بلغت الدراما السياسية أوجها في مجلس النواب العراقي في 9 يناير 2022، حيث التقى البرلمانيون للمرة الأولى منذ انتخابات أكتوبر وكانت مهمتهم انتخاب رئيسٍ جديد للبرلمان، وفتح المجال للترشيحات لانتخابات الرئاسة العراقية. وقد شق أعضاء من منظمات المجتمع المدني، المعروفة أيضًا باسم حركة تشرين، طريقهم إلى المجلس في عربات (توك توك)، التي استخدموها في ثورتهم في أكتوبر 2019. ودخل أعضاء الكتلة الصدرية؛ تحالف “سائرون”، الذين فازوا بـ 73 مقعدًا من أصل 329 مقعدًا، إلى المجلس مرتدين أكفانًا بيضاء، ما يرمز إلى استعدادهم للاستشهاد. كانوا يقلدون ملابس آية الله محمد الصدر، والد زعيمهم مقتدى الصدر، الذي قتل وهو يرتدي أكفانًا مماثلة بينما كان يغادر مسجدًا في النجف في فبراير 1999.
لكن الاستعراضات الدرامية لم تتوقف عند هذا الحد. ووفقًا للتقاليد، ينبغي على النائب الأكبر سنًا افتتاح الجلسة البرلمانية، ولكن مع اقتراب محمود المشهداني من المنصة، قاطعته مجموعة من النواب الشيعة المدعومين من إيران، والمعروفين باسم الإطار التنسيقي. وتضم كتلتهم تحالف فتح الذي يقوده هادي العامري، زعيم منظمة بدر، وائتلاف دولة القانون بقيادة رئيس الوزراء السابق نوري المالكي، وائتلاف النصر الذي يتزعمه رئيس الوزراء السابق حيدر العبادي. وكان تحالف فتح قد مني بهزيمةٍ مذهلة في انتخابات أكتوبر، حيث تراجعت كتلته من 48 إلى 17 نائبًا. وتضم كتائب حزب الله ووحدات الحشد الشعبي، التي يُنسب إليها الفضل في تحرير العراق من داعش.
وكان ائتلاف دولة القانون الذي يتزعمه المالكي أكثر نجاحًا بكثير، حيث حصد 33 مقعدًا. وتدعي أن لديها 88 نائبًا، مجتمعة، وتصر على أن كتلتها المشتركة أكبر من كتلة مقتدى الصدر. وفي وقتٍ لاحق، طلبوا من المشهداني الاعتراف بهم كأغلبية برلمانية. وقد رفض الصدريون طلبهم على الفور، وعندما رفض المشهداني قبول مطالبتهم، قام أعضاء البرلمان في الإطار التنسيقي بتخويف رئيس البرلمان المؤقت البالغ من العمر 73 عامًا بالتزاحم حوله، ما أدّى إلى نقله إلى المستشفى.
نكسة لإيران؟
تعكس نتائج انتخابات أكتوبر مدى الانقسام الذي وصلت إليه الطائفة الشيعية العراقية. وقد صوَّر المعلقون الغربيون هذه النتائج بأنها هزيمة كبرى لإيران، وهو أمر غير صحيح. فبادئ ذي بدء، هذا الافتراض يعني أن الفائز في أكبر كتلة، مقتدى الصدر، لا هو خصمٌ لإيران ولا هو حليفٌ لها. لقد حاول الصدر بالفعل أن يعرض نفسه على أنه مستقل، حيث أضحى زعيمًا قوميًا وليس أمير حرب طائفيًّا. وفي أبريل 2017، دعا حليف إيران، الرئيس السوري بشار الأسد، إلى التنحي، وبعد ثلاثة أشهر، هبط في مدينة جدة الساحلية لإجراء محادثات مع ولي عهد السعودي محمد بن سلمان. وقد حققت كلتا الحيلتين الهدف المنشود للصدر وهي إعادة تقديم نفسه بشكل مختلف، لا سيما في الصحافة الغربية، لكن العديد من المراقبين أخفقوا في فهم المغزى الحقيقي لتعليقاته وأفعاله.
في سبتمبر 2019، ظهر الصدر في طهران لحضور احتفال ديني شيعي، حيث استقبله المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي. قبَّل الصدر يده وجثا على ركبتيه، وهو أمر لن يفعله أي ناقد لإيران. وعلاوة على ذلك، كان في الصيف الماضي أول سياسي عراقي يرسل برقية إلى الأسد، يهنئه فيها على إعادة انتخابه رئيسًا. وفي نوفمبر الماضي، أعلن الصدر أنه سيحل الميليشيا الشائنة التابعة له، لواء اليوم الموعود، مصورًا نفسه أنه سياسي مسؤول وغير أناني.
تجدر الإشارة إلى أن لواء اليوم الموعود هو الخليفة الرسمي لجيش المهدي، قوة شرسة من الميليشيات الشيعية رافقت صعود الصدر إلى النفوذ بعد الإطاحة بصدام حسين عام 2003، وأشرفت على عملية إعدامه في ديسمبر 2006. وقبل إعدام صدام هتفوا “مقتدى.. مقتدى”. تلك الميليشيات نفسها هي التي جعلت الصدر الرجل الذي هو عليه اليوم، وهو يدرك أنه لولاها لما فاز بـ 73 مقعدًا في المجلس الحالي.
على المرء أن يضع كل هذا في الاعتبار عند تحليل ديناميات القوة في مجلس النواب العراقي الجديد. قد تكون الكتل الشيعية تتناحر بسبب غنائم السلطة، ولكن أيًا منها ليس مناهضًا لإيران، ولا ينبغي تصويره على هذا النحو. الجدير بالذكر أن التصويت بالأغلبية في البرلمان العراقي يتطلب 165 نائبًا من أصل 329 نائبًا، وهو ما لا يملكه الصدر، ما يجبره على التعاون مع الكتل الأخرى. وكان لديه خيار إما العمل مع الإطار التنسيقي، أو مع الأحزاب السنية والأكراد. واختار الأخير، متحالفًا مع حزب التقدم الذي يضم جميع السنة ورئيس البرلمان محمد الحلبوسي والحزب الديمقراطي الكردستاني. وأعيد انتخاب الحلبوسي بعد ذلك رئيسًا للمجلس بعدد 200 مقعد من أصل 329 مقعدًا
صعود حاكم الزاملي
كانت هذه المرة الأولى منذ عام 2003 التي يخدم فيها رئيسًا لفترتين متتاليتين، وذلك بفضل الصدر. واعترض الإطار التنسيقي على ذلك، وخرج من القاعة، ولكن الدورة لم تفقد النصاب القانوني لها، ومضى في مهمته الثانية، انتخاب الرئيسين الأول والثاني للبرلمان. وفي مقابل دعم الصدر، انتخب ساعده الأيمن حاكم الزاملي النائب الأول لرئيس البرلمان، وانتخب شاخوان عبد الله من الحزب الديمقراطي الكردستاني النائب الثاني لرئيس البرلمان. وليست هذه هي المرة الأولى التي يتولى فيها نائب صدري هذا المنصب، الذي يشغله منذ عام 2018، شخص آخر معين من قبل التيار الصدري، حسن الكعبي.
الزاملي هو اسم سيئ السمعة في السياسة العراقية، يثبت سجله أنه ورئيسه متشددان متطرفان، ولا ينبغي أن يخطئ أحد أبدًا ويعتبرهما من الديمقراطيين، وحمائم السلام. وكان الصدر قد عينه نائبًا لوزير الصحة في مايو 2006، حيث استخدم سيارات الإسعاف لاختطاف المعارضين السنة في بغداد. وفي فبراير 2007، ألقت السلطات العراقية القبض على الزاملي بتهمة تزويد الميليشيات الشيعية الخاصة بالأسلحة واختطاف زميله عمار الصفار، وهو نائب آخر لوزير الصحة من حزب الدعوة المنافس. وتوسط الصدر لصالحه وأطلق رئيس الوزراء آنذاك نوري المالكي سراحه من السجن بعد تبرئته من جميع التهم الموجهة إليه. وفي العام الماضي، أثار الزاملي حفيظة العراقيين بقوله: “إذا كانت رئاسة الوزراء تذهب إلى أي حزب آخر غير التيار الصدري، فهذا يعني أن الانتخابات مزورة”.
ستكون المهمة التالية لمجلس النواب هي انتخاب رئيس جديد -الخامس منذ صدام حسين- إذا لم يرشح الرئيس الحالي برهم صالح نفسه لولاية ثانية. وهكذا، فإن الترشيحات لمنصب الرئاسة مفتوحة الآن. ومنذ عام 2003، كان منصب الرئيس مخصصًا حصرًا للأكراد العراقيين (باستثناء غازي الياور، الذي تولى الرئاسة في الفترة ما بين 2004-2005). ومع ذلك، فإن الرئيس الكردي هو إلى حد كبير شخصية صورية، حيث توجد السلطة الحقيقية في يد رئيس الوزراء الشيعي. يتم اختيار الرئيس من قبل ثلثي أعضاء مجلس النواب، وإذا لم يحصل أي مرشح في الجولة الأولى على هذا التأييد، فإن الأغلبية البسيطة تكفي في الجولة الثانية. ومن المرجح أن يؤيد الصدر أي شخصية يرشحها الحزب الديمقراطي الكردستاني للرئاسة، مقابل دعمهم لمرشحه لرئاسة الوزراء.
الشخصيات المرشحة لمنصب رئيس الوزراء
تتمثل المهمة الأكثر صعوبة في إيجاد بديل لرئيس الوزراء مصطفى الكاظمي. وكان الصدر قد أدّى دورًا حاسمًا في إعادته إلى رئاسة الوزراء في مايو 2020، ولن يمانع في إعادة تعيينه، نظرًا لعلاقات الكاظمي الممتازة مع الولايات المتحدة. ومع ذلك، فلن يسمح الإطار التنسيقي بذلك أبدًا، نتيجة موقف الكاظمي السلبي ضد وحدات الحشد الشعبي، وفروعها في كتائب حزب الله. بعد فترة وجيزة من توليه منصبه، داهم الكاظمي مكاتبهم، وصادر أسلحتهم، واعتقل أحد كبار قادتهم، جاعلًا نزع سلاحهم حجر الزاوية في سياسته الداخلية. ولا تخفي وحدات الحشد الشعبي رغبتها في إسقاطه، وتصفه بأنه ناكر للجميل وغدّار. ويعتقد أنهم وراء المحاولة الفاشلة لاغتياله في نوفمبر الماضي، عندما تعرّض منزله لهجومٍ بطائراتٍ مسيّرة محمّلة بمتفجرات مماثلة لتلك التي استخدمتها وحدات الحشد الشعبي في هجماتها المتكررة ضد أهدافٍ أمريكية في العراق.
من ناحيةٍ أخرى، هناك عدد قليل من الترشيحات التي يجري حاليًا تداولها كمرشحين محتملين لرئاسة الوزراء، بما في ذلك رئيس الوزراء السابق حيدر العبادي، الذي رشحه الحشد الشعبي. ومن بين المرشحين الآخرين محمد السوداني، وزير حقوق الإنسان السابق الذي خدم خلال فترة ولاية المالكي في الفترة 2010-2014، وسبق له أن شغل منصب محافظ ميسان في جنوب شرق العراق. هو وعائلته أعضاء قدامى في حزب الدعوة، وهو مرشح عن ائتلاف دولة القانون الذي يتزعمه المالكي. الشخص الذي يحل ثالثًا على القائمة هو أسعد العيداني، المحافظ الحالي للبصرة، مصرفي تحوّل إلى سياسي وكان قد فرّ إلى إيران خلال عهد صدام في فترة التسعينيات، وعاد بعد الغزو الأمريكي عام 2003 كعضو في لجنة اجتثاث حزب البعث، ومسؤول رفيع المستوى في المؤتمر الوطني العراقي. وقد سبق أن تم ترشيحه هو والسوداني لرئاسة الوزراء في عام 2019.
وبديلًا عن هؤلاء، قد يظهر مرشح جديد كليًا في الأسابيع المقبلة، إذا فشل الصدر ومحاوروه في الاتفاق على أيٍّ من المرشحين الحاليين. ويبدو أن الصدر يتفاهم بشكلٍ جيِّد مع السنة والأكراد، ويدعم مرشحيهم للبرلمان والرئاسة، مقابل تصويتهم لصالح الشخصية التي يختارها رئيسًا للوزراء.
ومع ذلك، سيتعين عليه أيضًا التوصل إلى اتفاق مع رفاقه الشيعة من أجل التوصل إلى حلٍّ مربح للجانبين يرضي جميع المكونات. ولا يمكن تشكيل مجلس وزراء بدون الصدريين، والإطار التنسيقي. وفي حين أنه ربما يكونون قد فقدوا قدرتهم على إملاء سياسة الدولة، لكنهم لا يزالون قادرين على زعزعة استقرار أي حكومة إذا لم يتم تمثيلهم أو استشارتهم، كما يودون بشأن تشكيلها.