ملاحظة المحرر:
تأتي هذه المقالة كمتابعةٍ لندوة “عين أوروبية على التطرف”، عبر الإنترنت؛ بعنوان “التداعيات العالمية للغزو الروسي لأوكرانيا” التي استضفناها في شهر مايو.. يمكنكم الاطلاع على الندوة الأصلية عبر موقعنا هنا.
سعيد الصديقي، أستاذ العلاقات الدولية في جامعة سيدي محمد بن عبد الله في فاس، المغرب.
تثير الآثار الواسعة والبعيدة المدى للغزو الروسي لأوكرانيا السؤال التالي: إلى أي مدى ستؤثر هذه الأزمة على النظام الدولي الحالي؟ يعتقد بعض المحللين أن الحرب الروسية على أوكرانيا، ورد فعل الدول الغربية، يشكلان نقطة تحوّل في تاريخ النظام الدولي.
من ناحيةٍ أخرى، يرى آخرون أن هذه الأزمة، وإن كانت تمثل تحديًا للنظام الدولي الحالي، فإنها لن تقود إلى تغييرٍ جوهري في طبيعته وهيكله، لأن هذا النظام، القائم منذ انتهاء الحرب الباردة، وانهيار الاتحاد السوفييتي، يتسم بدرجة عالية من المرونة تمكنه من استيعاب الصدمات الكبرى.
بالنسبة لدول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، تمثل هذه الأزمة تحديًا وفرصة على حد سواء. ذلك أنها تطرح تحديات اقتصادية كبيرة، لا سيّما في قطاعي الأمن الغذائي، وأمن الطاقة للدول غير المنتجة للنفط والغاز، على الأقل في الأجل القصير، وفي الوقت نفسه، من المنتظر أن تستفيد الدول المنتجة للنفط والغاز من مكاسب مالية غير متوقعة في إيراداتها من الصادرات. من ناحيةٍ أخرى، توجد أيضًا فرصٌ سياسية لدول منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا لإعادة تموضع نفسها في النظامين الدولي والإقليمي، خاصة في علاقاتها مع القوى الكبرى.
التحالفات التقليدية مقابل تنويع الشركاء
أحد الاهتمامات الرئيسة لصناع القرار في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا هو كيفية التوفيق بين الحفاظ على التحالفات التقليدية، والسعي إلى تنويع الشركاء الاستراتيجيين. بعد انتفاضات الربيع العربي، شرعتِ العديد من دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في عملية تنويع شركائها الاستراتيجيين، والسبب في ذلك إلى حدٍّ كبير هو أنها وجدت نفسها دون دعم أمريكي في ظلِّ ميل إدارة الرئيس باراك أوباما نحو إيران.
يمكن رؤية الموقف الأمريكي الذي يميل نحو تأييد إيران في أماكن مختلفة، حيث جرى تبني سياساتٍ أمريكية غير عادية، لا سيّما في سوريا (حيث انتهى الأمر بالولايات المتحدة إلى الانحياز إلى النظام المتحالف مع إيران)، وليبيا (حيث رفضت الولايات المتحدة الاستثمار في استقرار الوضع، ولم تتخذ أي موقف واضح ضد الفصائل المتشددة)، واليمن (حيث كانت الولايات المتحدة في أحسن الأحوال عشوائية في دعم جهود دول الخليج لاستعادة الحكومة الشرعية بعد الانقلاب الذي قاده الحوثيون الذين تسيطر عليهم إيران).
استمر الكثير من هذه الاتجاهات في عهد الرئيس دونالد ترامب، على الرغم من الأجواء الأكثر إيجابية من إدارة ترامب تجاه الحلفاء الخليجيين. وفي عهد الرئيس جو بايدن ازدادت الأمور سوءًا، خاصة مع سحب الولايات المتحدة بطاريات باتريوت الدفاعية المضادة للصواريخ من المملكة العربية السعودية في أواخر عام 2021، خلال فترة حرجة للأمن القومي السعودي، حيث كانت المملكة تتعرض لهجومٍ عنيف من صواريخ الحوثيين. ولا شك أن هذه كانت رسالة سلبية إلى حلفاء الولايات المتحدة عمومًا في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
في الفضاء الذي تركته الولايات المتحدة، تطلعت دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا إلى بدائل، أبرزها الصين، مع انضمام بعضها إلى مبادرة الحزام والطريق، وروسيا، التي رسّخت أقدامها بقوة في سوريا إلى جانب حليفتها الاستراتيجية إيران، وأصبحت قوة سياسية رئيسة في المنطقة. ومن غير الواضح ما إذا كانت استعادة بعض بطاريات صواريخ باتريوت إلى المملكة العربية السعودية في أوائل عام 2022، والتغيّر البادي في الاتجاه من إدارة بايدن بشأن العلاقات الأمريكية-السعودية في الأشهر القليلة الماضية، سيكون له تأثير مهم في عكس هذا الاتجاه.
هل هناك اتجاه نحو عدم انحياز جديد؟
هذا السؤال مهم، ويقفز إلى الأذهان بسبب مواقف العديد من دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا من الأزمة الأوكرانية، التي لا تتفق تمامًا مع حلفائها الغربيين. وهنا يمكن القول إن مواقف دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا فيما يتعلق بالغزو الروسي لأوكرانيا ليست بشكلٍ عام انعكاسًا للميل نحو عدم الانحياز. لكنها تأتي بحثًا عن شراكات مربحة للجانبين، وعن ضماناتٍ غربية أكثر متانة، فيما يتعلق بمصالحها الاستراتيجية الحيوية، وأمنها القومي قبل كل شيء.
هذه البراجماتية -التي تحاول تحقيق التوازن بين المصالح المباشرة والمصالح الاستراتيجية- هي التي تقف وراء تبني العديد من دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا حيادية محسوبة بين روسيا والغرب.
لا تزال الولايات المتحدة عامل استقرار رئيس في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا
في الواقع، على الرغم من سوء الفهم والخلافات التي زادت في السنوات الأخيرة بين الولايات المتحدة وحلفائها في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، فإن الولايات المتحدة لا تزال فاعلًا رئيسًا في المنطقة، ولها دور وتأثير حاسمٌ في الهيكل السياسي والأمني الإقليمي الحالي.
وعلى النقيضِ من ذلك، أثبتت الأزمة الأوكرانية بما لا يدعُ مجالًا للشك أن أوروبا غير قادرة حاليًا على الاضطلاع بدورٍ ملموس في دعم الأمن والاستقرار في الشرق الأوسط: فمن الواضح أن أوروبا غير قادرة على ضمان حتى أمنها الخاص، ولا تزال تعتمد على المظلة الأمنية الأمريكية.
ومع ذلك، فهناك تباين واضح في المصالح بين الولايات المتحدة وبعض حلفائها في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بشأن أوكرانيا. إذا نجح الغرب بقيادة الولايات المتحدة في أوكرانيا، فسوف يعزِّز ذلك دور الولايات المتحدة في النظام الدولي بأكمله، بما في ذلك أوروبا والشرق الأوسط، ومن شأن هزيمة روسيا أن يؤدي إلى عزل روسيا بشدة، إن لم يكن استبعادها، ما يحول دون قيامها بدورٍ مهم في النظام الدولي. وبالنسبة لدول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، فإن هذا الوضع من شأنه أن يحدَّ من حريتها في المناورة فيما قد يصبح نظامًا جامدًا ثنائي القطب، تقوده الولايات المتحدة والصين.
*يسعى موقعُ «عين أوروبية على التطرف» إلى نشرِ وجهاتِ نظرٍ مختلفة، لكنه لا يؤيد بالضرورة الآراء التي يُعبِّر عنها الكتّابُ المساهمون، والآراء الواردة في هذا المقال تُعبِّر عن وجهةِ نظر الكاتب فقط.