ليندا شليجل**
يُشكِّل التطرفُ والإرهابُ جزءًا من الوجود الإنساني منذ آلاف السنين. وتعود بعض من الممارسات الإرهابية المبكرة الموثقة إلى ما يقرب من 2,000 عام رجوعًا إلى الإمبراطورية الرومانية(1). من جانبٍ آخر، تشير الدراسات إلى أن الأعمال التي تعتبر إرهابية ظهرت مجددًا من خلال ممارسات طائفة “الحشاشين”[***] في القرن الحادي عشر(2). من جانبٍ آخر، فإن الثابت أن مفهوم التطرف والخطوات التي تمرُّ بها العمليةُ للوصول إلى الفعل المتطرف والعنيف بالصورة التي تحدث حاليًا، وفي الممارسات الحديثة، يُعتبر حقلَ دراسةٍ جديدًا نسبيًا. لقد ارتبطتِ النزعةُ المتشددة لقرونٍ بالتطور الاجتماعي، وفي حين أن العنف قد يشكل جزءًا من هذا التطور، فإن النزعة المتشددة لم تعتبر بالضرورة مسارًا للعنف. ويبدو أن أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 اعتبرت نقطة تحول مفصلية في مصطلح “التطرف” وظهرت التحليلات والكتابات في الفترة من 2004 إلى 2005 التي تؤطر للمصطلح لفهم الكيفية والأسباب التي تقود الأفراد للتمسك بأيديولوجياتٍ متطرفة، ويرتكبون بناء عليها أعمالًا إرهابية(3).
وبالتالي، يُعتبر حقلُ دراسات التطرف تخصصًا أكاديميًا حديثًا، فرغم وجود ممارسات إرهابية عبر التاريخ، الأناركيون في القرن التاسع عشر كانوا موضوعًا للبحث الأكاديمي، وكذلك موجة الإرهاب اليساري في أوروبا والولايات المتحدة في الستينيات والسبعينيات، والنزاع في أيرلندا الشمالية، فإن الباحثين في هذه الحالات جميعِها حلَّلُوا دوافع الإرهاب، والدور الذي لعبته عوامل مثل المظالم أو التركيبة الشخصية للأفراد والتركيبة التنظيمية للجماعات واستراتيجيات التوظيف من خلال الاعتماد على الأبحاث الاجتماعية الحالية. لكن الدراسات الحديثة هي التي أَوْلَت دراسة التطرف كعملية لتطوير عقلية متطرفة وإطار شامل لفهم العوامل الشخصية والاجتماعية والعوامل الأكثر شمولًا التي تُسهم في اعتناق الأيديولوجيات المتطرفة، وتدفع الأفرادَ نحو ارتكاب العنف، ولم يأت هذا الأمرُ إلا في طليعةِ الأبحاث الأكاديمية، في الآونة الأخيرة.
وفي حين أنه نُشر قدرٌ هائل من البحوث بشأن التطرف، وأُحرز تقدم في الكشف عن العمليات المؤدية إلى تبني أيديولوجيا متطرفة، فلا تزال هناك مشكلاتٌ رئيسة تواجه الباحثين. وحتى الآن، ثبت أن فهم عمليه التطرف مرهقة وشاقة؛ نظريًا وعمليًا، على المجتمع البحثي. وهناك تحديات متعددة مرتبطة بالبحث ونمذجة عمليات التطرف، بما في ذلك الوضوح المفاهيمي، وطبيعة الظاهرة موضوع البحث، وطبيعة العملية.
الوضوح المفاهيمي
رغم الأفكار الشائعة التي تقول “سأعرفه عندما أراه”(4)، فإن إيجاد تعريف مشترك للتطرف قد ثبت أنه صعب مثله مثل الاتفاق على تعريف عالمي للإرهاب، وذلك على الرغم من المحاولات التي بُذلت للتوصل إلى توافق أكاديمي في الآراء(5). ذلك أن تحديد ماهية التطرف ومن الذي يعتبر متطرفًا وخارجًا عن التيار السائد يعتمد على النقطة المرجعية التي يعتمدها الشخصُ في البحث، وهذا يتغير مع الوقت. فعلى سبيلِ المثال، في حين أن حق المرأة في التصويت يمثل جزءًا من مجموعة الحقوق والقيم السائدة في المجتمعات الغربية، لم يكن الحال كذلك في أوروبا والولايات الأمريكية في القرن التاسع عشر. ومن ثم، اعتبر المجتمع السائد الدعوة إلى هذه الحقوق خلال القرن التاسع عشر أمرًا متطرفًا. بالإضافة إلى ذلك، فإن وَسْمَ فرد أو مجموعة من الأفراد بأنهم “متشددون” أو “متطرفون” أو “إرهابيون” له تداعيات سياسية، ويمكن أن يبرر اتخاذ إجراء سياسي ضد مثل هذه المجموعات. ولذلك يمكن استخدام هذا المصطلح في الخطاب الشعبي لتشكيل تصور معين للواقع، وحشد الدعم لاتخاذ إجراءاتٍ محددة، ونزع الشرعية عن الجهات الفاعلة التي قد تُعتبر أو لا تعتبر متطرفةً في نظر التعريفات الأكاديمية المختلفة للمصطلح.
لقد ثبت أن تطوير وضوح مفاهيمي للتطرف صعب للغاية في الواقع الاجتماعي-السياسي الحالي. ومن ثم، فإن تعريف من هو المتشدد أو المتطرف أمر نسبي. وقد أحدثت السنوات الأخيرة تغييرًا على ما يُسمى بـ “نافذة أوفرتون”، أي القيم والأفكار التي يمكن اعتبارها جزءًا من التيار السياسي السائد. لقد شهدنا حدوث عملية “Pasokification”(6)-بمعنى انهيار المركز نسبة إلى الحزب الديمقراطي الاجتماعي اليوناني Pasokأو الحركة الاشتراكية اليونانية، الذي كان مهيمنًا في وقت ما، الذي تراجع التأييد العام له من 45٪ إلى 4٪ في عام 2015 بعد أن تغلبت عليه القوى الأكثر تطرفًا في اليونان- في العديد من الدول الغربية وإدخال أفكار وقيم في الخطاب الشعبي كانت تعتبر متطرفة وهامشية قبل عشر سنوات(7).
إذن، هل ينبغي أن تتغير التعريفات الأكاديمية للتطرف وفقًا للمناخ الاجتماعي الحالي؟ الواقع في نهاية المطاف هو أن دراسة التطرف لا تهتم فقط بالتطرف العنيف أو السلوكي فقط، بل أيضًا بالبحث في التطرف المعرفي، وهو مجرد تطرف في الأفكار. وإذا ما دخلت المزيد من الأفكار المتطرفة إلى الخطاب السائد، فهل نحن بحاجة إلى إعادة تعريف من الذين نعتبرهم متطرفين؟ هل نحن بحاجة إلى تطوير نماذج مختلفة للتطرف وفق البيئات السياسية المختلفة؟
وهكذا، نجد أن غياب الوضوح المفاهيمي يمثل إشكالية لنمذجة التطرف؛ لأن النماذج المطورة ستحتاج حتمًا لأن تكون مبنيةً على خط أساس أو نقطة مرجعية، طريقة للتفريق بين المتطرف و”الآخرين”. وإذا كان خط الأساس هذا غير واضح أو غير ثابت، فإن النماذج ستكون قائمة على أرضية مهتزة أيضًا.
طبيعة الظاهرة
نظرًا لأن الأنشطة المتطرفة غالبًا ما تكون سرية؛ فإنها تُشكل عقبة واضحة في إجراء البحوث المتعلقة بالتطرف. غير أن المواد الدعائية في هذه الأيام أصبحت قادرة على الوصول إلى المزيد من الناس بسبب الطفرة التي حدثت في وسائل التواصل الاجتماعي، التي تجعل من الناحية النظرية البحث في شؤون التطرف أسهل من ذي قبل. وذلك لأنه يسهل مراقبة الاتصالات عبر الإنترنت، عن الأماكن المادية مثل المكتبات أو المساجد. ومع ذلك، فلا بد من التفريق بين المواد التي توزعها التنظيمات المتطرفة وصداها لدى الجمهور. فإذا كان مجرد التعرض للمواد الدعائية يؤدي إلى التطرف، فإن مئات الباحثين سيصبحون متطرفين. وبالتالي، فإنه من دون معرفة من هم مستهلكو الدعاية، وما الذي يميز أولئك الذين سيتطرفون، مِن أولئك الذين يتعرضون للمواد، ولكن لا يغيرون وجهات نظرهم، قد لا يصبح الوصول إلى وسائل التواصل الاجتماعي ميزة لفهم عمليات التحول للتطرف.
ويجب أيضًا اعتبار وسائل التواصل الاجتماعي جزءًا مما يسميه جوفمان “الواجهة الأمامية”(8): بمعنى أن ما يُنشر ويظهر على الإنترنت ليس بالضرورة دليلًا على الواقع الاجتماعي للمستخدم خارج الإنترنت. المتصيدون، على سبيل المثال، ينشرون عن قصد تعليقات مثيرة للجدل لتحفيز النقاش، لكن هذه التعليقات لا تتطابق بالضرورة مع نظرتهم للعالم. وبالتالي، يجب توخي الحذر عند الحكم على التطرف من خلال تحليل الاتصالات عبر الإنترنت، خاصة إذا نشرت علنًا. ورغم أن تتبع سجل وسائل التواصل الاجتماعي للفرد يمكن أن يُسهِّل فهم تطور الأفكار المتطرفة في النظرة العامة لهذا الفرد، فإن بناء نموذج للتطرف بناءً على هذه الواجهات العلنية فقط من المرجح أن يكون نموذجًا غير مكتمل أو يميل نحو العوامل التي يتقاسمها الفرد علنًا، ومن ثم لا يقدم صورة شاملة.
طبيعة العملية
التحدي الثالث هو طبيعة الأشخاص الذين يخضعون للبحوث. على غرارِ أبحاث الإرهاب، تعتمد دراسة التطرف بشكلٍ كبير على دراسة الأشخاص الذين تم اعتقالهم؛ لأن من لم يتم اعتقالهم لا يمكن الوصول إليهم بسهولة. وهذا يعني عادة أن البحوث التي أُجريت على الأفراد المتطرفين تجري في مرحلة متأخرة للغاية من عملية التطرف الخاصة بهم، لأنهم إذا لم يخرقوا القانون فلن يتم القبض عليهم، وبالتالي لن يكونوا متاحين للباحثين. وللتوصل إلى نماذج دقيقة للتطرف، يحتاج الباحثون إلى الوصول إلى الأفراد في كل مرحلة من مراحل عملية التطرف. وهذا هدفٌ بعيد المنال، كما أن عدم توفر سبل الوصول إليهم يعني أن نماذج التطرف ستكون، في أحسن الأحوال، بمثابة إعادة بناء لعمليات التطرف أو مساعي نظرية. ذلك أن الروايات بأثر رجعي -حتى لو خضعت لأفضل تحليل ممكن- عادة ما تكون متحيزة؛ لأن الحالة الذهنية الحالية لدينا أو منظومة معتقداتنا غالبًا ما تُغير من طريقة تذكرنا للأحداث والدوافع السابقة. فالأشخاص الذين يخضعون للبحث قد يركزون بشكلٍ مُفرط على بعض العوامل أو يقللون من شأنها في رواياتهم للأحداث أو قد لا يكونون على دراية بالعوامل التي أدت إلى تغير نظرتهم إلى العالم. نحن، كبشر، عناصر عاكسة ]أذكياء قادرون على التفكير في سلوكياتنا وسلوكيات الآخرين، وكذلك التفكير في سلوك العالم الخارجي[، لكننا في العمليات المتعددة الجوانب للتغيرات المعرفية أو السلوكية، قد لا نتمكن من تقديم وصفٍ كامل للأسباب والعوامل الأساسية التي تدفع هذه التغييرات.
التطرف هو عملية فردية للغاية. وفي هذا الصدد، يتحدث مانوس رانستورب، الباحث في شؤون التطرف والإرهاب، عن مجموعة متنوعة ومختلفة ومتشابكة من العوامل أقرب إلى المشكال (أنبوب مرايا يحتوى خرز ملون، وحصى حر، وغيرها من الأشياء الملونة الصغيرة. المشاهد ينظر من أحد الأطراف ويدخل الضوء من الطرف الآخر، منعكسًا على المرايا)(9) التي تسهم في التطرف والصورة الناشئة في هذا المشكال تختلف من فرد لآخر. التطرف لا يتبع مراحل، أو سلالم، أو أهرامات أو مداخل موحدة، حتى لو كانت النماذج تتضمن مجموعة كاملة من العوامل وتسمح بدرجة كبيرة نسبيًا من المرونة(10). وبالتالي، فإن نمذجة التطرف تنطوي على خطر التبسيط المخل أو استبعاد العوامل التي لا يعتبرها الباحثُ مهمة. وهذا الأمر يصحّ بشكلٍ خاص في ظلِّ أن حقيقة الاختلافات الفردية التي يصعب ملاحظتها، مثل الكفاءة الذاتية المتصورة، قد تجعل من الصعب التمييز بين التطرف المعرفي والسلوكي(11).
باختصار، لن يستطيع أي نموذج أن يشرح بشكلٍ واف جميع حالات التطرف. وهذا صحيح بشكل خاص في ظل أن معظم النماذج (والجزء الأكبر من البحوث عن التطرف) تركز على النزعة الجهادية. وفي حين أن هناك نماذج تسعى إلى تفسير التطرف اليميني، فإن أشكالًا أخرى من التطرف مثل التطرف اليساري أو الإرهاب في قضايا محددة لا تخضع للبحث المتعمق. ولا يمكن بعد تحديد ما إذا كانت الآليات الأساسية أو عملية التطرف هي نفسها بالنسبة للمتطرفين الدينيين، والإثنيين-القوميين، واليمينيين، واليساريين، والمتطرفين في قضايا محددة. ومن غير المحتمل أن يستطيع نموذج مفرد للتطرف أن يلتقط بشكل كافٍ التنوع الفردي والأيديولوجي على السواء وأن يكون قابلًا للتطبيق في كل سياق.
الخلاصة
ختامًا، تنبغي الإشارة إلى أن كيفية وضع تصورات ونماذج للتطرف ليست مجرد موضوع نقاش أكاديمي. هذا الأمر يصوغ سياسات برامج منع التطرف ومكافحته، ويوجه تطوير البرامج وتنفيذها وتقييمها، ويدعم الممارسين في جهودهم لإعادة تأهيل المتطرفين. لذا، يجب أن يكون هناك نقاش مستمر بشأن طبيعة عملية التطرف، والظروف والمراحل المساعدة التي تقود إليها. ويتعين القيام بمزيدٍ من البحوث لمقارنة مسارات التطرف في أيديولوجيات وبيئات سياسية مختلفة، بغية التوصل إلى فهم أكثر شمولية للتطرف، ومن ثم، إلى نهج أكثر شمولية لمكافحة التشدد والتطرف في عالم اليوم.
* يسعى موقعُ «عين أوروبية على التطرف» إلى نشرِ وجهاتِ نظرٍ مختلفة، لكنه لا يؤيد بالضرورة الآراء التي يُعبِّر عنها الكتّابُ المساهمون، والآراء الواردة في هذا المقال تُعبِّر عن وجهةِ نظر الكاتب فقط.
**مستشارة في مكافحة الإرهاب في مؤسسة كونراد أديناور ببرلين
***طائفة إسماعيلية نزارية، انفصلت عن الفاطميين في أواخر القرن الخامس هجري/الحادي عشر ميلادي لتدعو إلى إمامة نزار المصطفى لدين الله، ومن جاء مِن نسله، واشتهرت ما بين القرنين 5 و7 هجري الموافق 11 و13 ميلادي، وكانت معاقلهم الأساسية في بلاد فارس، وفي الشام، بعد أن هاجر إليها بعضهم من إيران. كانت الاستراتيجية العسكرية للحشاشين تعتمد على الاغتيالات التي يقوم بها “فدائيون” لا يأبهون بالموت في سبيل تحقيق هدف
المراجع:
1 Koomen, W. and van der Pligt, J., The Psychology of Radicalization and Terrorism, Routledge: Oxon (2018).
2 Khosrokhavar, F. , Radicalization: Why Some People Choose the Path of Violence. The New Press: New York (2017).
3 Schmid, A., Radicalisation, De-Radicalisation, Counter-Radicalisation: A Conceptual Discussion and Literature Review, ICCT Research Paper, Retrieved from: https://www.icct.nl/download/file/ICCT-Schmid-Radicalisation-De-Radicalisation-Counter-Radicalisation-March-2013_2.pdf (2013).
4 Gewirtz, P., On “I know it when I see it”, Yale Law Journal. Vol. 105 (4). Retrieved from: https://digitalcommons.law.yale.edu/cgi/viewcontent.cgi?article=7665&context=ylj (1996).
5 Bötticher, Towards Academic Consensus Definitions of Radicalism and Extremism, Perspectives on Terrorism, Vol. 11 (4), Retrieved from: http://www.terrorismanalysts.com/pt/index.php/pot/article/view/623/html (2017).
6 Bartlett, J., Radicals Chasing Utopia: Inside the Rogue Movements Trying to Change the World. Nation Books: New York, (2017).
7 Ibid.
8 Goffman, E., The Presentation of Self in Everyday Life, Penguin Books: London, (1990 [1959]).
9 Ranstorp, M., RAN Issue Paper: The Root Causes of Violent Extremism, Retrieved from: https://ec.europa.eu/home-affairs/sites/homeaffairs/files/what-we-do/networks/radicalisation_awareness_network/ran-papers/docs/issue_paper_root-causes_jan2016_en.pdf (2016).
10 De Coensel, S., Processual Models of Radicalization into Terrorism: A Best Fit Framework Synthesis, Journal for Deradicalization, Vol. 17, pp. 89-127, (2018).
11 Schlegel, L., “Yes, I can”: what is the role of perceived self-efficacy in violent online-radicalisation processes of “homegrown” terrorists?, Dynamics of Asymmetric Conflict, (2019).