يحصدُ كوفيد-19 أرواح آلاف الناس في جميع أنحاء العالم، محدثًا ارتباكاتٍ في المجتمع والاقتصاد والسياسة، وتغييرات جذرية في حياتنا جميعًا. وفي ظلِّ خطورته الشديدة، من المتوقع أن ترقى حالةُ الخوفِ منه إلى مستوى الخوفِ من الإرهاب وربما تحل محله، خاصة أن انتشار الوباء تزامن مع تراجعٍ واضح في العمليات الجهادية والنزعة الجهادية العنيفة، على الأقل في الغرب1.
أوجه التشابه
قد يكون من المفيد الآن مقارنةُ هذين الخطرين: الإرهاب، وفيروس كورونا. هناك بعضُ أوجه التشابه بينهما تستحق الاهتمامَ، وليس من قبيل المصادفة أن العدوى والفيروس أصبحتا استعاراتٍ متكررة في الخطاب حول الإرهاب العالمي2. الإرهاب وكوفيد-19 هما من قبيل الأخطار اللا إرادية، على عكسِ تدخين التبغ وخطورته، على سبيلِ المثال. وكلاهما في الأساس يمثلان تهديداتٍ منخفضة الاحتمال، وعالية المخاطر. كما أنهما يشكِّلان تهديداتٍ أمنية غيرِ تقليدية. وفي حين أنهما غالبًا ما يقارنان بالحروب، وذلك انطلاقًا من شدَّة خطورة كلٍّ منهما إلا أنّ كلًّا منهما، على عكسِ الحروب التقليدية، ليسا تهديداتٍ عسكرية تستخدمها الدول ضد الدول.
من الواضح أنهما أيضًا تهديدات عابرة للحدود الوطنية تتجاهل حدود الدول، فقد نشأ “كوفيد-19” من مقاطعة هوبي الصينية، ولكنه انتشر الآن في جميعِ أنحاء العالم، وبالتالي أصبح وباء. وفي كثيرٍ من النواحي، بمجرد أن يصل إلى دول أخرى، يمكن اعتباره نوعًا من التهديد المحلي. كوفيد-19 لا يختار ضحاياه، بل إنه أكثر من مجرد إرهابٍ عشوائي. بشكل عام، يمكن أن يكون كوفيد-19 أكثر فتكًا، على الأقل في الغرب. في إيطاليا (الدولة الأكثر تضررًا في الوقتِ الحالي)، وفقًا للبيانات الرسمية، تسبَّب كوفيد-19، في غضونِ أسابيع قليلة، في إيقاع عددٍ أكبر من الوفَيَات من أحداث 11 سبتمبر، الهجوم الإرهابي الأكثر كارثية في التاريخ.
في كلا التهديدين، فإن سمةَ المراوغة والمفاجأة تغذِّي الخوف منهما، فالإرهاب يقوم على السرية3، ومن جانبها فإن الفيروس غير مرئي بالعين المجردة، وغامض (على الأقل لغير المتخصصين). علاوة على ذلك، بالنسبة لكل من التهديدين، يشجِّع الخوف، وهذه السمات السابقة، على انتشارِ نظريات المؤامرة حول أصلهما وتطورهما.
التهديدان لا يثيران الخوفَ فحسب، بل عدم الثقة بين الناس. فيما يتعلق بالإرهاب، يمكننا أن نتذكرَ، على سبيلِ المثال، أنَّ أبا محمد العدناني، المتحدث الرسمي آنذاك باسم تنظيم داعش، في خطابٍ سيئ الذكر بعنوان “ويحيا مَن حيَّ عن بينة”، في 21 مايو 2016، حرّض المتعاطفين مع داعش على تخويف “الصليبيين” وإرهابهم، “حتى يخشى كلُّ جارٍ جارَه”. والهدف هنا هو بثّ الخوف من أن يكون الجار إرهابيًّا، يخفي نيته الشريرة الحقيقية، حتى لا يتمَّ التعرُّف عليه وإيقافه، على الأقل حتى اللحظة التي يستطيع فيها القيامُ بما يضمره.
ثمة شيءٌ مشابه لذلك، ينسحب على كوفيد-19، وفي هذه الحالة عدم ثقة المرء تجاه جاره، التي قد تكون أقل حدة ولكن أكثر شمولًا، ويُعزى ذلك إلى حقيقة أن الشخصَ الآخر، من دون قصد و(في غيابِ الأعراض) وحتى من دون علمه، يمكن أن يمثل مصدرًا للعدوى. وفي الواقعِ، في حالة العدوى غير الطوعية، يفقد الفرق بين الضحايا والجناة معناه، أو على الأقل يتغير تغيرًا جذريًّا فالجميعُ يمكن أن يكونوا، عن غيرِ قصدٍ، “جناة”، إذا جاز التعبير، بالنسبة للضحايا الآخرين فقط عن طريق جلب الفيروس.
الاختلافات
من ناحيةٍ أخرى، فالاختلافات بين الإرهابِ وفيروس كورونا أكثر إثارة للاهتمام. أولًا وقبل كل شيء، تجدر الإشارة إلى أن الإرهاب يعبر عن نفسه، بحكم طبيعته، في شكل أعمالٍ فردية. وقد تستمر الأعمال الإرهابية أيامًا عدة، لا سيما عندما تشمل أخذ رهائن، وقد تتحد مع بعضها بعضًا (كما هو الحال في الهجمات الإرهابية التي وقعت في الفترة من 7-9 يناير 2015 في باريس، على أيدي الأخوين كواشي وآميدي كوليبالي)، وبالطبع قد تتوالى سريعًا في إطار حملات عنف مكثفة. وتظلُّ الحقيقة أن العنفَ الإرهابي ظاهرة منفصلة، في حين أن المرض المعدي لا يحدث في شكل أعمال فردية منفصلة، بل يحدث في شكل موجة من الانتشار السلس والمتواصل.
وغنيٌّ عن القول إن الفرق الأكثر وضوحًا بين الإرهاب وكوفيد-19 هو أن الأول تهديد من صنع الإنسان، في حين أن الثاني من صنع الطبيعة. الإرهاب استراتيجية سياسية، لها أغراضُها السياسية ووسائلها. وعلى وجهِ الخصوص، فهي استراتيجية تولي اهتمامًا كبيرًا للعوامل النفسية: الإرهابيون لا يستطيعون هزيمة عدوِّهم المتمثل في دولة/دول مباشرة في ساحة المعركة بالقوة الغاشمة، ومن ثم يحاولون كسر إرادتها ومقاومتها.
ومن هنا تأتي أهميةُ البعد الرمزي للعنف، الذي يكاد يكون مسرحيًا/دراميا: لقد أشار العديد من العلماء إلى أنه يمكن تفسير الإرهاب بشكلٍ أساسي على أنه “مسرح”. في بعض الجوانب، يقوم على نصوص و”حبكات درامية/مؤامرات” ومخرجين وممثلين ومساندين، وبطبيعةِ الحال، الجماهير.
فكِّرُوا فقط في العنفِ الذي أذهل الناسَ في هجمات 11 سبتمبر 2001. وحتى بالنسبة للأعمال الإرهابية الخارجة عن المألوف بسببِ قوتها الفتاكة، مثل أحداث 11 سبتمبر، يبقى شيءٌ صحيحٌ في تعليقِ الخبير الأمريكي براين مايكل جنكينز قبل سنوات عديدة: “الإرهابيون يريدون أن يشاهد كثيرٌ من الناس الحدثَ، وليس كثير من الناس الموتى”. من جانبِها، لا تحرصُ الدولةُ على عدمِ سقوط الضحايا فحسب، بل أيضًا على عدمِ مشاهدة مواطنيها، وتعرُّضِهم لمثلِ هذا العنف. ومن هنا تكتسبُ معركةُ السيطرة على ذيوعِ العنف ومشاهدته أهميتها.
لا شكَّ أن كوفيد-19 ليس لديه أيُّ استراتيجية (ذات خطط وتمويل ودعاية، وما إلى ذلك) وليس فاعلًا استراتيجيًّا يُعدِّل أفعاله، ويتكيفُ معها بناء على سلوك الخصوم. وعلى عكسِ الإرهاب، لا يمكنه أن يلعب دورًا في معركة رمزية. ولذلك، فإن الدول والوكالات الأخرى في المجتمع في وضعٍ يمكنها من إدارة الرقابة على ظهور وذيوع الجوانب الأكثر إثارة في التهديد، إذ بإمكانهم إخفاؤها، أو على الأقل، أن يقرِّروا بأنفسهم كم وتحت أي ظروف ينبغي السماحُ بظهورها للجماهير.
ليس من قبيل المصادفة أن الجوانب الأكثر إثارة للصدمة من أثرِ الوباء على الناس، مثل المعاناة البدنية للمصابين، ظلَّت عمومًا مخفية عن الأنظار. أما الإرهاب؛ فهو ظاهرٌ للعيان بطبيعته. ومع ذلك، فإن الخوفَ الذي يثيره كوفيد-19 يتأتى على وجهِ التحديد من عدم قدرةِ الناس على رؤيته: مُسبِّب المرض لا يمكن اكتشافُه بالعين المجردة، ولهذا السبب فإن العدوى، في هذه المرحلة، لا يمكن تجنُّبُها عمليًّا، إلا من خلال التباعد الاجتماعي. ويمكن أن يقودَ هذا الجانب من الوباء إلى حالةٍ من الخوف أكثر عمقًا؛ بالمقارنة مع الإرهابِ لأنه غير مرئي، ومجهول الملامح، ومن دون مؤشرات.
الخوف واللوم
في الدول التي تتأثر بشدة بالفيروس، مثل إيطاليا، يمكن أن تفسِّر صعوبات إدارة هذه المعاناة المحاولات الرامية إلى إلقاء اللوم على مجموعات أو فئات اجتماعية محددة، حتى من دون أي أساس لذلك في الواقع. على سبيلِ المثال، أولًا ألقي باللوم على الشعب الصيني، ثم، بمجرد أن يتجذر المرض في الدولة، يُلقى باللوم على أولئك الذين يشتبه في عدم امتثالهم للقيود التي تفرضها الحكومةُ. وبما أنه من غير الممكن إلقاء المسؤولية والإدانة على الفيروس، يبحث الناس عن جناة آخرين، وربما حتى عن كباش فداء.
في الواقع، كثيرًا ما وصف الكتّاب، وكذلك المؤرخون، هذه الآلية خلال أزمنة الأوبئة: يمكن للمرء أن يفكِّر، على سبيل المثال، في ” untori” (ناشرو الطاعون) أيام طاعون ميلانو العظيم (1630)، الذي خلَّده أليساندرو مانزوني في روايته «المخطوبون»، إحدى روائع الأدب الإيطالي.
بالتمعنِ أكثر في الموضوع، نجد أن إدارةَ الخوف تبرز تناقضًا مثيرًا للاهتمام بين الإرهاب وفيروس كورونا. في الحالة الأولى، تسعى الدولُ بشكلٍ عام إلى احتواء الخوف، لطمأنة سكانها. في حالة كوفيد-19، يمكن القول إن الدول، على الأقل في بعض الظروف، قد تكون مهتمة، إن لم يكن بتغذيةِ الخوف، بإبقائه قائمًا إلى حدٍّ ما، مستفيدة من فرصة السيطرة على وضوح التهديد، بهدف دفع المواطنين إلى الامتثال للقيود المفروضة عليهم والضرورية لإنقاذ الأرواح.
في دول مثل إيطاليا، هناك دعوات متكررة بل وقوية لتفهم الظروف الحرجة التي تواجه المستشفيات، من أجل حثّ جميع المواطنين على أخذ الخطر على محمل الجد، ومن الناحية العملية، بالبقاء في منازلهم، بناء على طلب السلطات.
بشكلٍ عام، بعد وقوع هجوم إرهابي، عادة ما تطلبُ الحكومات من المواطنين العودة إلى حياتهم الطبيعية، بل وتوحي أحيانًا، عن حق أو باطل، بأن العودةَ إلى الأوضاع الطبيعية هي أفضل ردٍّ على التحدي الإرهابي.
ويمكن القولُ أيضًا إن ردود فعل الحكومات مختلفة جدًّا، إن لم تكن متعاكسة فيما يتعلق بالتهديدين. فمن ناحية، كثيرًا ما يقالُ إن الدول تميل إلى المبالغة في رد الفعل على الهجماتِ المفاجئة التي يشنها الإرهابيون. وبصرف النظر عن الأخطاء المحتملة في تقدير قوة الخصم، تضطر الحكومات على الصعيد المحلي إلى أن تظهر للسكان أنها تجابه بشكل نشط، بطريقةٍ أو بأخرى، التحديات الإرهابية، لدرجة أنها قد تخاطر بالوقوع في فخ استفزاز متعمد من جانب الإرهابيين4.
في ظلِّ الانتشار التدريجي للفيروس على الصعيدِ الدولي، اتُهمت الدول بالبطء في التحرك لمواجهة الوباء، لا سيما لأنها في كثير من الحالات كان بإمكانها الاستفادة بالفعل من التجربة السابقة للدول الأخرى (أولًا الصين، ثم إيطاليا، وما إلى ذلك). وفي حين أن الوباء في الصين قد انتشر فجأة، وبشكلٍ لم يسبق له مثيل، ما فاجأ الجميعَ في البداية، صحيح أيضًا أنّ ظهوره في دولٍ أخرى قد استغرق أسابيع، لكن في الأيام الأخيرة على وجه الخصوص، كان انتشاره واضحًا للجميع ويمكن التنبؤ به نسبيًّا. (وعلاوةً على ذلك، فإن خطرَ الوقوع في استفزاز غير وارد هنا بالطبع؛ لأن الفيروس بطبيعة الحال ليس فاعلًا متعمدًا واستراتيجيًّا).
في مواجهةِ كوفيد-19، ينبغي على الدولِ اتخاذُ قراراتٍ بالغة الأهمية، وبشكلٍ سريع في ظروفٍ غير متوقعة. والردود التي تمت بالفعل، وإن كان كثيرًا منها يُعتبر جاء متأخرًا ولا يرقى إلى مستوى التهديد، فإنها لم يسبق لها مثيل في وقتِ السلم، حيث كانت أقوى بكثيرٍ من ردود الفعل المعتمدة عمومًا ضد الإرهاب، على الأقل في الأجلين القصير والمتوسط.
فيما يتعلقُ بمكافحةِ الإرهاب، فإن فرضَ الإغلاق التام أمرٌ نادر ومحدود على أي حالٍ من حيث الزمان والمكان، لا سيما في الدول الديمقراطية: من بين الأمثلةِ القليلة على ذلك، يمكن للمرء أن يتذكرَ الإغلاقَ الأمني لبروكسل (25-21 نوفمبر 2015)، بسببِ وجود مؤشرات على وقوع هجماتٍ جهادية محتملة.
الجانبُ الأخير الجدير بالذكر، هو دور السكان في مكافحة هذا الخطر. قد تكون مساهمةُ المواطنين في مكافحة الإرهاب مهمةً جدًّا (من حيث إمكانية نقل المعلومات ذات الصلة إلى السلطات، على سبيلِ المثال)، ولكنها، عمومًا، تميل إلى أن تكون محدودة نسبيًّا ومتفرقة. في مواجهة وباء مثل كوفيد-19، يُعهد إلى المواطنين بمهام أساسية، رغم أنها بسيطة، إن لم تكن تافهة في نظر البعض: غسل أيديهم بشكلٍ صحيح، وممارسة التباعد الاجتماعي. وهنا يتركز البعد البطولي للتحدي بشكلٍ رئيس في خطوط الدفاع الأمامية: المستشفيات، مع مساهمة لا تقدَّر بثمنٍ من الأطباء والممرضين، وغيرهم، من المتخصصين في الرعاية الصحية.
وختامًا، في الوقت الذي يشكِّل فيه كوفيد-19 خطرًا يهدد مجتمعاتنا، فمن المفيد التأملُ في أوجهِ التشابه والاختلاف بينه وبين الإرهاب، ذلك الخوفُ الكبير الآخر الذي نُبتلى به في هذا الزمان.
* يسعى موقعُ «عين أوروبية على التطرف» إلى نشرِ وجهاتِ نظرٍ مختلفة، لكنه لا يؤيد بالضرورة الآراء التي يُعبِّر عنها الكتّابُ المساهمون، والآراء الواردة في هذا المقال تُعبِّر عن وجهةِ نظر الكاتب فقط.
** زميل باحث في برنامج التطرف والإرهاب الدولي في معهد الدراسات السياسية الدولية في ميلان.
المراجع:
[1] See, among others, Francesco Marone, “The Islamic State in the West”, Commentary, ISPI – Italian Institute for International Political Studies, 28 June 2019.
[2] Bruce Magnusson and Zahi Zalloua, eds, Contagion: Health, Fear, Sovereignty (Seattle, WA: University of Washington Press, 2012).
[3] See Francesco Marone, “L’organizzazione del segreto nei gruppi terroristici” [The Social Organization of Secrecy in Terrorist Groups], Rassegna Italiana di Sociologia, Vol. 55, No. 2, 2014: 303-334; Idem, “Abu Bakr al-Baghdadi and the Dilemma of Visibility”, European Eye on Radicalization, 27 October 2019.
[4] Actually, the assessments on the alleged exaggeration of the reaction compared to the threat do not always give due consideration to the fact that the threat may appear to be limited in retrospect precisely as a result of that reaction, on the basis of a mechanism similar to that of self-defeating prophecies.