إسحق كفير*
تبذل العديد من الدول الغربية جهودًا كبيرة للتعامل مع الارتفاع الحاد في دعم الأفكار والقضايا المتطرفة. ومن المحتمل أن تكون تدابير الحجر الصحي وعمليات الإغلاق قد حفّزت دعم الآراء المتطرفة، ذلك لأن الناس يقضون المزيدَ من الوقت على الانترنت، ليس للعمل والتعليم فحسب، بل للبحث عن طرق لفهم العالم أيضًا. ونتيجة لذلك، يرفض الكثيرون على نحو متنامٍ التفسيرات الرسمية لصالح التفسيرات الأكثر غرابة، ومنها على سبيل المثال التأكيدات بوجود صلة بين الجيل الخامس من شبكات الاتصالات اللاسلكية وكوفيد-19
أحد التفسيرات المطروحة للتطرف هو نظرية التنافر المعرفي، التي وضعها عالم النفس الاجتماعي، ليون فستينجر، في خمسينيات القرن الماضي. ففي دراسته لطائفة دوروثي مارتن المعروفة باسم “الباحثين عن الحقيقة”، سعى فستينجر إلى شرح التناقضات بين الأفعال والمعتقدات. وقال إن البشر يذهبون إلى مديات بعيدة لتفسير الأشياء/الأحداث بما يتناسب مع نظرتهم للعالم. ولا غرابة في ظهور نظرية التنافر المعرفي عبر الطيف المتطرف العنيف. فالمواقف المتطرفة مريحة لمن يتبنونها لأنها تضع حدودًا واضحة بين الخير والشر، فضلًا عن المجموعة الخاصة التي ينتمون إليها والمجموعة الخارجية.
وسائل التواصل الاجتماعي والإعجاب بالمتماثل
بداية يمكن القول إن ثورة الاتصالات شجعت التنافر المعرفي. كانت ثورة الاتصالات تهدف في بدايتها إلى تمكين الناس من تبادل المعلومات (البيانات الخام غير المنقحة) والمعارف (المعلومات المنظمة بطريقة محددة لاستنباط المعنى والمغزى). أي أن ظهور الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي كان يهدف إلى تعريض المستخدمين لآراء وأفكار مختلفة، وجعلهم أكثر اطلاعًا وتعليمًا، وبالتالي تشجيع سوق الأفكار. ولا شك أن انتشار منصات وسائل التواصل الاجتماعي أمر بالغ الأهمية لفهم صعود الروايات المتطرفة، لأنها تسمح للمستخدمين بنشر أي معلومات يريدونها، ما يؤدي بهم إلى تكوين علاقات اجتماعية مع من يشبهونهم في التفكير والميول. وبعبارة أخرى، ينجذب مستخدمو وسائل التواصل الاجتماعي نحو المجتمعات والمجموعات والروايات التي تعكس نظرتهم للعالم.
ينبع حب الشخص لمن يماثله أو يشابهه على وسائل التواصل الاجتماعي من نموذج الأعمال للعديد من شركات وسائل التواصل الاجتماعي. ذلك أن مفتاح نمو هذه الشركات هو “خوارزمية” خاصة تحدد التفضيلات. الخوارزمية، التي صممها البشر، تحدد أنماط السلوك. وكان الغرض المعلن من ذلك هو تسهيل حياة المستخدم، حيث تتبع الخوارزمية المواقع التي يستخدمها الشخص أو ما ينشره أو ما يحبه أو يكرهه.
من خلال خوارزميتها، تزوّد هذه المنصات الفرد بالمعلومات التي يتم تحديدها بأنها تهمهم. وأدّى ذلك إلى ظهور ثقافة خوارزمية: التخلي التدريجي عن الثقافة الشعبية، وظهور سلالة جديدة غريبة من ثقافة النخبة التي تزعم أنها نقيضها. وببساطة، تم نقل عمليات الفرز، والتصنيف والترتيب الهرمي للأشخاص والأماكن والأشياء والأفكار إلى آلات تم تصميمها لتحديد أنماط السلوك. هذه الآلات لا تنظر في قيمة المعلومات. ونتيجة لذلك، ولأن الخوارزمية لا تُفرّق بين المعلومات التي تم اختبار صحتها والمعلومات المضللة، فإنها تسهل ظهور ما يعرف باسم “غرف الصدى” التي تعمل كـ “دوائر للتغذية الراجعة” و”فقاعات المرشح”[1]، وتشجع الأعضاء على رؤية العالم بطريقةٍ محددة، وفي كثيرٍ من الأحيان تقود إلى تأجيج المشاعر السلبية.
الحاجة المتأصلة إلى معرفة “الحقيقة”
لفهم العلاقة بين نظرية التنافر المعرفي والتطرف يجب أن نعترف بأن الناس لديهم حاجة متأصلة للعثور على تفسيرات أو “حقائق” لفهم العالم. وتصبح هذه الضرورة أكثر إلحاحًا في أوقات الأزمات. في البحث عن “الحقائق” الخاصة بهم، يبدأ الأفراد برواية تستند إلى نسخة مُعقّمة ومثالية من التاريخ تغذي تنافرهم، ويعتقدون أن “مجتمعهم” أو “عالمهم” قد اختطف من قبل كياناتٍ شريرة.
في هذا الصدد، يقدِّم إدجر ماديسون ويلش مثالًا جيدًا على ذلك، في 4 ديسمبر 2016، دخل إلى ويلش إلى مطعم “كوميت بينج بونج” متسلحًا ببندقية من طراز AR-15، عازمًا على التحقق من مزاعم بأن المطعم كان جزءًا من مؤامرة تشمل الاتجار بالأطفال لأغراضٍ جنسية، وتدعيم سعي هيلاري كلينتون للفوز بمنصب الرئاسة. اعتقد (ويلش) أنه كان يقدِّم خدمة لبلده لأن السلطات فاسدة، وشخص ما بحاجة إلى إيقاف الأخطاء.
وثمة عنصر حاسم في فهم جاذبية سعي المرء إلى معرفة “الحقيقة” هو آلية التأييد الاجتماعي. يتعلق هذا المفهوم بحقيقة أن الإنترنت بمثابة كنز من المعلومات، ولكن البشر لا يستطيعون مقاربة الكم الهائل المتاح بشكل نقدي. ولذلك، يعتمد المستخدمون على الروابط الاجتماعية في تحديد مصداقية أو “حقيقة” معلومة تفتقر في كثير من الأحيان إلى الحقيقة التجريبية. ببساطة، عند النظر إلى الأشكال الإخبارية التقليدية، نجد أن وجود أشياء مثل التدريب المهني، ومدققي الحقائق، والتهديد بفرض عقوبات قانونية، تضمن تقييم الأخبار قبل نشرها. أما في حالة وسائل التواصل الاجتماعي، فلا توجد مثل هذه الضوابط أو “حراس البوابة”، ما يسمح للأفكار الأكثر وحشية باكتساب الزخم، ببساطة لأن عددًا كافيًا من الناس يشاركونها. في الوقتِ ذاته، من الملاحظ أيضًا أن الأفراد مهيئون بالفعل لقبول نوع معين من المعلومات إذا كان يؤكد معتقداتنا (تحيز التأكيد) بدلاً من المعلومات التي تتحداها وتتعارض معها.
الخلاصة
على مدى العقد الماضي أو نحو ذلك، بُذل جهد هائل لفهم وتفسير عوامل الجذب والدفع التي تجذب الأشخاص نحو التطرف والتطرف العنيف أو تبعدهم عنها. وتحقَّق تقدمٌ كبيرٌ في تحدِّي المعلومات المضللة، كما رأينا مع أساليب التفنيد المسبق أو التحصين السلوكي ضد مواقف معينة. كما بُذلت جهودٌ لتزويد الناس بالأدوات التحليلية اللازمة للتعامل مع أي مواد من هذا القبيل. وهذه كلها أدوات لا تقدر بثمن لمواجهة المعلومات المضللة والتطرف التي يمكن أن تقود المرء نحو التطرف العنيف. لكن رغم ذلك، يجب أن نعترف أيضًا أن أولئك الذين يعتنقون التطرف العنيف قد يكون لديهم تنافر معرفي.
وقد اتخذت شركات وسائل التواصل الاجتماعي بعض التدابير من خلال إدخال ما يعرف باسم “حراس البوابة”، وشروط جديدة للخدمة، واستخدام الذكاء الاصطناعي، ووضع التحذيرات وإزالة المجموعات أو المشاركات أو حظرها. وقد أحدثت هذه التدابير بعض الاختلاف حيث أصبح بعض المستخدمين يدركون أن ليس كل ما يقرؤونه صحيحًا، ولكنه يعني أيضًا أن الناس يشاركون في “بحثهم الخاص” الذي بدلًا من أن يقدِّم لهم تقييمًا نقديًا جديدًا، يذهب بهم إلى متاهات أكثر عمقًا وإرباكًا.
وختامًا، فمن أجل حل التنافر المعرفي أو الحد منه يجب اتخاذ إجراءات أكثر صرامة لأن العملية تنطوي إما على تغيير الاعتقاد، وإما إضافة اعتقاد جديد، وإما تقليل أهمية الاعتقاد. وهذه الأعمال ليست سهلة، لأن هذه الأفكار والمعتقدات لا تشكِّل هوية الفرد فحسب، بل هوية جماعته الاجتماعية والعالم الاجتماعي الذي يسكنه.
[1] المترجم: وصفٌ لتأثير تقنية يستخدمها عددٌ من محركات البحث في تحديد نتائج البحث المعروضة للمستخدمين. هذه التقنية تتمثل في قيام خوارزميات محركات البحث هذه بتخمين المعلومات التي قد يفضل المستخدم أن يراها بناءً على معلومات عنه (مثل المكان، وسلوكيات النقر الماضية، وتاريخ البحث) ونتيجة لذلك، يصبح المستخدم منفصلًا عن المعلومات التي لا تتفق مع وجهات نظره، وهو ما يعزل المستخدم في فقاعاته الثقافية الخاصة.
* عضو المجلس الاستشاري، والأستاذ المساعد بالمعهد الدولي للعدالة وسيادة القانون، جامعة تشارلز ستورت.