابي حول الحداثة المشوهة في العالم العربي صحيحة وجوهرية، لا سيما وأن هذه الحداثة جرى استعارتها من التشوهات الماركسية، تمامًا مثل البيت المتهاوي الذي يجمع بين الأشكال الحديثة والأشكال الموروثة – حسب وصف شرابي.
إحدى نتائج أوجه القصور المذكورة هي ظهور شخصيات كاريزمية عربية، عملت على تعويض العجز في تحقيق الحداثة في المجتمعات. كان جمال عبد الناصر هو الأكثر شهرة من بين تلك الشخصيات. وقد أطلق عبد الناصر راديو القاهرة من أجل إثارة ومعالجة الجماهير العربية ببراعة. وظهر أيضًا قادة أكثر فاعلية -مثل الحبيب بورقيبة- قاموا بنشر أشكال أكثر إقناعًا وجاذبية وكاريزمية، بغرض ممارسة الحكم وغرس التغيير من الأعلى في مجتمعات موروثة.
وبعد أن جرى قذف الأشكال الكاريزمية إلى الحياة السياسية العربية، في ظل التحديث المجتمعي الفاشل وغير المكتمل، تهاوى الخطاب السياسي في غالبية الدول العربية منذ فترة طويلة، وتحول إلى نوع من التمثيل الإيمائي الموازي، استخدم فيه القادة والإعلام والجمهور كلمات إيمائية مجردة بغرض حماية أنفسهم من الأذى، وليس من أجل مناقشة المشاكل والقضايا الفعلية. غالبية تلك المجتمعات متوقفة عن الحداثة؛ وبعضها انهار بسبب انفجار سياسات الهوية الطائفية والعرقية. كما أن جميع القصص التي تخبر بها القيادات الوطنية تسقط على مسامع الشعوب الشابة المحبطة بكل سخرية.
مرتكزات أساسية:
يحتاج الناس بشكل أساسي إلى 3 مرتكزات جوهرية من أجل المشاركة بثبات في المجتمع، وبالتالي المساهمة في استقرار الأمة ككل: الهوية والمجتمع والهدف. يحتاج الفرد إلى الشعور بمعرفة نفسه أولًا، وإلى معرفة ما يمكن الارتباط به لتحقيق المنفعة المتبادلة بشكل موثوق، وبالتالي القدرة على إيجاد أهدافه السامية في المجتمع. وفي الوقت الذي يفقد فيه المجتمع بعض أو كل هذه المرتكزات، سرعان ما يسقط في حالة من القلق والخوف، ويدخل في حالة من الذعر أثناء محاولة إعادة تأسيس المرتكزات، وحينها، يتعرض المجتمع للانجرار إلى أي شخص أو منظمة تقدم وعودًا بالغوث والإنقاذ.
ولهذا السبب، وفي سياق الروايات القومية العربية المفزعة في يومنا هذا، تزدهر المنظمات الشبيهة بالظاهرة اللينينية، مثل الإخوان المسلمين، التي حققت نجاحًا في المناطق الحضرية التي غالبًا ما تعج بالوافدين من الريف – الذين انقطعوا حديثًا عن التقاليد العائلية والتقليد الشعبي؛ بعبارة أخرى، الذين انسلخوا عن نسيج السلطة التقليدية التي ضعفت في كثير من الحالات بسبب التغيير المجتمعي السريع.
هذا هو السبب الذي يجعل الهاربين من الأمية عرضة للتودد والاستهداف من قبل التعقيد الفكري في الخطب المليئة بالواعظين المتطرفين. قبل أربعين عامًا، جسدت أشرطة الكاسيت تقنية جديدة لصالح روح الله خامنئي، وكذلك لصالح أسامة بن لادن وأنور العولقي، وغيرهم من المتطرفين، من بينهم من ماتوا.
وهذا هو السبب أيضًا الذي جعل التلفاز وسيطًا قويًا في الشرق الأوسط المعاصر، ووسيلة نقل فعالة جدًا في نشر الأفكار الراديكالية –لاحظوا شعبية خطب يوسف القرضاوي التي تبث من الدوحة، كأحد الأمثلة الهامة– إذ أن فئة قليلة نسبيًا من الجمهور المستهدف مثقفة بشكل عميق؛ فقد ترعرعت في الهياكل الاجتماعية القبلية المتوارثة. ولهذا، نجدهم منسجمين جدًا مع جمالية هكذا نداءات ومناشدات. ربما يكونون قادرين على قراءة قوائم وكتيبات، لكن الثقافة الحقيقية العميقة ما زالت نادرة نسبيًا في العالم العربي الإسلامي، كما أن المعرفة العميقة في اللغة العربية وغيرها من لغات الشرق الأوسط لا تزال نادرة في صفوف أولئك الذين يعيشون المجتمعات ذات الأقلية المسلمة، مثل المجتمعات الأوروبية.
بالنسبة لمجتمعات الأقليات المسلمة في أوروبا، القارة المستهدفة من قبل الإرهاب السلفي، فقد أوضح أوليفر روي وآخرون أن ذلك النوع من الناس –معظمهم من الذكور المسلمين غير المتزوجين– الذين اعتنقوا الإرهاب السلفي، لا يعتبرون جزءًا من شبكات الأسرة التقليدية المسلمة، ولا يتلقون عادة تعليمًا على مستوى المدارس الدينية حول الثقافات الدينية الخاصة بهم.
ولذلك، نراهم ينجذبون إلى النداءات الأصولية الجديدة، باعتبارهم لاجئين من الخلل الاجتماعي المحيط بهم. قد يكون أو لا يكون لديهم سمات شخصية تجعلهم عرضة للاستهداف، والوقوع فريسة في شباك سلطة الآخرين الاجتماعية الكاريزمية، لكن من الواضح أنهم يتعرضون لـ “صدمة” دون وجود عازل صدمات، ذلك العازل الذي يعمل على تخفيف حدة الصدمة، الذي يقي من طرق التفكير والسلوك المتناقضة مع تنشئتهم الاجتماعية المبكرة، سواء كان ذلك في الشرق الأوسط، أو في أحضان آبائهم المهاجرين في أوروبا. وعلى هذا النحو، ربما يجدون أنفسهم بين عوالم عدة، مرتبكين، منعزلين عن العائلة، يشعرون بالوحدة، ولذلك، لا بد من أخذ ما يلي بعين الاعتبار:
لدى كل عصر، وثقافة، وعادة، وتقليد، طابع خاص بكل واحد منها. لكل منها نقاط قوة ونقاط ضعف، وأوجه جمال وأوجه قبح. كل واحدة منها تقبل بوجود أوجه معاناة، وتتعامل مع بعض الشرور بصبر وهدوء. في الواقع، تهبط حياة الإنسان إلى معاناة حقيقية، بل إلى الجحيم، عندما يتداخل عصران اجتماعيان ببعضهما البعض. في الحقيقة، هنالك أوقات يسقط فيها جيل كامل في هذا الطريق، بين عمرين أو نمطين من أنماط الحياة، ونتيجة لذلك، نراه يفقد كل القدرة على إدراك وفهم ما يحيط به.
المجتمع أكثر قوة في “ما قبل الحداثة”:
قد يكون من الصعب، وربما من المستحيل، إجراء تحسينات على تلك الكلمات من أجل تقديم شرح عام لما يعيشه العرب المسلمون اليوم، سواء في منطقة الشرق الأوسط، أو في أوروبا على وجه الخصوص – كلمات كتبت عام 1927 من قبل هيرمان هيس في “ستيبينوولف”، في وصف معاناة جيل ما بعد الحرب العالمية في أوروبا. إن الصدى القوي الذي نسمعه اليوم في تلك المعاناة كافٍ للتأكيد على حقيقة أن الطاقة الكامنة وراء العنف السياسي لا تقتصر على أية جماعة عرقية أو دينية بعينها. كما تؤكد كذلك على نوعية الظروف غير المستقرة، التي تكون فيها جاذبية السلطة الكاريزمية أقوى من أي شيء آخر.
يمكن للأسلوب الكاريزمي الجذاب –الهادف إلى تحقيق سلطة على الآخرين- أن يعمل في أي هيكل اجتماعي، أو أية ثقافة، خصوصًا عند توفر ظروف غير عادية واستثنائية. لكنه يعمل بشكل أكثر فعالية وسهولة على المستهدفين المجردين من الثقافة والتعليم العميقين، لا سيما أولئك المنقطعين عن السلطة التقليدية، وعن مرتكزات الأساليب التعليمية المرتبطة بالعائلة. يعمل الأسلوب الكاريزمي الجذاب على أفضل نحو على أولئك الذين يشعرون بالانعزال، والتمييز (سواء كان ذلك حقيقة أو مجرد أوهام)، والمنزلة الاجتماعية المتهاوية، فضلًا عن الشعور المتكرر بالذنب الجنسي والإحباط.
علاوة على ذلك، يشعر أولئك الذين ينتمون إلى البنى الاجتماعية في “ما قبل الحداثة” بالضعف الفردي، وعادة ما يشعرون بقوة المجتمع أكثر من قوتهم الباطنية. إن التسلسل الهرمي للسلطة، في المجتمعات القبلية والمجتمعات الموروثة في الشرق الأوسط، لا يشجع الشباب الذكور المهمشين اجتماعيًا على تكوين أو إبداء آراء خاصة حول المسائل السياسية والدينية، وهذا ينطبق أيضًا على النساء في غالبية المجتمعات. ليس من المفترض أن يمتلك هؤلاء الأشخاص أفكارًا خاصة بهم، ولذلك، من شأن أساليب التعليم التقليدي -التي تهيمن على معظم المجتمعات الإسلامية حتى هذا اليوم، التي نادرًا ما تعلم مهارات التفكير النقدي- أن تحوّل الجنوح والاستبعاد إلى واقع.
عندما يجري زج هكذا أفراد في مواقف اجتماعية -تنطوي على القوة الفردية والسلوك الواضح- فإنهم غالبًا ما يعانون من الاختلاج الإدراكي، والشلل التفكيري. وبالتالي، يذهب الكثير منهم للبحث عن أشخاص يستطيعون منحهم الآراء التي من المفترض أن يمتلكوها، حسبما طلب منهم الآخرون. ومن أجل العثور على هكذا أشخاص، فإنهم يبحثون عن أب بديل أو شيخ –شبكات قربى افتراضية مرتبطة بهم– مثل تلك الشبكات التي كانوا يعرفونها من قبل. ومن المعتاد أن يرغب هؤلاء الأفراد في تسليم القوة إلى الآخرين، من أجل التخلص من مسؤولية الاختيار. نحن نميل إلى تركيز الملاحظات التحليلية على القادة، ولكن، من الحكمة أن نبحث عن فهم أفضل للأتباع والمناصرين، الذين بدونهم، سيصبح القادة عاطلون عن العمل.
هؤلاء الباحثون الشباب في الغالب عبارة عن شخصيات موجهة بقوة من أجل استخدام اللغة المشهورة في كتاب “الحشد الوحيد” (1961)، لا سيما أن ثقافتهم والبنية الاجتماعية المصاحبة لها ساعدت بقوة في جعلهم بهذا الشكل. وهذا هو السبب الذي يوفر لأصحاب الكاريزما من الوعاظ في المساجد الأوروبية الكثير من فرص التجنيد في صفوف الشباب. ولذلك، نرى المستهدفين يأتون بأعداد هائلة، بأرواح محروقة إن جاز التعبير، وبيأس كبير، يبحثون عن الهوية، وعن المجتمع، وعن الهدف. وبعد ذلك، وبمجرد اصطيادهم، تبدأ الضغوط الممارسة عليهم بتحقيق فعالية كبيرة، مستبعدة أي أفكار متنافرة.
الإنترنت: أداة تجنيد:
ولكن حتى في غياب مجتمع واقعي من المؤمنين بالتبشير، فإن الإنترنت -كما يقول ساغمان- أداة تجنيد قوية جدًا للتطرف والعنف داخل البلدان الغربية. غرف الدردشة والاتصال عبر الإنترنت لا تقتصر على إنشاء مجتمعات افتراضية، يمكن اللجوء إليها في حال تعذر إنشاء مجتمعات واقعية، بل كذلك توفر بيئة رئيسة لا يمكن التطفل عليها أو تتبع عمليات الإرسال فيها.
في البيئة الاجتماعية العادية، نادرًا ما يستطيع رواد التطرف الاستفراد بالمساحة المعرفية الخاصة بمستهدف ما، أو الخاصة بمجند محتمل. في اللقاءات الاجتماعية التي تجري وجهًا لوجه، غالبًا ما يجري استخدام إشارات متنوعة باتجاهات مختلفة، وفي تلك الحالة، تعبّر الأطراف الخارجية عن شكها، وتبدأ بطرح العديد من الأسئلة. يمكن لفقاعات الحماسة التي يستحضرها رواد التطرف أن تكون مندفعة جدًا، لكن ليس في الاتصالات عبر الإنترنت، نظرًا لطبيعتها كاتصالات مغلقة وخفية.
نعم، يمكن للصور المصاحبة لكلمات صادرة عن شخصية كاريزمية أن تكون قوية وساحرة جدًا، تمامًا مثل المنوم أو المغناطيس. نعلم جميعنا أن الصور أفضل من التحليل العقلاني في ممارسة التأثير على الآخرين. ولكن في الوقت ذاته، يبرع رواد السلفية في زراعة رسائلهم لتتناسب مع قابلية التأثير بالأسلوب الكاريزمي.
لدى المجتمعات الغربية إرهابيون محليون بالطبع، وهنالك أمثلة تتبادر إلى الذهن حول دول يكثر فيها الإرهاب المحلي، تشمل جزيرة تاسمانيا، والنرويج، وإيرلندا الشمالية، وإسبانيا، وألمانيا، والولايات المتحدة.
نعم، نرى في الولايات المتحدة هجمات ذئب منفرد إسلامية، وعنف مستوحى من الإنترنت، وحدث هذا في ولايات مثل فورت هود، سان برناردينو، بوسطن، أورلاندو. لكننا شهدنا كذلك نوبات من الإرهاب المحلي، لا علاقة لها بالإسلام بأي شكل من الأشكال، تشمل غارة جون براون على بلدة هاربر فيري عام 1859، وهذا مثال تاريخي على الإرهاب المحلي الداخلي، وليس هناك شك موضوعي في ذلك. وفي الآونة الأخيرة، حصلت العديد من الحوادث الإرهابية المحلية مثل مطلق النار في باركلاند، ومطلق النار في فلوريدا، ومطلق النار في لاس فيغاس، ومطلق النار في مدرسة ساندي هوك الابتدائية، وغيرها من الهجمات.
لقد عانينا كذلك من حلقات انتحار مفجعة، وليست مجرد حالات قتل بسيطة، وهذا يشمل حالة جيم جونز الشهيرة، وكذلك بعض الحالات الأخرى المحاطة بالغموض، مثل انتحار باب السماء الجماعي.
ولكن، لننظر بعناية إلى ما يلي: لم يقم أحد بتجنيد هؤلاء القتلة، ولم تتلاعب بهم شخصية كاريزمية، ولم يقنعهم أحد بفعل أي شيء، ولم يرسل لهم أحد أي شريط كاسيت أو روابط عبر الإنترنت. ولا يوجد ما يدل على أن أيًا منهم حصل على توجيهات خارجية. جميع الأدلة تشير إلى أنهم أفراد موجهون من تلقاء أنفسهم وغير مرتبطين بأية مجموعة، كما أن جميعهم يتمتعون بتعليم عميق. إن الفوارق بينهم وبين الإرهابيين الإسلاميين المتطرفين، في المنطقة وفي أوروبا، بالكاد واضحة.
هذا يعني شيئًا ما. وبشكل مختصر، هذا يعني أن أساليب الإقناع والتلاعب الممارسة من قبل رواد التطرف تميل إلى العمل بشكل أفضل عندما تتلاقى مع أشكال السلطة السائدة في بيئة اجتماعية تناسب أهدافهم. الأساليب الكاريزمية لا تعمل بشكل جيد على الغربيين من الأفراد المثقفين الذين يتمتعون بقوة باطنية، إلا في ظروف غير اعتيادية للغاية، أي عندما تفتح الجحيم أبوابها، مثل الظروف التي أعقبت “ستيبن وولف” في جمهورية فايمار، التي مكنت من صعود النازيين.
وعلى المنوال ذاته، الأساليب القانونية العقلانية النصية لا تعمل بشكل جيد على المجتمعات القبلية الموروثة في الشرق الأوسط، وعلى الشعوب الأخرى المرتبطة بالهياكل الموروثة والهياكل الاجتماعية القبلية.
هنالك دلالة واحدة على الأقل، من الدلالات الواضحة، التي يمكن تقديمها لصناع السياسات الغربيين: تجنبوا المغالطة في جهود مكافحة الإرهاب. إن مراكز المراسلة الحكومية –التي تركز على النصوص المراد كتابتها، ثم ترجمتها، ثم نقلها بطريقة أو بأخرى إلى مروجي العنف في المنطقة- لن تثمر ولن تفلح على الإطلاق. الإرهابيون من العوام لا يجندون أنفسهم من خلال قراءة مقالات سيد قطب باللغة العربية الأدبية. إنها ليست الطريقة المناسبة لمحاربة ما يسمى حرب الأفكار.
هنالك كذلك العديد من الدلالات العملية التي يمكن استنباطها من هذا التحليل. تشير إحدى هذه الدلالات إلى أن التعرض للشخصيات الكاريزمية -حتى لو جرى ذلك من خلال التلفاز أو الإنترنت– يؤدي إلى إثارة ردود فعل نفسية شبيهة بتفاعلات الإدمان على تجارب معينة، مثل المقامرة، والجنس، وقطار الملاهي، والرياضة المتطرفة، وغيرها. لندع هذه الدلائل تنتظر وظائفها المستقبلية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] باحث أكاديمي أمريكي بارز، مؤسس مجلة “ذي أميركان إنترست” الأمريكية.
النص كاملًا متوفر باللغة الإنجليزية هنا