يبدو فهمُنا للكيفية التي ساهمت بها شبكةُ الإنترنت، في تأجيجِ النشاط الإرهابي، مشروطًا بتحيزٍ مهم: افتراض أن لدى شبكة الإنترنت سلسلة من السمات التي تفسح المجال بطبيعتها لتحقيق أهداف الجماعات الإرهابية. مثل هذا الافتراض يوقعنا في الخطأ اللاواعي لدراسة الإنترنت في شكلها الحالي وتطبيق النتائج على سياقات الماضي والمستقبل. في الواقع، شبكة الإنترنت في حالة تحور مستمر منذ إنشائها، نتيجة للابتكارات التكنولوجية المختلفة، وطريقة تفاعل المجتمع معها. وبعيدًا عن كونه تحولًا تدريجيًا، فقد تكشّف التطور في شكل تحولاتٍ مفاجئة. ومن الأهمية بمكان هنا ملاحظة أن هناك عددًا من أدوات الاتصال المختلفة التي تم تجميعها معا تحت راية الإنترنت.
الجدير بالذكر أن الدراسات الحديثة1 في التطور التاريخي للتطرف عبر الإنترنت تبحث الأجيال المختلفة، ولكنها لا تأخذ في الاعتبار الأنواع المختلفة بشكلٍ كبير من شبكات الإنترنت التي كان يستخدمها هؤلاء المتطرفون. لقد كانت شبكة الإنترنت في العقود القليلة الماضية تفتقر إلى السرعة وسهولة الاستخدام والقدرة الهائلة على الربط، وإضفاء الطابع الشخصي، التي تعد جزءًا لا يتجزأ من وسائل التواصل الاجتماعي الحالية. هذه الخصائص، التي تعتبر الآن سمات أساسية، هي جديدة تمامًا.
الإعدادات المختلفة للإنترنت تنتج أنواعًا مختلفة من الحشد للأفراد المتطرفين. واختيار الفرد للمشاركة في الأنشطة الإرهابية على الإنترنت لا يتعلق بتقدمه من التطرف المعرفي إلى المشاركة النشطة، بقدر ما يتعلق بالعوائق التي يجب أن يتغلب عليها من أجل المشاركة في النشاط الإرهابي على الإنترنت.
تأثير داعش
كثيرًا ما تُفسَّر الزيادة الملحوظة في النشاط الجهادي الدولي بالمشاركة المباشرة لتنظيم داعش في هذه الأنشطة من خلال متشدديه، والأهم من ذلك، من خلال الدعاية الماهرة التي شجعت قطاعًا كبيرًا من المتطرفين على الانخراط في نشاطٍ أفقي2. ووفقًا لهذه النظرية، فإن النشاط الدعائي المفرط لتنظيم داعش سمح للمتطرفين بالاختيار بين خيارات عدة مختلفة لإثبات التزامهم.
لقد كانت شبكة الإنترنت أحد الخيارات الأكثر جاذبية؛ لأن سهولة الوصول إليها سمحت للأفراد بالمساهمةِ في القتال الجهادي، في حالة عدم القدرة على الوصول إلى البدائل المفضلة (مثل المشاركة في النزاعات المسلحة) أو في حالة عدم الرغبة في تحمل التكاليف الشخصية للمشاركة في أعمال العنف، أو غيرها من الأعمال التي تنطوي على مخاطر عالية أو تكلفة شخصية.
وفي هذا الصدد، سعى الخطاب الجهادي إلى تشجيع هذه الأنشطة من خلال تمجيد “المجاهدين الإعلاميين”3. ويبدو أن هذا يفسر الارتباط التالي: عندما كان تنظيم داعش فاعلًا قويًا، ولديه القدرة على التواصل، ازداد الحشد عبر الإنترنت؛ وعلى العكس من ذلك، عندما تراجعت قدراته ووتيرة رسائله وجودتها، تضاءل الحشد عبر الإنترنت.
ومع ذلك، فلا ينبغي إغفال أهمية “تأثير داعش” في السعي إلى فهم ديناميات الحشد الجهادي في أوروبا. إذا تم تقسيم البيانات وفقًا للعوائق التي تحول دون النشاط الإرهابي عبر الإنترنت، تظهر صورة مختلفة تتطلب المزيد من التوضيح. في الواقع، يمكننا أن نتحدث عن نوعين من النشاط الجهادي عبر الإنترنت، ولكل منهما ديناميات مختلفة.
النشاط الصعب مقابل السهل
النشاط “الصعب” الذي يمارسه الأفراد الذين يريدون إثبات التزامهم بالإرهاب عبر الإنترنت ينطوي على تكلفة باهظة من حيث الوقت والجهد والتفاني. عادة ما يقوم بهذه الأنشطة على مثل هذه المنصات، التي تتسم بوجود حواجز قوية لعرقلة الدخول، أفراد لهم روابط هرمية سابقة بمنظماتٍ رسمية أو مكّنهم سجلهم السابق في الثقافة الفرعية للتشدد الجهادي من الانضمام إلى مجتمعاتٍ متطرفة عدة على الإنترنت على أساس الثقة والمصداقية. ومن النادر أن نجد هذا الشكل من النشاط الجهادي “الصعب” في الغرب. علاوة على ذلك، لا يتأثر هذا النوع من النشاط بـ “تأثير داعش”. ولم تُلاحظ أي زيادة في عدد الناشطين الذين ينخرطون في النشاط “الصعب” خلال سنوات الذروة للتنظيم. وظلَّ عدد الأفراد الذين يختارون هذا الشكل من النشاط مستقرًا قبل سنوات الذروة التي بلغها تنظيم داعش وبعدها.
من ناحيةٍ أخرى، يختار غالبية المتطرفين النشاط “السهل” الذي يوجّه عبر “منصات صديقة”. وفي هذه الفئة، يفتقر معظم المعتقلين إلى روابط هرمية مع منظمات رسمية. إنهم رجال ونساء قرروا إظهار التزامهم بالقضية الجهادية من خلال مبادراتهم الخاصة مثل نشر الدعاية الجهادية عبر الإنترنت. الأمر الذي يُيسّر هذا النشاط هو تصميم المنصات والخدمات، الذي يجعل أنشطة الدعاية سريعة وبسيطة ومتوافقة مع التزامات العمل والأسرة.
ويمكن القول إن “تأثير داعش” مسؤول إلى حد كبير عن حشد الأفراد المذكورين عبر الإنترنت. ومع ذلك، من المهم ملاحظة أن دورة التوسع في النشاط عبر الإنترنت تتوافق مع اختراق الشبكات الاجتماعية الرئيسة، واستخدامها عبر الإنترنت في أوروبا. ولم يفعل معظم الناشطين الذين استخدموا منصات “صديقة” ذلك؛ لأنهم كانوا يتبعون توجيهًا إرهابيًا محددًا يأمرهم بـ “غزو” الشبكات الاجتماعية على الإنترنت. بل كانوا موجودين بالفعل على منصات الشبكات الاجتماعية وكل ما فعلوه هو إعادة توجيه رسائلهم.
بالتزامن مع عملية التطرف الجهادي لهؤلاء الأفراد، تغيّرت ملفاتهم الشخصية على وسائل التواصل الاجتماعي. واستعيض عن المحتوى المتعلق بالمسائل التافهة والشخصية بمحتوى يركز بالأساس على الصراعات التي تشمل المسلمين، ودائمًا من منظور التنظيمات الإرهابية. طهّر مستخدمو الإنترنت المتطرفون شبكة معارفهم، حيث حذفوا الأصدقاء وأفراد العائلة الذين يعتبرونهم الآن أعداء أو مؤثرات شريرة واستبدلوا بهم أشخاصًا جددًا ممن يشاركوهم رؤيتهم العالمية للنضال الجهادي.
كبح وسائل التواصل الاجتماعي
باستخدام حواجز لعرقلة الوصول إلى النشاط الإرهابي عبر الإنترنت كمتغير تفسيري يعطينا منظورًا إضافيًا يساعد على تفسير الانخفاض الملحوظ في النشاط عبر الإنترنت، في السنوات القليلة الماضية. ذلك أنه عقب سنواتٍ من إظهارِ الشبكات الاجتماعية الرئيسة التزامًا فاترًا، أو فعالية لا تُذكر في حجب المحتوى الإرهابي على منصاتها ومنعه، تبنت هذه الدول الآن موقفًا استباقيًا أكثر4. ففي أواخر عام 2017، بدأت هذه الشبكات في اتخاذ إجراءاتٍ صارمة ضد خطاب الكراهية على الإنترنت، بل وحجب بعض المحتوى.
الآن، أصبح الفضاء على الانترنت، الذي سمح قبل سنوات فقط للمتطرفين بنشر دعايتهم وتوسيع دائرة جماهيرهم، مكانًا عدائيًا. وللمرة الأولى، واجه الجهاديون صعوبة في دخول الفضاءات الإلكترونية. ونتيجة لذلك، بدأ القائمون على الدعاية الجهادية التركيز على أهمية الحفاظ على رسائلهم على فيسبوك وتويتر ويوتيوب.
وفي حين توجد مواقع أخرى أقل تقييدًا لمشاركة المحتوى، إلا أنها غالبًا ما تستخدم من قبل أولئك الذين تطرفوا بالفعل. وبدون الوصول إلى شبكات التواصل الاجتماعي الرئيسة التي تضم عددًا ضخمًا من المسلمين، سيبقى مثل هؤلاء المستخدمون هامشيين.
الخلاصة
لم يبلغ النشاط الجهادي عبر الإنترنت أوْجَه إلا عندما جعلت المنصات “الصديقة” “الجهاد عبر الإنترنت” نشاطًا يسهل الوصول إليه، ولا يتطلب الكثير من الجهد. وقد حققت الحملة التي شنتها منصات التواصل الاجتماعي الرئيسة على الخطاب المتطرف نتائج جيدة، فحالت دون انخراط العديد من الأفراد في نشاطات التطرف عبر الإنترنت. وتكمن الإشكالية في أن سهولة الوصول إلى شبكة الإنترنت واستخدامها، تتيح للجماعات المتطرفة القدرة على الانتشار ببساطة، وتتيح للمستخدمين إعادة مشاركة المحتوى المتطرف نفسه الذي يصلهم بنقرة زر واحدة.
*أستاذ مشارك في العلوم السياسية في جامعة بابلو دي أولافيدي في إشبيلية (إسبانيا)، مدير دبلوم في تحليل الإرهاب الجهادي وحركات التمرد والتنظيمات المتشددة في هذه الجامعة.
المراجع:
- Winter, Charlie; Neumann, Peter; Meleagrou-Hitchens, Alexander; Ranstorp,Magnus; Vidino, Lorenzo and Fürst, Johanna. 2019. “Online Extremism: Research Trends in Internet Activism, Radicalization, and Counter-Strategies”. International Journal of Conflict and Violence 14(2): 1-20. https://www.ijcv.org/index.php/ijcv/article/view/3809/3868
- Nesser, Peter; Stenersen, Anne and Emilie Oftedal, Emilie. 2016.”Jihadi Terrorism in Europe: The IS-effect”, Perspectives on Terrorism 10 (6): 3-24. http://www.terrorismanalysts.com/pt/index.php/pot/article/view/553
- Ingram, Haroro J.; Whiteside, Craig and Winter, Charlie. 2020. The ISIS Reader: Milestone Texts of the Islamic State Movement, Oxford, Oxford University Press. https://www.hurstpublishers.com/book/the-isis-reader/
- Conway, Maura et al. 2019. “Disrupting Daesh: measuring takedown of online terrorist material and its impacts”, Studies in Conflict & Terrorism 42 (1-2): 141-160. https://www.tandfonline.com/doi/full/10.1080/1057610X.2018.1513984