شارلوت ليتلوود**
مع دخولنا الشهر الخامس من تفشي وباء كوفيد-19، تعلَّمْنا شيءٌ واحد مؤكد ألا وهو أهمية ممارسة التباعد الاجتماعي. وأدَّى التعطيل الهائل للاقتصاد والضغط على نظام الرعاية الصحية إلى توقف بعض الدول تقريباً. وفي هذا الصدد، يرى الدكتور أليستر ليتلوود من مستشفى جامعة “كوين إليزابيث”، أن التباعد الاجتماعي هو السبيل الوحيد للحدِّ بشكلٍ فعَّال من انتشارِ الفيروس، وإلا فإنه سينمو أضعافًا مضاعفة.
وفي حينِ أن الوباءَ العالمي يَطال الدولَ في جميع أنحاء العالم، وتكافح كل منها لإيجادِ طريقةٍ للسيطرة على تفشيه، فإن الدول ذات النظم الثيوقراطية (الحكم الديني) بدأت تظهر اتجاهًا خاصًا في كفاحها ضد الفيروس، وهو الاعتماد على الدين بدلًا من العلم وعلى نظرية المؤامرة بدلًا من الحقائق. وهذا لا يشكِّل تهديدًا للصحة العامة فحسب، بل للأمن العالمي في ظلِّ تنامي مقومات التطرف.
التعامل الإيراني
لا شك أن ثقةَ الجمهور في العلوم الطبية ووسائل الإعلام التي تستند إلى الحقائق لها أهمية قصوى في التصدي لانتشار كوفيد-19، ولكن للأسف في إيران هناك فائضٌ من المعلومات المتضاربة والدعاية المحيطة بانتشار الفيروس. ومن شأن إجراء بحث سريع على تويتر باستخدام كلمتي “إيران” و”كورونا” أن ينتج العديد من المعلومات المتضاربة من نظريات المؤامرة المتعلقة بمعاداة الشيعة، والدعاية المعادية للغرب، والنشطاء المناهضين للنظام الذين يلقون باللوم على الملالي في انتشار الفيروس.
الأمر المؤكد هو أن إيران قلَّلَت من خطورة الفيروس، وشجَّعت بنشاطٍ الاختلاطَ الاجتماعي. في البداية، حدث ذلك لأن الملالي أرادوا أن تمضي الانتخابات التشريعية في 21 فبراير كما هو مقرر لها. واعتبروا إقبال الناخبين أمرًا حيويًا لإظهارِ الولاء للنظام، والشرعية الانتخابية، خاصة في وقتٍ أعادت فيه الولايات المتحدة فرض العقوبات على طهران. وتعهدتِ السلطاتُ بمعاقبة أي شخص “ينشر شائعات حول وجود وباء خطير”، وزعمت أن الولايات المتحدة بالغت في تهديد كوفيد-19 بغية قمع إقبال الناخبين.
ومن المرجح أن يكون رفضُ النظام الإيراني الاعترافَ بالتهديد الذي يمثله كوفيد-19، من أجل رفع معدلات مشاركة الناخبين، هو العامل الرئيس لتفشي الوباء. وبالمناسبة، جاء إقبالُ الناخبين عند مستواه الأدنى منذ ثورة عام 1979، وكما هو متوقع ألقى المسؤولون باللائمة في انخفاض الإقبال على الفيروس.
إلى جانب هذه الأزمة الصحية، تواجه إيران أيضًا أزمة اقتصادية طاحنة بسبب تراجع أسعار النفط وزيادة العقوبات الاقتصادية. وتعاني إيران أوضاعًا سيئة إلى درجة دفعتها لطلب -لأول مرة منذ أوائل الستينيات- قرضًا بقيمة 5 مليارات دولار من صندوق النقد الدولي.
ولجأ مستخدمو الإنترنت المؤيدون للنظام إلى وسائل التواصل الاجتماعي لإلقاء اللوم على العقوبات على اعتبار أنها السبب في عجز الحكومة عن شراء الإمدادات الطبية الحيوية والحصول عليها. ومن جهته، غرّد وزير الخارجية الإيراني، محمد جواد ظريف، قائلًا إن العقوبات “أضعفت قدرة إيران على مكافحة الفيروس، وقتلت الإيرانيين حرفيًّا”. ومع ذلك، فإن هذا لا يعفي قادة إيران من المسؤولية عن انتشار الفيروس. ونتيجة لقرارها المتهور بتشجيع الاختلاط الاجتماعي بدلًا من فرض تدابير الحجر الصحي، أصبحت واحدة من أكثر دول العالم تضررًا من تفشي الوباء.
علاوة على ذلك، لعب الزعماء الدينيون الإيرانيون دورًا مهمًا في انتشار الفيروس، حيث شجعوا أداء صلاة الجمعة في جماعة، الأمر الذي كان بالتأكيد عاملًا رئيسًا في انتشار كوفيد-19. وحتى عندما شرعت الحكومة في إصدار توجيهات التباعد الاجتماعي، رفضها الزعماء الدينيون علنًا. ونُشرت مقاطع فيديو لأشخاص يزورون الأضرحة الدينية عمدًا على وسائل التواصل الاجتماعي، من أجل إقناع الناس بأنه لا يوجد تهديد وتشجيعهم على مواصلة الزيارات. وفي مدينة قم، تمت مشاركة مقاطع فيديو لمصلين يلعقون نوافذ شبكية مطلية بالذهب تحيط بقبر مقدس، على وسائل التواصل الاجتماعي. وادَّعَى المصلون أن الموقع المقدس ساعد في علاج المصابين.
في تناقضٍ حاد مع المؤسسة الدينية في إيران، جاء رد الكنيسة الكاثوليكية في إيطاليا على تفشي الفيروس سريعًا وبشكلٍ ينمّ عن المسؤولية، حيث استجابت لتوجيهات الحكومة بشأن التباعد الاجتماعي. وصل الأمر إلى قيام البابا ببث القداس الأسبوعي عبر الإنترنت، ما ساعد كثيراً في السيطرة على انتشار كوفيد-19.
تعامل إيران مع انتشار الفيروس تسبب في تآكل ثقة الجمهور التي تشكل عاملًا مهما في التصدي للوباء. والآن، تجد الدولة نفسها في حالة ذعر وارتباك لإدارة تفشي الوباء ورعاية المرضى. وفي هذا الصدد، كتب جرايم وود، صحفي في مجلة “ذي أتلانتيك”: “عندما يُكتب التاريخ النهائي لوباء فيروس كورونا في عام 2020، فقد يضم شيئًا من هذا القبيل: بدأ المرض في الصين، لكنه في النهاية خرج عن السيطرة بشكل لا يمكن الرجعة فيه في إيران”.
التعامل التركي
تركيا -دولة متدينة أخرى- أطلق شخص أجريت معه مقابلة على “قناة يول” التركية زعماً خطيرًا مفاده أنه بما أن المسلمين يغسلون أيديهم وأقدامهم أفواههم خمس مرات في اليوم، فمن المستحيل أن يصيبهم الفيروس. وادّعى أيضاً إن الأشخاص العائدين من الحج لا يمكن أن يحملوا الفيروس لأنهم قادمون من بيت النبي.
وفي حينِ حظرت العديد من الدول الإسلامية الصلاة في المساجد، اتخذ معظمها القرار بعد فوات الأوان. إيران علّقت الصلاة في المساجد في 27 فبراير، والكويت في 13 مارس، لكن تركيا انتظرت حتى 16 مارس. وفي غضون أسبوع واحد من اتخاذ القرار، تجاوزت تركيا جميع الدول الأخرى في معدل زيادة الحالات المصابة بالفيروس.
وعندما خاطب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الأمة، اختار أن يتحدث كرجل دين وليس كرئيس، حيث قال: “لنا حرية الاهتداء بالأحاديث، وتوخي الحيطة والحذر وترك الأمر لله. وأعتقد أننا سنتجاوز هذه الفترة بالصبر والصلاة”.
وعلى غرارِ إيران، تعج وسائل الإعلام التركية أيضًا بنظريات المؤامرة المعادية للغرب. وقد زعم بعضُ المحللين أن الغرب قام بتصنيع الفيروس للسيطرة على الأسواق العالمية. وزعم العقيد المتقاعد جوسكون باشبوج أن فيروس كوفيد-19 أنتج في مختبر كسلاح بيولوجي، بواسطة قوى إمبريالية لإضعاف الصين.
واستغل علي رضا ديمرسي، عالم دين ظهر على قناة “خبر تورك”، الأزمةَ لمهاجمة “المذنبين” مدعيًا أن سبب الفيروس هو المثلية الجنسية، والزنا. وقد أدلى بهذه التصريحاتِ خلال ساعات ذروة المشاهدة، مباشرة بعد المؤتمر الصحفي الذي عقده وزير الصحة.
استجابة الدول العلمانية
وجدتِ الجماعات الدينية داخل الدول العلمانية صعوبة أكبر في الاستهزاء بالقواعد. ولاية لويزيانا الأمريكية تحظر حاليا التجمعات التي تضم أكثر من 50 شخصًا. وقدَّم القس توني سبيل التماسًا بعد اعتقاله بتهمة تنظيم قداس جماعي. وقال القس للحضور الذي ضم أكثر من 1,000 شخص في 17 مارس: “هذا اختبار متطرف جلبته علينا روح المسيح الدجال وحالة انعدام القانون… ما فائدة الكنيسة في ساعة الخطر إذا أذعنت الكنيسة إلى المخاوف وأروح العذاب في مجتمعنا؟”.
تهديد التطرف
وفي ظلِّ أن المواطنين، في جميع أنحاء العالم، يعانون حالة العزل الإلزامي، فإنهم يجدون المزيدَ من الوقت للدخول على الإنترنت. ومع تزايد تعرض الناس لهجمات الفيروس، فإنهم سوف ينسحبون بطبيعة الحال إلى مجموعاتهم الخاصة، ما يؤدي إلى تفاقم الرواية السابقة التي انتشرت لفترةٍ طويلة “نحن مقابل هم” التي تدفع إلى التطرف.
وتعليقاً على هذا، يرى جوشوا جلتزر، خبير الإرهاب من الولايات المتحدة الذي عمل سابقًا في إدارة الأمن القومي، أن التباعد الاجتماعي يمكن أن يزيد من عمليات التطرف، حيث قال: “(التضليل الإعلامي عبر الإنترنت) قد يؤدي إلى تفسيرات منحرفة بشكل خاص للأحداث وتوليد رد فعل متطرف، بل وأعمال عنيفة، إذ يتم تضخيم التهديد في ظل العزلة الاجتماعية التي نتبناها بشكل مفهوم”.
وقالت نيكيتا مالك، مديرة “مركز مكافحة التطرف والإرهاب” في جمعية هنري جاكسون في لندن: “من شأن إجراء بحث سريع على يوتيوب أن يكشف عن ارتفاع حاد في مقاطع الفيديو المتعلقة بيوم القيامة، والهجمات الصليبية، والجهادية التي تظهر “المهدي”، المخلص المسيحي الذي من المتوقع أن يظهر قبل يوم القيامة لتخليص العالم من الشر. وبالنسبة للمتطرفين الإسلاميين، يقترن هذا الخطاب بمحاضراتٍ طويلة يشارك فيها متحدثون يناقشون كيف أن كوفيد-19هو عقاب من الله”.
إضافة إلى ذلك، تستغل الجماعاتُ اليمينية المتطرفة الأزمةَ لمصلحتها. وقد حذر مكتب التحقيقات الفيدرالي من أن الجماعات اليمينية المتطرفة في الولايات المتحدة طلبت من أعضائها أن يتعمدوا نشر الفيروس بين ضباط الشرطة واليهود.
الخاتمة
ختامًا، يمكن القول إن استجابة الدول التي تهيمن عليها السلطات الدينية في مكافحة تهديد كوفيد-19 كانت سيئة؛ كونها وضعت ثقةً مفرطة في الرموز الدينية، وتجاهلتِ العلومَ الطبية، وشجَّعتِ الاختلاطَ الاجتماعي. ويجب على هذه الدول أن تجد طريقةً لحمل قادتها الدينيين على المشاركة في التصدي لتفشي الفيروس. ويتعين على هؤلاء القادة أن يشجعوا الناسَ على البحث عن الحقائق بدلًا من نشر نظريات المؤامرة التي لن تطيل أمد الوباء فحسب، بل ستؤدي إلى ارتفاع عالمي في منسوب التطرف أيضًا.
* يسعى موقعُ «عين أوروبية على التطرف» إلى نشرِ وجهاتِ نظرٍ مختلفة، لكنه لا يؤيد بالضرورة الآراء التي يُعبِّر عنها الكتّابُ المساهمون، والآراء الواردة في هذا المقال تُعبِّر عن وجهةِ نظر الكاتب فقط.
**باحثة متخصصة في التطرف الإسلامي في المملكة المتحدة، ومنسقة حكومية سابقة لمكافحة التطرف