عرض: د. عمار علي حسن
قليلة هي الكتب التي رسمت معالم نقد الجماعات والتنظيمات السياسية التي توظف الإسلام في تحصيل السلطة وحيازة الثروة، ومهَّدت الطريق لكل من جاء بعدها راغبا في مساءلة عقلية لأفكارها ومسلكها في الحياة، رافعة غطاء القداسة المزعوم عن ظاهرة “الإسلام السياسي”، وطارحة لها أمام مشارط الفحص والدرس، بما يرمي إلى تبصير الناس بأدوارها الحقيقية، والمسافة المتسعة بينها وبين جوهر الإسلام الذي يقوم على “التوحيد”، وقيمته المركزية وهي “الرحمة”.
من بين هذه الكتب المهمة على هذا الطريق كتاب المستشار محمد سعيد العشماوي، وهو قاض مصري كبير (1932 ـ 2013) أمعن النظر في فكر الجماعات والتنظيمات المتطرفة، وتابع ما تفعله، وانفعل به، فأصدر ثلاثة وعشرين كتابًا، بعضها عنها، وأخرى في مجالات متعددة، لكن يبقى كتابه «الإسلام السياسي» أهم ما أنتجه في نقدِ تلك الجماعات، لا سيما أنه انطوى على انعكاسٍ ظاهر لما ورد في بقية كتبه، التي انتقدت التطرف الإسلامي بوعي واقتدار.
يبدأ الكتاب بعبارة دالة تقول: “أراد الله للإسلام أن يكون دينًا، وأراد به الناس أن يكون سياسة. والدين عام إنساني شامل. أما السياسة فهي قاصرة محدودة قبلية محلية ومؤقتة. وقصر الدين على السياسة قصر له على نطاق ضيق، وإقليم خاص، وجماعة معينة، ووقت بذاته”.
أتصور أن هذه العبارة على قصرها قد وضعت يدنا على بيت الداء في مشروع هذه الجماعات برمّته، إذ إنه يحول الإسلام من “عقيدة دينية” إلى “عقيدة سياسية” أو “أيديولوجيا”، ومن رسالة إلى العالم، كما ورد في النص القرآني، إلى مشروع ضيق مقتصرا على دولة، أو حتى إمبراطورية، يسميها الإسلام السياسي “خلافة”، عطفًا على معناها ومسلكها التاريخي، فضلا عن تعريض الدين لمقتضيات السياسة وقوانينها وشروطها التي تتسم غالبًا بالتلاعبِ والمخاتلة، وتدور برمتها في فلك النسبي، والمتغير، والمتقلب، والعابر.
ويرى العشماوي أن اختزال الإسلام في السياسة، واختصار الشريعة في التحزب، قادت إلى نتائج خطيرة، يمكن ذكرها على النحو التالي:
1 ـ صار التاريخ الإسلامي تاريخًا للصراع القبلي والطائفي، وبين الفرق الدينية، وبين عرق وآخر. وأخذ هذا الصراع صبغة دينية تدور حول الشريعة، فاضطرب الفهم الديني والعمل السياسي معًا.
2 ـ ربط السلطة السياسية بالسماء، جعل خلفاء المسلمين، ينظرون إلى أنفسهم على أنهم خلفاء الله، أو وكلاؤه في السلطة، ولذا يجب أن يكونوا معصومين، ما أدى إلى استبداد الحكم وفساده.
3 ـ أثر ربط الدين بالسلطة السياسية سلبيا على مضمون الفقه الإسلامي وشكله، حيث التف بعض الفقهاء حول الحكام، باحثين عن المنفعة الذاتية، ففُتحت لهم الأبواب، لتشكيل الدين وفق هوى الحكام، الذين وجدوا أن من مصلحتهم مساعدة هذا الاتجاه من الفقه على التعزز والتمدد، فأمدوه بأسباب تحقيق هذا على حساب الاتجاهات الأخرى، ما أدى إلى خلل عاني منه المسلمون اللاحقون، ولا يزالون، وأعطى حجة للمتطرفين لصناعة فقه مضاد، بدعوى أن كل فقه أُنتح في ركاب السلطة أو حتى بالقرب منها قد اعتراه فسادٌ شديد.
كما جاء رد فعل بعض الفقهاء في اتجاه مضاد، فانصرفوا عن كل ما يَتعلَّق بالسلطة، وبذا أعرضوا عن فقه القانون العام، وأسرفوا في شرح توافه الأمور وقشور المباحث؛ مثل موضوعات الحيض، والنفاس، ونواقض الوضوء، ورمي الجمرات، وما شابه. وأدى هذا إلى خلو الفقه الإسلامي من “نظرية سياسية إسلامية”، تبين المسافة بين “الدعوة” و”الدولة”، وتضع الأطر العامة أو القيم الأساسية التي تحكم علاقة السلطة بالناس، ونظرة الناس أنفسهم إليها، ومطالبهم منها.
4 ـ أدَّت مظالم السياسة، التي جرى تبريرُها بالدين، وتسويغُها بالشريعة، وسوندت بالفتاوى، في كثير من الأحيان إلى انسحاب المسلمين من العمل العام، وإضعاف تضامنهم مع الآخرين.
5 ـ تسبَّب وجود جماعات وتنظيمات سياسية تتخذ من الإسلام أيديولوجيا لها في إضعاف المسارين الروحي والأخلاقي في هذا الدين، رغم أن القرآن الكريم، وهو الكتاب المؤسس للإسلام، أعطاهما وزنا أكبر بكثير مما أعطاه لمسائل تتعلق بالحكم والإدارة، وجعلهما من ترتيب المعاش المتروك إلى تصرف العقل باعتباره وكيل الله. وقد آن الأوان للتفرقة بين “الأصولية الإسلامية السياسية الحركية” و”الأصولية الإسلامية العقلية الروحية”.
6 ـ تستغل الجماعات المتطرفة مسألتين لتبث من خلالهما مشروعها، الأولى هي حاجة أي مجتمع إلى حكومة أو إدارة، وهذا أمر بدهي، يعطي أتباع هذه الجماعات فرصة للحديث عما يسمونها “الحكومة الإسلامية”، ثم يضيقون في تعريفها وتحديد شروطها لتصبح ملازمة لتصورهم، ثم يقدمونها لعموم الناس على اعتبار أن هذه هي الحكومة التي أقرها الشرع، ويرضى عنها الله تعالى. والثانية هي سعيُ المسلمين إلى النهضة، أو استعادة القوة التي كانوا عليها، وهو أمر مفهوم ومطلوب، بل وحق. وتعزف الجماعات السياسية المتطرفة على وتر هذا النزوع النفسي والعقلي للمسلمين، وتدَّعي أن تلك النهضة المبتغاة لا يمكنها أن تُستعاد وتستمر إلا بتبني مشروع “الإسلام السياسي”، والتسليم به، وترك القيادة له.
7 ـ تدعو بعض فصائل تيار الإسلام السياسي إلى عدم الولاء للوطن، بزعم أن هذا الولاء جاهلية، وأن الولاء السليم هو لـ “جماعة المسلمين”. وهذه دعوة عدمية فوضوية؛ لأنها تهدم ولاء أهل كل بلد لبلدهم، وبذا تشاع بينهم الفرقة، فلا طاعة للحكومة حتى وإن أصلحت وعدلت، ولا تضامن مع المواطنين، ولا سداد للضرائب، ولا احترام للقانون، ولا أداء للخدمة العسكرية أو ممارسة للخدمة العامة.
وبالطبع فإن “جماعة المسلمين” هذه هي محض “افتراض” إذ لا يمكن تحديدها في الواقع المعيش بالطريقة نفسها التي نعرف بها من هو المواطن داخل كل دولة؟ ونحدد حقوقه وواجباته، وبذا فإن نقل الولاء إلى كيان هلامي، وإهمال اليقيني لحساب المشكوك فيه، وتحطيم ما هو قائم لحساب المجهول، يعد من قبيل العمل الأخرق، الذي يصنع الاضطراب الاجتماعي والسياسي.
ويبدأ الكاتب على مهل في تفكيك وتفنيد مشروع “الإسلام السياسي”، عبر نقد مفاتيحه الرئيسية مثل: جعل الحاكمية لله تعالى، وضرورة تطبيق الشريعة، وإقامة الحكومة الإسلامية، والقيام بالجهاد، وبناء العلاقات مع الدول الأخرى تحت طائلة تقسيم العالم إلى فسطاطين: “دار الإسلام”، و”دار الحرب”.
وفي الحاكمية يراها مصطلحًا تاريخيًّا، حتى وإن كان يُقال بلفظ آخر، إذ أن العالم في تاريخه القديم والوسيط ازدحم بالحكام الذين زعموا أنهم يحكمون باسم السماء، وخُلق في ركاب هذا ما سمى بـ “الحق الإلهي للملوك”، وتبادلت السلطة الزمنية والدينية المنافع، وتعاونتا على إبقاء الناس في قبضة هذا التحالف المستبد.
وقد تسربت هذه الفكرةُ، بعد انقضاء الخلافةِ الراشدة، إلى الإمبراطورية الإسلامية؛ في العهودِ الأموية والعباسية والعثمانية،، وكان بابها الأول هو فكر “الخوارج”، وتم التنظير لها بتأويلات وتفسيرات فاسدة لآيات قرآنية وأحاديث نبوية، واختُلقت روايات وأحداث تاريخية لخدمتها، مع أن لفظ “الحكم” في لغة القرآن ومفرداتها ووقائعها يعني القضاء بين الناس، أو الفصل في الخصومات، أو الرشد والحكمة، بينما عبَّر القرآن عن السلطة السياسية بمعناها في العصر الحالي، أي الحكومة، بلفظ “الأمر”، وهذا ما فهمه الرعيلُ الأول في الإسلام.
وقد امتد الفهم الحرفي للقرآن من قضية “الحاكمية” إلى قضية أخرى مرتبطة بها في جانب منها، وهي “التكفير”، وهنا يرى العشماوي أن لفظ الكفر في القرآن لا يعني دائما الكفر بالله، إنما التغطية والإنكار. لكن الجماعات والتنظيمات المتطرفة أفرطت في استعماله لتنعت به كل من يختلف معها ويفند أفكارها، وتعده خصمًا بل عدوا، وترميه بالكفر، كي تسقط عنه مكانته عند عموم الناس، وتستبيح دمه، والأهم من هذا هو اغتيال أفكاره وتصوراته، عبر تشويهها، والتشكيك في صاحبها، كي يصبح بينه وبين الناس حجاب.
والحاكمية ارتبطت أيضا بما أسمته الجماعاتُ والتنظيمات المتطرفة بـ “الحكومة الإسلامية”، وهو تعبير يرد عندها بغير توضيح ولا تحديد، وكان كل فرد يستعمله وفق انطباعه وآماله وفهمه الخاص، لكن الجميع يتفقون على أنها الحكومة التي تطبق الشريعة الإسلامية. ومع أن أغلب النظم العربية والإسلامية تجعل من الشريعة أو مبادئها أصلا من أصول التشريع، بما يجعل كثير من القوانين مستمدة منها، فإن هذه الحكومات -في نظر المتطرفين- ليست “إسلامية”، بل يتعاملون معها على أنها تعادي الإسلامَ.
وهنا يتساءل الكاتب: إذا كانت الحكومة الإسلامية هي التي تؤسس على العدل، وتنبني على الأخلاق، وتهدف إلى نشر الإيمان، حسبما يصفها أتباع الإسلام السياسي، فماذا يمكن أن يُقال عن حكومة تقوم على الأسس نفسها، وتتبع البناء ذاته، وترمي إلى الهدف عينه، لكنها لا تتبع أي من الجماعات والتنظيمات التي ترفع شعار “الإسلام هو الحل”؟ وماذا عن حكومات شكَّلها المنضوون تحت هذا الشعار وفسدت وظلمت؟
وتقوده هذه الأسئلةُ إلى الردِّ على آراء المتشددين حول حكومتهم المبتغاة، التي ستكون بالضرورة “حكومة دينية” على غرارِ هذه التي سادت في القرون الوسطى، ثم يرد على من قالوا إن الإسلام “دين ودولة”، ويبرهن على أنه “دعوة دينية” بالأساس، وأن هناك دلائل عديدة تؤكد أن القرآن يقر حكمًا مدنيًّا، يستمد شرعيته من إرادة الشعب، وليس من تفويضٍ إلهي، كما يريد المتطرفون، وأن الإسلام، الذي يحمل في جوهره قيمًا عامة بوسعه أن يواكب كلَّ تطور، ولن يجافي أبدًا الشرعية الدستورية والقانونية، بوصفها شكل الحكم العصري، ويقول: “الحكومة الإسلامية الحقيقية ـ بعد حكم النبي (ص) ـ هي حكومة يختارها الناسُ بحريةٍ مطلقة، ويستطعيون المشاركة فيها تبعًا لكفاياتهم وقدراتهم، ويراقبون تصرفاتها مراقبةً ذاتَ فاعلية، ويستطيعون تغييرها، إن أرادوا، دون أن تسيل دماء أو يتهمون بالكفر والإلحاد”.
وفي الجهادِ، يبيِّن أنه لا يعني التوسع والإغارة والهجوم على الآخرين لضم أرضهم وإخضاعهم لحكم المسلمين، إذ أن القرآن يتحدث عن “جهاد الدفع”، الذي يقرُّ بأن الحرب دفاعية وعادلة، وغير ذلك لا تكون له علاقةٌ برسالةِ الإسلام، إنما بأطماع البشر، وتوظيفهم الدينَ في خدمتها. وفي هذا يبرز في نظره الجهاد الأكبر الذي أقرَّ به الإسلامُ، وهو جهاد النفس كي تصفو وتسمو، وامتلاء الروح بكل يقين وخير، ورقي السلوك.
ويُفنِّد الكاتبُ الكثيرَ من تصورات المتشددين حول تحويل الإسلام كدين إلى “قومية”، وهي مسألة تتعارض تمامًا مع كونه رسالةً للبشرية جمعاء، وتؤدي إلى جعله مادة للصراع السياسي والمذهبي، وهو ما حدث بالفعل من خلال الجماعات المتطرفة عند السنة والشيعة معًا.
وينتهي الكاتب إلى أن “الإسلام السياسي” هو امتداد لفكر الخوارج، عبر تبنيه لفكرة أن السياسةَ جزء من الإسلام، وأنها فرضٌ على كل مسلم، وزعمه أن جماعته هي “جماعة المسلمين” أو ما تمثل “صحيح الإسلام”، وفرضه آراءَه وقراراته واتجاهاته، بالقوة والعنف، والاغتيال والحرب، بما يُسبِّب ضررًا بالغًا للمشروع الحضاري الإسلامي الذي لا يمكن أن يقوم في عزلة عن العالم، ولا يستمر في ظلِّ رفض للتفاعل الخلاق مع كل تقدم يحققه البشر.
*روائي وباحث في علم الاجتماع السياسي