إسحاق كفير*
على مدار العقد الماضي، شهدتِ الأبحاث حول التطرف والتجنيد تطورًا كبيرًا، بما في ذلك استكشاف الصلة بين المظلومية والتطرف. فلقد تبنى اليمين المتطرف المعاصر إطارًا فكريًا زائفًا؛ إطارًا رئيسًا للمظلومية يستخدم مواضيع ليبرالية وديمقراطية للدعوة إلى إنشاء مجتمع عنصري ورجعي جديد، وذكوري وغير ليبرالي.
تستند رواية المظلومية إلى ادعائين مترابطين، يهدفان إلى بناء هويةٍ جمعية، تلاقي قبولًا عبر شتى التيارات اليمينية. ومن الادعاءات الأولى “لليمين” أنه ضحية لمجتمعٍ غير ليبرالي غير راغب في قبول الآراء والقيم المختلفة. ويؤكدون أنهم يفتقرون إلى القوة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية لعكس موجة هيمنة الليبراليين ودعاة التعاون الدولي والتقدميين. أما الادعاء الثاني، فهو أنه نظرًا لأن التيار الرئيس في المجتمع غير ليبرالي، وغير متسامح، ويتطلع إلى إلغاء حقوقهم، فعليهم أن يسعوا لحماية هويتهم وثقافتهم وقيمهم. وثمة عنصر إضافي يتمثل في استخدامهم لنظريات المؤامرة لشرح سبب افتقارهم إلى القوة وأسباب عدم إقامة مجتمعهم المثالي.
مظلومية جماعية
تحدد رواية المظلومية الجماعية الضحايا -أي المجموعة- الذين يتحملون العنف المباشر والبنيوي من جانب المجموعة الخارجة. العنف المباشر هو إجراءات تتخذها الدولة ضد جماعةٍ ما. ومن أمثلة العنف المباشر الاستعمار والرق والقهر والتسبب في ضرر محدد مثل الإصابة الجسدية أو الموت. أما العنف البنيوي فهو الضرر الناجم عن فرض سياسات ونظم وآليات تؤدي إلى عدم المساواة التي يمكن أن تؤثر، بل وتؤثر في كثيرٍ من الأحيان، على مستويات المعيشة، مثل تدني مستوى السكن، وفرص العمل، والحصول على التعليم، وما إلى ذلك. هذه كلها ادعاءات من قبل “اليمين” ضد التيار الرئيس/المجتمع الليبرالي.
تتسم المظلومية الجماعية بسماتٍ عدة مثل التباري في ادعاء المظلومية وفك الارتباط الأخلاقي. يشير الأول إلى الطريقة التي ترى بها جماعة ما الضرر الذي ألحقته بها الجماعات الأخرى، فضلًا عن التأكيد على أن الظلم الذي وقع عليها يفوق ما وقع على الجماعات الضحية الأخرى. الحاجة إلى مقارنة الضرر تعني أنه يمكن للجماعة المعنية ادعاء أنها الأشد تضررًا.
بشكلٍ عام، عندما يقوم الأفراد بعمل يعرفون أنه يتعارض مع المعايير المجتمعية، فإنهم يبحثون عن طرق لتبريره، بما في ذلك بناء نظام قيم أخلاقي بديل، حيث يساعد التعرض لفترات طويلة من العنف وانعدام الأمن، والتنافر المعرفي، ونظريات المؤامرة في تشكيل فك ارتباطهم بالمعايير والأعراف السائدة.
تفسيرات انتقائية والمقارنة المبرئة
تبدأ هذه العملية من خلال التفسير الانتقائي للتاريخ والسياسة و/أو الدين و”صراع الحضارات” المفترض الذي يحدث لأن دعاة التعاون الدولي الليبراليين يسمحون بنفوذٍ أجنبي أكثر من اللازم. ومن الأمثلة على ذلك، برينتون تارانت -الإرهابي الأسترالي الأبيض الذي قتل 51 مصليًا مسلمًا بالرصاص في كرايستشيرش في نيوزيلندا في عام 2019- الذي حاول تبرير أفعاله من خلال الإشارة إلى نظرية الاستبدال العظيم والإبادة الجماعية للبيض.
ترتبط القراءة الانتقائية للتاريخ باستخدام المقارنة المبرئة. يجادل المتطرفون بأن العنفَ هو عبارة عن رد فعل، وليس عملًا استباقيًا، يحمل مبررًا نفعيًا قويًّا. بعبارةٍ أخرى، يدرك الجناة أن عنفهم مروّع وأن المدنيين يُقتلون، ولكنهم يدافعون عن أفعالهم لسببين: أولًا، التقاعس وعدم القيام بأي شيء سيعني أن المزيد من الناس سوف يعانون ويموتون، وفي مثل هذه الظروف ستصبح الأفعال غير الأخلاقية “أخلاقية”؛ لأنها ستكون الخيار الوحيد المتاح لهم. ثانيًا، يجادلون بأنهم قد تعرضوا لعنفٍ مماثل من قبل التقدميين والليبراليين، ودعاة التعاون الدولي. وهكذا، بالنسبة لتارانت، وجون إيرنست، وباتريك كروسيوس، وروبرت باورز، وغيرهم من العنصريين البيض، فإن العرق القوقازي يتعرض لهجوم من “الآخر”، وهذا هو السبب فيما يقدمون عليه من أفعال.
التجريد من الإنسانية
من الآليات المهمة الأخرى لفك الارتباط الأخلاقي التجريد من الإنسانية، وهو رفض رؤية الضحايا كبشر. في هذه العملية، تنظر مجموعة إلى مجموعة أخرى على أنها تفتقر إلى الإنسانية، وبالتالي يصبح القتل أو التعذيب أكثر قبولًا. التجريد من الإنسانية آلية شائعة في العديد من الصراعات العرقية والعديد من الروايات العنصرية؛ مثل «يوميات تيرنر» حيث يدّعي بطل الرواية أنه عندما قامت “المنظمة” بتطهير المناطق “غير البيضاء”، وجدت أدلة على أكل لحوم البشر، وغيرها من الأعمال الفظيعة.
وفي هذا الصدد، توضح الأستاذة بوملا جوبودو -ماديكزيلا- عالمة النفس في “لجنة الحقيقة والمصالحة في جنوب أفريقيا”- في مقابلاتها مع يوجين دي كوك، قائد فلاكبلاس، التي كانت مزرعة تستخدمها المؤسسة الأمنية في جنوب أفريقيا لإرهاب المعارضين لنظام الفصل العنصري، أن نجاحها مع دي كوك تحقق عندما بدأ يرى ضحاياه كبشر، وليس مجرد أعداء لدولة الفصل العنصري. بعبارةٍ أخرى، ارتكب دي كوك أعمال عنفٍ مروِّعةً لأنه لم ينظر أبدًا إلى أولئك الذين عذبهم وقتلهم كبشر؛ بل كان ينظر إليهم على أنهم أعداء لدولة الفصل العنصري (التي أعطته هدفًا للحياة بعدما هرب من أب مسيء وعنيف للغاية).
تصوير الجناة كأبطال
عندما يتعلق الأمر بالعبارات المُلطّفة، يختار اليمين المتطرف وصف مرتكبي العنف بأنهم قديسون أو أبطال مستعدون لدفع الثمن الأسمى للمساعدة في “إنقاذ” الحضارة. يمكن رؤية مثل هذه العبادة للبطل في «يوميات تيرنر». لا يتم إعدام الراوي، تيرنر، لعصيانه تعليمات “الأمر” بأنه يجب أن ينتحر إذا تم القبض عليه لأنه يوافق على تنفيذ مهمة انتحارية. ونظرًا لنجاح المهمة الانتحارية، فقد تمكَّنتِ المنظمةُ من الاستيلاء على الولايات المتحدة، وفي وقتٍ لاحق على العالم. لقد نُظر إلى تيرنر على أنه بطل وقديس لأنه حقق النتيجة المرجوة، على الرغم من أنه أخفق في اتباع أمر محدد.
الخلاصة
تروق رواية المظلومية للكثيرين في اليمين المتطرف؛ لأنها تتيح لهم فهمَ عالم يزعمون أنهم لم يعودوا يفهمونه. وتفسر البطالة، وغياب الرفقاء، وعدم النجاح، الأشياء التي يعانون منها. وهي آلية يُنظر من خلالها إلى العالم المعاصر على أنه يقف بالكامل ضدهم، ومصمم لدعم “الآخر”. علاوة على ذلك، توفر رواية المظلومية لليمين المتطرف دفاعًا أخلاقيًا ملتويًا عما لا يمكن الدفاع عنه، مع التأكيد على أن الطريقة الوحيدة التي يمكن لهم بها التحرر من مظلوميتهم هي من خلال العنف؛ لأن النظم السياسية والاجتماعية والاقتصادية والقانونية تدعم “الآخر” ضدهم.
ينبع استخدام رواية المظلومية من تنامي النزعة الوطنية، وعداء المهاجرين، والأفكار الرومانسية لليمين المتطرف عن الماضي. العنصر الرئيس في هذه الرواية هو التأكيد على أن المجتمع تهيمن عليه أجندة ليبرالية ودولية وتقدمية ترفض الوطنية والنزعة الجماعانية (communitarianism) والقانون والنظام.
وختامًا، لتحدي رواية المظلومية، هناك حاجة إلى تطوير روايةٍ مضادة لمحاولات استنساخ الماضي، وتقديم رواية أصدق للماضي تسلّط الضوء على الجيد والسيئ.
إن فكَّ هذا التشابك وفضح الآثام والجرائم، لا يعني أن المرء يدمر التاريخ أو يعيد كتابته أو يرفض الإنجازات السابقة، بل إنه يعترف إلى أي مدى بلغ المجتمع من خلال رفض تلك الأخطاء.
** عضو المجلس الاستشاري بالمعهد الدولي للعدالة وسيادة القانون، وأستاذ مساعد في جامعة تشارلز ستورت بأستراليا.