قراءة: عين أوروبية على التطرف
في القرن التاسع الميلادي/ الثالث الهجري شهدت بغداد واقعة في غاية الفرادة كان بطلها الحارث المحاسبي وهو من المتصوفة السنة الكبار في تاريخ الإسلام، حيث يذكر التاريخ أن المحاسبي وهو شاب في ذروة الانقسام المذهبي بين أهل الحديث وأهل الرأي بين المعتزلة وخصومهم، تمسك بثوب والده الذي كان له رأي حذر في فتنة خلق القرآن لايتوافق مع مذهب ابنه، تذكر الواقعة أن الحارث أعلن في السوق على رؤوس الملأ أن أباه ليس مسلماً وأن عليه أن يطلق أمه لأنه حسب الحارث كافر وليس بمسلم، وبعد وفاة أبيه الذي ترك ثروة ومالاً رفض الحارث أن يأخذ منها شيئاً. وأياً كان موقف أصحاب الحارث وأقرانه من أهل الكلام والمحدثين والفقهاء في عقيدة والد المحاسبي، اعتبر المؤرخون هذا الموقف المتشدد على الدوام واحدة من أسباب اللمز والجرح في المحاسبي، كون الوالدين في الإسلام يحتلان مكانة رفيعة من القداسة والتبجيل.
تسعى هذه الدراسة* إلى تفسير حالات قتل الأهل والأقارب التي ظهرت فجأة بين عامي 2015، و2016 في المملكة العربية السعودية، وتركز على تحليل ستة من حالات قتل الأهل والأقارب نفذها من يمكن أن يطلق عليهم: الذئاب المنفردة لأسباب دينية، واستند الباحث فيها على منهج دراسة الحالة، والذي يركز على التعمق في تتبع حالة فردية أو ظاهرة، ويعد هذا المنهج- حسب الباحث- هو الأنسب للدراسة، خاصة وأنها ركزت على عدد محدود من الحالات، وهي ست حالات فقط، وقعت في مناطق مختلفة من السعودية.
وتنبع أهمية موضوع الدراسة من حقيقة أن هذه القضية لم تحظ بالاهتمام الذي يستحقه من جانب الدراسات الاجتماعية، فضلاً عن أن محاولة فهم دوافع قتل الأهل والأقارب يسهم في كشف الكيفية التي تنجح بها الجماعات الإرهابية في التأثير على الشباب، خاصة من خلال نشر الأفكار المتطرفة عبر منصات مواقع التواصل الاجتماعي.
وعلى الجانب الآخر، فإن حالات قتل الأهل والأقارب تحديداً حدثت في المجتمع السعودي بصورة مفاجئة، وبمعزل عن أي تطور تاريخي لها، خاصة وأن حالات قتل الأقارب التي وجدت بين عناصر القاعدة لم تمس الأهل وأصول القاتل (الأب والأم). وهي ظاهرة ارتبطت بصورة أساسية بالفكر الداعشي.
وتنبع خطورة هذه الظاهرة في سعي القائمين على هذا الفعل إلى تبرير قتلهم لأهلهم وأقاربهم بالاعتماد على أسباب دينية؛ بل ومحاولة تصوير هذا الأمر على إنه جهاد ضد الكفار، وضد من حاد الله ورسوله، وهو ما يرتبط بسعي تنظيم داعش إلى وصم الأهل والأقارب بالكفر، تمهيداً للتبرؤ منهم، وتبرير قتلهم. وعرفت الدراسة مفهوم قتل الأهل والأقارب لأسباب دينية على أنه: “قيام أحد أفراد الأسرة، الذي ظهر بمظهر الغيور على الدين، بقتل قريب له، لسبب ديني”، ومن ثم فإن المتغير التابع يتمثل في قتل الأهل والأقارب فقط، بينما المتغير المستقل فيتمثل في الفهم الخاطئ للدين.
ونظراً لأن أغلب من قام بقتل أفراد من أهله أو أقاربه كانوا ممن اصطلح على تسميتهم في الأدبيات الغربية بـ “الذئاب المنفردة”، الذين يؤيدون فكر داعش، فقد قدمت الدراسة تعريفاً لهم، بأنهم “الأفراد المتعاطفون مع أحد التنظيمات الإرهابية، والذين يؤمنون بأفكارهم، ولكن لا تربطهم بهم علاقة مباشرة، وينفذون هجماتهم، مع إعلانهم البيعة للتنظيم، إذا استطاعوا أو ترك بصمة تدل على أنهم مجندون لصالحه، وذلك بصفة فردية وبسلاح خفيف، أو أبيض، أو باستخدام السموم، بطريقة تسعى لتحقيق هزة في المجتمع وإحراج الدولة”.
وقد اعتمد تنظيم داعش على هذا الأسلوب، بصورة أساسية، حيث يسعى إلى توجيه خطاب للعناصر المتطرفة الموالية له عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وإصدارات التنظيم، خاصة مجلة دابق، إلى دفعهم لتنفيذ عمليات إرهابية، شارحاً لهم في العديد من الأحيان كيفية الإقدام على هذا الفعل الإجرامي.
وسعت الدراسة لتقديم مفهوم جديد، وهو “الإرهاب المباغت” لشرح حالات قتل الأهل والأقارب، والذي يقصد به أنه “إرهاب مفاجئ يتم بطريقة غير متوقعة، وينفذ بطريقة نوعية ويحمل عنصرين: أساسين: أولهما: المفاجأة، أي أنه عمل غير مألوف ولا متوقع، وثانيهما: أن تأثيره اجتماعي يتركز على إحداث هزة للمجتمع وفقد الثقة بين أفراده”.
وفي محاولة من الباحث، لفهم مصادر الفهم الخاطئ للدين، التي تدفع لقتل الأهل والأقارب، طرح الباحث أربعة مصادر محتملة لهذا الفكر، يتمثل أولها في التراث الإسلامي السلفي، إذ ذهبت العديد من الكتابات إلى إلقاء اللوم على الفكر السلفي المتطرف، وتحميله المسؤولية وراء نشوء حالات قتل الأهل والأقارب.
ووجد الباحث أن هذه الفرضية لا تصمد في الحالات محل الدراسة، خاصة وأن خصائص القاتلين وسماتهم الاجتماعية والاقتصادية، فضلاً عن البيئة التي عاشوا فيها لم ترتبط بالفكر السلفي، كما أن أكثر فتاوى التكفير التي صدرت من الجماعات الدينية المتشددة والإرهابية، عدا داعش، كانت موجهة ضد الأنظمة وضد القواعد العسكرية الأمريكية في المنطقة العربية، وليس من بينها تحريض على قتل الأهل والأقارب.
ويتمثل المصدر الثاني، في أن فعلهم هذا نتاج تأثر داعش بفكر الأزارقة، وهي واحدة من فرق الخوارج، التي كانت تستبيح القتل للمخالفين في الرأي، وتستحل قتل أولادهم وأهلهم، ويرى الباحث أن قتل الأهل والأقارب لأسباب دينية يمثل إعادة إنتاج داعش لفكر الأزارقة، خاصة فيما يتعلق بتكفير المخالف والتبرؤ منه وقتله.
أما المصدر الثالث لقتل الأهل والأقارب، فيتمثل فيما أسماه الباحث التدين البدائي، أي الأفراد الذين يتدينون فجأة وليس لديهم حصيلة معرفية دينية عميقة، الأمر الذي يجعلهم عرضة للاستغلال باسم الدين من جانب تنظيم داعش، ويجد الباحث أن هذا الطرح يكتسب وجاهة كبيرة في فهم الحالات الست محل الدراسة، خاصة مع نجاح داعش في توجيه الأفراد قليلي المعرفة الدينية، ودفعهم إلى القتل باسم الدين، والذين في أغلبهم كانوا من الذئاب المنفردة.
وأخيراً، تمثل المصدر الرابع فيما أسماه “العقل الأداتي”، ويرتبط هذا المصدر بفهم كيفية تأثير داعش على هؤلاء الأفراد، إذ إن قادة داعش يسعون لتوظيف أفراد لا يجمعهم بداعش إلا الإيمان بأفكاره المتطرفة ودفعهم لتنفيذ جرائم قتل عشوائية، بصورة تناسب البلدان المستهدفة، وبطريقة تعمل على تصعيد الاحتقان المجتمعي، بغض النظر عن محتواها ولا أخلاقياتها. ويرى الباحث أن أغلب الحالات الست كانت بمثابة أدوات تنفيذ للعقل الأداتي الذي يمثله داعش، حيث وجههم لقتل الأهل والأقارب باعتبارهم (أشياء) ليس لها قدسية.
وفي الختام، اقترح الباحث أربع توصيات يمكن أن تسهم في المحاولات الرامية إلى القضاء على هذا النوع من الإرهاب المجتمعي، وهي: حماية بيانات الأفراد الشخصية، وتعزيز القيم الصلبة في المجتمع، ودعم قيم العدالة بالقانون، وحماية قيم قدسية الأسرة.
ومع أن هذه الدراسة التي نعرضها للقاريء سباقة وتأسيسية إلا أنه من الجدير الإشارة إلى حالات أخرى عرفتها السعودية، وكان مرتكبوها والمخططون لها جهاديين متدينين منهم من يتبنى فكر القاعدة وآخرون على تخوم هذا الانتماء ولكنهم من المؤكد لاينتمون إلى الفكر الداعشي كون هذه الحالات وقعت قبل ظهور داعش، أو لكون أفرادها تأثروا بالأجواء العامة المشحونة في ظل صعود داعش من دون أن يكونوا ذوي انتماء واضح إلى تنظيم الدولة.
وشهدت المملكة العربية السعودية خلال الست عشرة سنة الماضية حالات أخرى من القتل أو التخطيط أو محاولات قتل الأهل والأقارب لدوافع دينية، أولها كانت أواخر عام 2003 استهدفت رجل أمن سعودي، نجا من تفجير سيارته بثوان، وأسفرت التحقيقات عن تورط ابن أخته في التخطيط للجريمة، وكانت السعودية شهدت في هذا العام 2003 عدداً من محاولات الاغتيال لمسؤولين أمنيين كبار. الثانية كانت في العام 2007 في بريدة غرب العاصمة الرياض شارك فيها شقيقان أحدهما كان ملازم قاض على التخطيط والمشاركة في تقييد و قتل خالهما ناصر العثمان وهو ضابط برتبة عميد في الأمن السعودي، قام الشقيقان مع طرف ثالث بقطع رأس خالهما وتشويه جثته، وقد نفذ حكم الإعدام في اثنين منهم في يناير من عام 2016.
الحالة الثالثة استهدفت مسؤولاً سعودياً كبيراً في التحقيق والادعاء العام (النيابة حاليا) كان قاضياً سابقاً، و كان أخوه أحد المخططين لقتله والترصد له، وتم القبض عليه قبل تنفيذ جريمته ولا يزال موقوفاً.
تعطي هذه الحالات السالفة وحالات أخرى لم تكشف السلطات السعودية عن أطرافها دلالة على ماتحتاجه دراسة مثل هذه الحالات من استقصاء وتتبع وأناة، لكي يخلص الباحث منها إلى نتائج أكثر موضوعية مستندة على الوقائع، ويمكن مع الصعوبات المتوقعة في بيئة بحثية متحفظة في تناول هذه الحالات العثور عليها وتحليلها وتناولها بالدراسة. وتحتاج مثل هذه الحالات إلى التعمق في دراسة مدى مكانة كل عائلة على حدة في الحالات التي تناولتها هذه الدراسة التي بين أيدينا ونفوذها ومدى تماسك أفرادها، والتلاحم بين أفرادها.
وتعود أسباب عدم الإعلان عن حالات أخرى مماثلة لم يُكشف عن أطرافها رسمياً سواء الضحية المستهدفة أو المخطِّط، لأسباب اجتماعية تتعلق بمكانة العائلة موضوع الحالة، أو نفوذها أو قلق السلطات من التبعات القيمية الخطيرة على النسيج الاجتماعي من تكاثر هذه الحالات المرعبة، والتأثير المدمر من تداولها كخبر أو جريمة متوقعة، مما له أثر سلبي على الثقة والأمن داخل الأسرة بين الأصول والفروع التي هي عماد صحة المجتمع وسلامته.
* د. عبدالرحمن الشقير، قتل الأهل والأقارب لأسباب دينية: دراسة حالة على المجتمع السعودي، منشورة على موقع كيوبوست، 25 ديسمبر 2018، والدراسة متوفرة على الرابط هنا