كايل أورتون*
أشارت تقارير موثوقة، خلال الأيام القليلة الماضية، إلى وفاة زعيم تنظيم القاعدة أيمن الظواهري، وهناك تقارير تفيد أيضا بمقتل اثنين من كبارِ نوابه. لكن هذا لا يعني أن الشبكة الإرهابية نفسها لن تصمد. ففي السنوات العشر الأخيرة، صمد التنظيم بعد مقتل مؤسسه أسامة بن لادن الذي كان يتمتع بشخصية كاريزمية. كذلك صمد التنظيم أمام تحديات واضطرابات “الربيع العربي”، وصعود تنظيم داعش، وجميعها تحديات أكبر من أي اضطرابات قصيرة الأمد قد تواجه عملية الخلافة.
أحدث الضحايا
في هذا الصدد، أورد حسن حسن؛ مدير “مركز السياسة العالمية” والمؤلف المشارك لكتاب بعنوان «داعش: داخل جيش الإرهاب» يوم الجمعة خبر وفاة الدكتور الظواهري. وقال إن هذه “الأخبار يجري تداولها على نطاقٍ واسع داخل دوائر [جهادية] قريبة” من الظواهري، وأن الظواهري قد تُوفي في وقتٍ ما في منتصف أكتوبر 2020 لأسبابٍ طبيعية. ومن غير الواضح ما إذا كان هذا يشير إلى وفاته نتيجة الإصابة بفيروس كورونا أم لا. كما أنه من غير الواضح في الوقت الحاضر ما إذا كان الظواهري في أفغانستان أو باكستان أو إيران (سنتحدث عن هذا لاحقًا).
التَّأخُّر في إصدار بيانٍ رسمي من القاعدة حول وفاة الظواهري ليس السابقة الأولى من نوعها. ففي أعقاب مقتل بن لادن في 2 مايو 2011، تم إعلان الظواهري زعيمًا بعد ذلك بستة أسابيع، في 16 يونيو. وحتى الآن لم يمر سوى أربعة أسابيع فقط على وفاة الظواهري المزعومة. ولعل أحد أسباب هذا التأخير هو أن خطة الخلافة الأصلية قد تغيّرت عندما قُتل حسام عبد الرؤوف (أبو محسن المصري) في قرية كونصاف، في إقليم غزني في أفغانستان، وربما في غضون أيام من الوقت الذي توفي فيه الظواهري. وأعلنت الحكومة الأفغانية أنها قتلت عبد الرؤوف في 25 أكتوبر، وقيل إن الغارة وقعت في ذلك الوقت “الأسبوع الماضي”، أي بين 12 و18 أكتوبر. وتجدر الإشارة إلى أن عبد الرؤوف كان على قائمة أهم المطلوبين لدى مكتب التحقيقات الفيدرالية الأمريكية لسنواتٍ عديدة.
مقتل عبد الرؤوف ذو أهمية إضافية: فقد تم اكتشاف أنه يعمل مع حركة طالبان، وهو دليل عملي على حقيقة أن الحركة لم تقطع صلاتها بتنظيم القاعدة على الرغم من اللغة الإيحائيّة المستخدمة في اتفاق الانسحاب الذي وقعته مع الأمريكيين في فبراير.
رد فعل الولايات المتحدة الخافت على مقتل عبد الرؤوف يعتبر تناقضًا صارخًا مقارنة برد فعل الرئيس دونالد ترامب على النجاحات الأخرى في مكافحة الإرهاب حيث أعلن ترامب في خطابٍ منمق بعد مقتل خليفة تنظيم داعش “لقد مات كالكلب”. رد الفعل الأمريكي المتحفظ لا يخلو من مغزى: لن تتراجع الولايات المتحدة عن جدول انسحابها في أفغانستان لمجرد أن طالبان تنتهك عناصر أساسية من اتفاق الانسحاب.
بالتزامن مع الأنباء التي تحدثت عن وفاة الظواهري، قالت مصادر لبلال سرواري، وهو صحفي أفغاني مطّلع، إن أسامة محمود قد يكون قد مات الآن أيضاً. أصبح محمود زعيم تنظيم القاعدة في شبه القارة الهندية، وهو الفرع الذي أنشئ في عام 2014، بعد مقتل أميره السابق عاصم عمر في أفغانستان في 23 سبتمبر 2019 (واكتشف أنه مثل عبد الرؤوف، يعمل في وحدة تابعةٍ لحركة طالبان). وقبل ذلك، كان محمود هو المتحدث باسم تنظيم القاعدة في شبه القارة الهندية. ولا تزال ظروف وفاة محمود المزعومة وتوقيتها غامضة تمامًا في هذه المرحلة.
الأمر الأكثر إثارة للانتباه هو أنه بعد ساعات من خبر وفاة الظواهري، ذكرت صحيفة “نيويورك تايمز” أن عبد الله أحمد عبد الله (أبو محمد المصري) قُتل في إيران “على أيدي عملاء إسرائيليين بناء على أمر من الولايات المتحدة”، وذلك اعتمادًا على شهادة مسؤولين في الاستخبارات الأمريكية. وأضافت الصحيفة أن عبد الله “قُتل بالرصاص في شوارع طهران على يد قاتلين كانا يستقلان دراجةً نارية يوم 7 أغسطس في ذكرى الهجمات على السفارة في شرق إفريقيا” في عام 1998 التي يُعتقد أن عبد الله هو مدبرها. وهنا تجدر الإشارة إلى أن مريم، ابنة عبد الله، أرملة حمزة بن لادن، الابن الوحيد لأسامة من زوجته الثالثة، خيرية صابر، قد قتلت في هذه العملية أيضًا. وقد أمضى حمزة سنوات عديدة في إيران، حتى أنه تزوج مريم أثناء وجوده هناك، قبل وفاته في غارة أمريكية بطائرة مُسيّرة، أعلن عنها في عام 2019.
وأضافت وكالة أسوشيتد برس المزيد من التفاصيل، حيث ذكرت أن العملية نفذتها “كيدون”؛ وهي وحدة تابعة للموساد الإسرائيلي، وكانت مريم هدفًا أساسيًا، وليس أحد “العناصر الجانبية” للعملية، لأن “الولايات المتحدة كانت تعتقد أن مريم يتم تجهيزها لتولي دور قيادي في تنظيم القاعدة، وتشير المعلومات الاستخبارية إلى أنها متورطة في تخطيط العمليات”.
ينبغي أيضًا ملاحظة أن خبر الاغتيال الذي وقع في طهران في 7 أغسطس 2020 أصبح معروفًا للعالم بعد وقتٍ قصير من وقوعه، لكن نظام الملالي تمكن من تغطيته تحت ستار من الدخان، قائلًا إن القتيل هو حبيب داوود، أستاذ تاريخ لبناني، وأن المرأة هي ابنته مريم. ثم ضخ النظام الإيراني من خلال نظام التضليل فكرة أن حبيب كان عضواً في حزب الله، فرع الحرس الثوري الإسلامي الإيراني الذي يتخذ من لبنان مقرًا له. ولا يزال هناك غموضًا حول المسؤول عن العملية، فلم يحدد سوى عدد قليل من المراقبين طريقة العمل على أنها الطريقة الإسرائيلية.
والآن أصبح واضحًا سبب حرص رجال الدين الثوريين الذين يحكمون إيران على إخفاء الهوية الحقيقية للرجل الذي قُتل في شوارع عاصمتهم قبل ثلاثة أشهر، وسبب استمرارهم في إنكار أنه عبد الله: ذلك أن وجود عبد الله يُسلّط الضوء، مرة أخرى، على العلاقة الممتدة التي تربط الجمهورية الإسلامية بالقاعدة.
إيران والقاعدة: البداية
تتبعت لجنة التحقيق في هجمات 11/9 تطورات الأحداث بالعودة إلى عام 1992، عندما بدأ الحرس الثوري الإيراني -من خلال القائد العسكري لحزب الله عماد مغنية- في توفير التدريب لمجاهدين القاعدة في سهل البقاع في لبنان. واتسعت هذه العلاقة وتعمقت خلال الحرب في البوسنة (1992-1995)، عندما عمل الحرس الثوري إلى جانب تنظيم القاعدة لدعم حكومة سراييفو، وهو ما اعترفت به القيادة الإيرانية في وقتٍ سابق من هذا العام.
كان تنظيم القاعدة قد طُرد من السودان إلى أفغانستان في عام 1996، ولكن ذلك لم يوقف العلاقات مع طهران. بل حدث العكس تمامًا. وكان تنظيم القاعدة يعتمد على الخبرة الإيرانية في تنفيذ إعلان بن لادن في فبراير 1998 الحرب على الغرب. وفى أغسطس عام 1998 فجّر تنظيم القاعدة سفارتي الولايات المتحدة في نيروبي ودار السلام ما أسفر عن مصرع 200 شخص وهي عملية يعتقد أن عبد الله يقف وراءها. وحكمت محكمة فيدرالية أمريكية بعد فحص الأدلة بأن “الدعم من إيران وحزب الله كان حاسمًا في تنفيذ القاعدة لتفجير السفارات في عام 1998”.
كانتِ المحطة الأخيرة على الطريق إلى 11 سبتمبر هجوم القاعدة على المدمرة الأمريكية كول في ميناء عدن في أكتوبر 2000. وتترك هجمات 11 سبتمبر نفسها بعض الأسئلة المحرجة للنظام الإيراني، نظرًا للتسهيلات وغيرها من المساعدات المقدمة لنصف الخاطفين، وأصبحت العلاقات بين الجانبين أكثر وضوحًا بعد الهجمات. فمع انهيار نظام طالبان- القاعدة في أواخر عام 2001، ذهب جزءٌ كبير من صفوف القاعدة وذهب زعيماها، بن لادن والظواهري، إلى باكستان. ولكن كما يشرح أدريان ليفي وكاثرين سكوت-كلارك في كتابهما «المنفى: هروب أسامة بن لادن»، فإن أغلبية القيادات الاستراتيجية في القاعدة ذهبت إلى إيران.
إيران والقاعدة: مرحلة ما بعد 11 سبتمبر
تشير وثائق كتاب المنفى أنه في ديسمبر 2001، عندما حوصر بن لادن وكبار مساعديه، اتصل بن لادن بقلب الدين حكمتيار؛ أحد قادة المجاهدين الأفغان القدامى الذي كان في ذلك الوقت في إيران، وقدَّم خدماتٍ لقائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، قاسم سليماني، الرجل الثاني بحكم الأمر الواقع في الجمهورية الإسلامية. وتضيف الوثائق أن حكمتيار ساعد قادة تنظيم القاعدة على الانتقال إلى إيران ودمجهم بين السكان العرب في المناطق الحدودية، في حين ذهب أحد رجال الدين في تنظيم القاعدة، محفوظ الوليد (أبو حفص الموريتاني)، إلى طهران للتفاوض لإجراء ترتيبات بشكل رسمي أكثر.
وفي يناير 2002، أبلغ مسؤولون إيرانيون الوليد بأن “أعلى سلطة”؛ أي سليماني، “وافقت على توفير ملاذ آمن للقاعدة”، كما كتب ليفي وسكوت-كلارك. وشملت الصفقة التي أبرمها سليماني مع الوليد جزءًا كبيرًا من القيادة العسكرية للقاعدة، وعلى رأسهم عبد الله ومحمد صلاح الدين زيدان (سيف العدل) وعبد الله رجب عبد الرحمن (أبو الخير المصري)؛ والمخطط الاستراتيجي مصطفى ست مريم نصار (أبو مصعب السوري)، والكثير من قيادات القاعدة الدينية، أشخاص مثل سليمان أبو غيث، والكثير من أفراد عائلة بن لادن.
وفي إيران في هذا الوقت أيضًا، كان يوجد أحمد الخلايلة، المعروف باسم أبو مصعب الزرقاوي، مؤسس ما كان يعرف باسم الدولة الإسلامية. في عام 2002، كان الزرقاوي يجوب المنطقة لتجنيد الأتباع، ووضع خطط لجلب الجهاديين إلى العراق بعد الإطاحة بنظام صدام حسين، وإقامة اتصال مع الجهاز الجهادي السري الواسع الذي كان موجودًا بالفعل في العراق. وقد أنجز الزرقاوي كل هذا قبل فترة طويلة من غزو مارس 2003، وساعدته إيران (كما فعل نظام بشار الأسد في سوريا). وكانت “قوة القدس… تساعد بقوة مقاتلي الزرقاوي في الوصول إلى المناطق العراقية التي يسيطر عليها الأكراد”. وأضافا أن “الزرقاوي كان يجوب جميع أنحاء المنطقة مستخدمًا جوازات سفر إيرانية حقيقية (…) ويتواصل بهاتف سويسري يعمل بالأقمار الصناعية وهاتفين إيرانيين وفرتها له قوة القدس”. وكان الزرقاوي قد “اعتقل” لفترة قصيرة في إيران عشية اجتياح العراق. ثم أطلق سراحه هو وجميع رجاله، و”رتب الإيرانيون جوازات سفر ‘خاصة’ له ولمقاتليه ‘للتسلل إلى العراق دون تأشيرة’ … [و] قامت قوة القدس أيضًا بتزويد الزرقاوي بالأسلحة والوثائق المزورة، بل وحتى المال”.
كثيرًا ما زُعم في السنوات اللاحقة -بمجرد الاعتراف بأن قادة تنظيم القاعدة كانوا في إيران- أنهم كانوا يعيشون هناك تحت “الإقامة الجبرية”، ولكن ليفي وسكوت-كلارك يوضحان أن هذا وصف متعمد مغاير للحقيقة.
لا شك أن قادة القاعدة في إيران كانوا مقيدين إلى درجةٍ معينة من حيث تحركاتهم، وأن إيران تعتبر وجود قادة القاعدة تحت مراقبتهم في طهران بمثابة تأمين ضد الإرهاب (أمر محسوب جيدًا حيث تظهر الوثائق الداخلية للقاعدة الجهود المضنية التي بذلها بن لادن في ضمان أن تنظيم الدولة الإسلامية، الذي أصبح فرعًا للقاعدة، لا يهاجم إيران. ورغم أن تنظيم القاعدة المركزي اختلف مع إيران إلى حد ما، ولكن هذا كان في الغالب حول شروط إقامة قيادات القاعدة في إيران. ولم يكن هناك أي اقتراح جدي من أي من الجانبين لمغادرتهم.
علاوة على ذلك، كانت العلاقات شخصية ودافئة جدًا. ولعل هذا المشهد الذي ورد في كتاب “المنفى” خير مثال على ذلك:
“كانت رفاهية عائلة أسامة مسؤولية شخصية للجنرال قاسم سليماني؛ قائد قوة القدس. وقال أبناء أسامة، الذين التقوه مرات عدة وأطلقوا عليه اسم “حجي قاسم”، إنه كان “نشيطًا وإيجابيًا للغاية”… عيّن قاسم اثنين من كبار ضباط قوة القدس في المبنى رقم 300. وكانت مهمتهم تزويد الضيوف بكل ما يحتاجونه. ووفروا لهم الأثاث وأدوات المطبخ والثلاجات الجديدة وأجهزة التلفزيون ذات الشاشات الضخمة. وقد مُنح الموريتاني [في إشارة إلى الوليد] “ميزانية غير محدودة” لتأسيس مكتبة دينية جديدة… وعندما جاء شهر رمضان في أكتوبر [2007]، دعا أعضاء مجلس الشورى وأبناء أسامة المسؤولين التابعين لقاسم لتناول الإفطار معهم… ورد الإيرانيون بأخذ أعضاء مجلس شورى القاعدة على متن عربات لتناول وجبة الإفطار في مطعم خمس نجوم. وبعد بضعة أيام، ظهر اللواء قاسم سليماني شخصيًا للاحتفال بقدوم العيد مع أبناء أسامة، جالسًا لتناول الإفطار مع ورثة أكثر إرهابيي العالم في سوء السمعة”.
الأهم من ذلك هو أن هذه “الإقامة الجبرية” لم تتضمن منع القاعدة من الانخراط في الإرهاب. بل على العكس. ذلك أن سيف العدل، الذي كانت “مناقشاته المنتظمة” مع سليماني لا يطّلع عليها حتى الوليد، وهو المنسق الرئيس مع الإيرانيين، كان قادرًا على مواصلة عمله في مجال الإرهاب الخارجي. فعلى سبيل المثال، كان سيف العقل المدبر للتفجيرات التي وقعت في الرياض والدار البيضاء في مايو 2003. وفي الفترة التي تلت مقتل بن لادن وتفكير سيف في شنّ هجمات انتقامية، “أوضح سليماني في أكثر من مناسبة أن إيران مستعدة للمساعدة إذا استفادت هي أيضًا”، كما يشير المؤلفان. لقد كان هناك قدرٌ كبيرٌ من حرية العمل لدرجة أن أبو الخير كان قادرًا على العمل لتطوير قنبلة قذرة، ولكن دون جدوى كما اتضح لاحقًا.
وحتى في العراق، حيث كان من المفترض أن يكون تنظيم القاعدة وإيران أكثر اختلافًا، فإن “خطوط الإمداد الإيرانية والأموال النقدية للقاعدة” مكّنت الزرقاوي، حسبما يشير ليفي وسكوت-كلارك، من العمل، وسُمح لسيف بإصدار توجيهات لمؤسس تنظيم الدولة الإسلامية. وفي هذا الصدد أيضًا، يشير بريان فيشمان في كتابه «الخطة الرئيسة» إلى أن الكُتيب الذي كان يتطلع إليه تنظيم الدولة الإسلامية لاستقاء الإلهام منه في كيفية خلق حالة فوضوية يمكن أن تظهر فيها دولة إسلامية، كتبه محمد خليل الحكايمة (أبو بكر ناجي) بينما كان في إيران إلى جانب سيف، وأن الرجلين “كانت لهما علاقات مع الحكومة الإيرانية قبل 11 سبتمبر”. وقد أكدت الأدلة على الأرض في ذلك الوقت هذا التداخل في المصالح: لقد فضّل النظام الإيراني مساعدة الزرقاوي في حربه الشاملة على إخوانهم الشيعة في الدين في العراق على ترسُّخ نظام مستقر وديمقراطي صديق للغرب.
غير أن الأمر لم ينته عند هذا الحد: ففي سوريا، على سبيل المثال، يُفترض أن إيران تحارب تنظيم القاعدة وفروعه، وأبرزها “هيئة تحرير الشام” (جبهة النصرة سابقًا)، ومع ذلك فإن إيران لا تزال تسمح لعناصر القاعدة الذين يُفترض أن يكونون في “عهدتها” بتشغيل “خط الإمداد الأساسي” الذي يغذِّي فروع القاعدة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا برمتهما. وهذا ليس بالأمر الهين، إذ أنه حتى مقتل عبد الله، كان يبدو أن عناصر القاعدة الموجودين في إيران محميين سياسيًا، ولا يزالون في مأمن من الطائرات الأمريكية المُسيّرة.
كل هذا معروف منذ فترة طويلة جدًا، ما يجعل من المستغرب أن تقول صحيفة نيويورك تايمز إن اكتشاف عبد الله في طهران كان “مفاجئًا، نظرًا لأن إيران والقاعدة عدوان لدودان”. فعلى سبيل المثال، كانت صحيفة نيويورك تايمز من بين أولئك الذين تحدثوا عن الصفقة التي أبرمت في عام 2015 التي “حررت” خمسة جهاديين من تنظيم القاعدة، ومن بينهم عبد الله وسيف وأبو الخير. ذهب ثلاثة من المفرج عنهم، بمن فيهم أبو الخير، إلى سوريا. ويُعتقد أن عبد الله وسيف قد ذهبا أيضًا إلى سوريا -وربما يكون أحدهما أو كلاهما قد ذهبا، لفترة وجيزة- ولكن خلال الخلاف العلني بين تنظيم القاعدة المركزي وجبهة النصرة في عام 2017، كُشِف عن أن عبد الله وسيف بقيا في إيران، ووصِفا بأنهما “الخليفان الثاني والثالث”. وإذا افترضنا أن ذلك كان صحيحًا -وإجراء مسح لمقاعد قيادات القاعدة يثبت أنه ليس هناك سبب للشك في ذلك– يبدو أن هذا يجعل سيف، زعيم القاعدة الأكثر حميمية مع الحرس الثوري الإيراني، الفائز في لعبة الناجين من الاغتيالات.
“الخليفة” سيف
في أعقاب سقوط بن لادن في عام 2011، جرى التخلص من صوت تنظيم القاعدة الأمريكي الكاريزمي والخليفة المحتمل أنور العولقي، وكذلك المدير العام للجماعة جمال المصراتي (عطية). وقُبض على عبد الرحمن سالم (يونس الموريتاني)، الذي كان يعتزم أن يكون منسقاً للأفرع، قبل نهاية ذلك العام. وجرى تصفية النجم الجهادي الصاعد محمد حسن القايد (أبو يحيى الليبي) في عام 2012 وبعد ثلاث سنوات، قُتل زعيم تنظيم القاعدة في جزيرة العرب والنائب العام ناصر الوحيشي (أبو بصير). حتى الشخصية الأقل قدرة على التجنيد والدعاية مثل آدم غدن (عزام الأمريكي) قد قُتل في عام 2015.
علاوة على ذلك، قُتل أبو الخير، الذي عُيّن نائبًا للظواهري بعد مغادرته إيران في عام 2015، في شمال سوريا، وأصبحت منطقة “إدلب الكبرى” منطقة موت لشخصيات القاعدة المخضرمة. وقد رحل حمزة، رغم أنه لا يُرجح أن يكون زعيمًا. وفي وقتٍ سابق من هذا العام، قُتل الزعيم الأطول بقاء في الخدمة لأحد أفرع القاعدة، عبد الملك دروكدال (أبو مصعب عبد الودود)؛ زعيم تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي.
ومع زوال عبد الله والظواهري وعبد الرؤوف، أصبح سيف آخرَ رجلٍ، متبقيًا، من هذا الكادر من المصريين، هؤلاء الرجال الذين كانوا في أواخر الخمسينيات والستينيات من العمر، وتعود أصولهم لجماعة الجهاد الإسلامي والحرب ضد النظام في القاهرة، قبل أن يبدأوا رحلتهم الأخيرة، بعد سلسلة من حملات القمع، وينصهروا في صلب تنظيم القاعدة.
فيما يتعلق بما يمكن توقعه من تنظيم القاعدة تحت قيادة سيف، فإن التنبؤات صعبة للغاية. هناك بعض الأدلة من ماضي سيف التي قد تكون أفضل المؤشرات على سلوكه المستقبلي. أحد العناصر البارزة، سواء كان تخطيطه لعملياتٍ إرهابية ومعارضته لهجمات 11 سبتمبر أو طلبه استقالة خالد شيخ محمد في عام 2002، هي أن سيف رجل واقعي؛ فهو متعصب براجماتي، وقادر على تبصّر أي العمليات ستكون لها تداعيات مكلفة جدًا. ومن المرجح أن يعزز عمره (60 عامًا تقريبًا) هذا التوجه، وإن كان لا ينبغي إساءة فهم عنصر الحذر هذا على أنه اعتدال: فقد كان سيف مقربًا من الزرقاوي –حتى أنه كتب سيرة ذاتية عنه– وتعاون الاثنان في التخطيط لاستراتيجية الكثير من عمليات تنظيم الدولة الإسلامية في أوائل ومنتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.
رغم هذا كله، وبعيداً عن ميوله الخاصة، سيتولى سيف قيادة تنظيم أُعيد تشكيله بشكل جذري منذ عام 2011، ناهيك عن عام 2001. وأيًا كانت الشكوك التي تحوم حول تورط تنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية في هجوم مجلة شارلي إيبدو، فإن هجوم بينساكولا في الولايات المتحدة في ديسمبر 2019 يُظهر أن لدى تنظيم القاعدة القدرة على شن هجمات في الغرب. ومع ذلك، فقد ولّت أيام الفظائع التي وقعت في 11 سبتمبر 2001، والديناميات داخل تنظيم لا تُحبذ حاليًا حتى الهجمات من نوع تلك التي وقعت في بينساكولا. ففي هذه المرحلة، أضحى تنظيم القاعدة أكثر لا مركزية، وصاحب هذه التحولات في ساحة المعركة تحولاتٍ أخرى أيديولوجية تجعل التنظيم يركز أكثر على الجهاد المحلي.
وهكذا، في هذه البيئة، خاصة في أفريقيا، التي تتسم بعدم الاستقرار في جميع أنحاء المغرب العربي، واشتعال بؤر جديدة للاضطرابات في المغرب وإثيوبيا، الذي يجذب قوى متنافسة وأجنداتها الاستراتيجية-الأيديولوجية حول دور الدين في الحياة العامة، سيجد الزعيم القادم للقاعدة فرصته للظهور والتألق والتوسع.
* محلل متخصص في الشأن السوري وقضايا الإرهاب.