أثّر ما يسمى بالربيع العربي على الشرق الأوسط تأثيرًا عميقًا جدًّا، وما زال أثره محسوسًا حتى اليوم، كما يتضح من الصراعات الإقليمية الجارية. وقد تناولت بحوثٌ أكاديمية مختلفة جوانبَ متعددة من الربيع العربي، وخصصت العديد من الكتب لتحليل تطور جماعة الإخوان المسلمين في مختلف الدول العربية.
تركز غالبية هذه الكتب على دراسات حالة فردية، وترسم صورة للجماعة في دول مثل تونس ومصر وغيرها سواء بشكل إيجابي أو سلبي. وقد تصدى بعض المحللين الغربيين لأنشطة جماعة الإخوان المسلمين في المجتمعات الغربية. ومن الأمثلة على ذلك كتاب لورينزو فيدينو «الإخوان المسلمون الجدد في الغرب»، وكتاب مارتن فرامبتون «الإخوان المسلمون والغرب: تاريخ من العداوة والمشاركة».
ومع ذلك، فمن النادر العثور على كتاب يحلل تطور جماعة الإخوان المسلمين ومسارها المستقبلي في مختلف الدول العربية ودورها في المجتمعات الغربية. في كتابه بعنوان «فشل الإخوان المسلمين في العالم العربي»، يتولى المؤلف نواف عبيد هذه المهمة الطموحة.
يلقي عبيد الضوء، في هذا الكتاب، على أصول جماعة الإخوان المسلمين في مصر، وما تبعها من انتشار في جميع أنحاء العالم العربي. ومع ذلك، كان تركيزه الأساسي على عودة جماعة الإخوان المسلمين في أعقاب الربيع العربي، الذي تحقق إلى حد كبير من خلال الدعم السياسي والمالي الذي تقدمه قطر، ودورها المتنامي في المجتمعات الغربية. ثم يتناول المؤلف فشل الجماعة بعد ثماني سنوات من الربيع العربي.
السعي للسلطة المطلقة في مصر
يسلط عبيد الضوء على تقرير لوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية “سي آي إيه” في عام 1986 والذي أشار إلى صلات جماعة الإخوان المسلمين بتنظيمات إرهابية مثل “الجهاد” و”جيش التحرير الإسلامي”، وإلى كتابات سيد قطب، عضو قيادي في جماعة الإخوان المسلمين أُعدم في عام 1966 بعد محاولة فاشلة لاغتيال الرئيس المصري جمال عبد الناصر. وتعتقد “سي آي إيه” أن جماعة الإخوان المسلمين كانت، وما زالت، تمتلك قدرات عسكرية وقت نشر التقرير.
في أعقابِ انتفاضة شعبية أدَّت إلى الإطاحة بالرئيس المصري حسني مبارك في عام 2011، حاولت جماعة الإخوان المسلمين بسرعة السيطرة على المشهد السياسي، وتمكنت من الفوز بقرابة نصف المقاعد البرلمانية في الانتخابات. غير أن المؤلف يشير إلى عدة أخطاء ارتكبتها الجماعة خلال هذه الفترة أدَّت إلى فشلها في نهاية المطاف.
كان الخطأ الأول هو فشل خيرت الشاطر العضو القيادي في الإخوان المسلمين في تأييد عبد المنعم أبو الفتوح لترشيحه للرئاسة. كان أبو الفتوح عضوًا سابقًا في جماعة الإخوان المسلمين، وكان مرشحًا مستقلًا، لكن الشاطر كان يعتقد أنه لم يكن “متطرفًا أو مطيعًا بما فيه الكفاية” للحصول على دعمه. سلوك الشاطر الشبيه بالديكتاتور خلال هذه الفترة دفع العديد من الأعضاء إلى ترك الجماعة.
ومضى الإخوان في اختيار محمد مرسي مرشحًا لهم وفاز في الانتخابات. بيد أن رئاسته لم تدم طويلًا. بدأ مرسي يتصرف وكأنه فرعون، فأصدر مراسيم وعرقل المراجعة القضائية. وبعد خمسة أشهر، بدا واضحًا للكثير من المصريين أن جماعة الإخوان المسلمين لم تكن مهتمة على الإطلاق بالديمقراطية، وأنها تتشبث بالسلطة المطلقة. وفي مارس 2013، التقى وزير الخارجية الأمريكي آنذاك جون كيري بمرسي في القاهرة. وبعد الاجتماع، خلص إلى أن “هؤلاء الرجال لا يفعلون أي شيء مثمر، وفى النهاية سيصبحون مناهضين للديمقراطية”.
إثر هذه التطورات، بدأ آلاف المصريين في النزول إلى الشوارع مطالبين بإسقاط حكومة مرسي الاستبدادية. وسرعان ما أصبحت الدولة مستقطبة في ظل أنصار جماعة الإخوان المسلمين الذين يحتشدون خلف مرسي ويقمعون أولئك الذين يقفون ضده. وبدلًا من محاولة سد الفجوة، أصبح مرسي أكثر رسوخًا في مواقفه.
وفي خطاب مرسي في 26 يونيو 2013 ألقى باللوم فيما يتعلق بالمشكلات التي تواجهها مصر على أولئك الذين وقفوا ضد جماعة الإخوان المسلمين. ثم اتخذ خطوات تصعيدية غريبة، فقد رشَّح عضوًا في حزبٍ سياسي مرتبط بجماعة عسكرية إسلامية لمنصب محافظ الأقصر، رغم أن جناحًا من هذه الجماعة ذبح أكثر من 60 شخصًا في موقع سياحي في عام 1997. أثار ترشيح محافظ الأقصر غضب المصريين الذين نزلوا إلى الشوارع مطالبين بانتخابات مبكرة. غير أن مرسي رفض واستخدم القوة ضد المتظاهرين. وبعد أسبوع، أطاح به الجيش المصري من سدة الحكم.
لم يكن قرار الإطاحة بمرسي مبنيًّا على سياساته الداخلية فحسب، بل على سياساته الخارجية التي كان يُنظر إليها على أنها تضر بأمن مصر. على سبيل المثال، وعد مرسي بتسليم الأراضي المتنازع عليها في حلايب وشلاتين إلى السودان. كما دعم خطة إثيوبيا لبناء سد الألفية الذي سيؤثر بشكل كبير على وصول مصر إلى مياه النيل الحيوية. كما وعد مرسي زعيم تنظيم القاعدة أيمن الظواهري بأن يحكم سيناء وأن يجنس أعضاء حماس هناك. كما وافق على صفقة بقيمة 200 مليار دولار، حيث سيسمح لقطر باستخدام قناة السويس، والسيطرة على الأهرامات وأبو الهول لمدة 99 عامًا.
خوفًا من الإطاحة الوشيكة بها، وضعت جماعة الإخوان المسلمين خطة -تدعمها قطر وتركيا- تستخدم الجماعات الإرهابية في سيناء لمهاجمة القاهرة. وتوجه القيادي البارز في جماعة الإخوان المسلمين محمود عزت إلى العريش للإشراف على تنفيذ الخطة، ووجه أعضاء الجماعة بتعطيل وسائل النقل العام في القاهرة والجيزة. وكُلفت كتائب عز الدين القسام العسكرية التابعة لجماعة الإخوان المسلمين في قطاع غزة باستهداف القيادة العسكرية المصرية. وفي الوقت نفسه، اتصل زعيما الإخوان، خيرت الشاطر وعصام العريان، بالسفارتين الأمريكية والبريطانية في محاولة لشرح وجهة نظرهما وتأمين دعمهما.
عندما علم الجيش المصري بهذه المؤامرة، قرر التحرك بسرعة لإحباط خطة جماعة الإخوان المسلمين، وصولًا بالإطاحة بمرسي من السلطة في 3 يوليو 2013. وردًّا على الإطاحة بمرسي، حشدت جماعة الإخوان المسلمين جماهيرها، وبدأت اعتصامًا كبيرًا في ساحة “رابعة العدوية” في القاهرة. ويرى عبيد أن الهدف من الاعتصام هو منع كل إمكانية لتشتيت المتظاهرين بشكل سلمي، وإثارة العنف. وأضاف أن بعض المتظاهرين كانوا مسلحين وأطلقوا النار على قوات الأمن. وفي نهاية المطاف، قامت قوات الأمن بفض الاعتصام بعنف، ما أسفر عن مقتل مئات المتظاهرين.
أدّت هذه التطورات إلى حدوث تحول في جماعة الإخوان المسلمين -خاصة في جيل الشباب- نحو الأفكار القطبية (نسبة إلى سيد قطب). وتأسست جماعة إرهابية جديدة تابعة لجماعة الإخوان المسلمين، هي حركة “حسم”، وبدأت في تنفيذ هجمات.
غُلبت في سوريا
في عام 1976، نفَّذت جماعة الإخوان المسلمين في سوريا تمردًا كاملًا ضد الرئيس حافظ الأسد. وفي يونيو 1980، حاولت الجماعة اغتيال الأسد وبدأتِ السلطات السورية حملةَ قمع ضد الجماعة، حيث أعدمت العديد من أعضائها. وفي 2 فبراير 1982، تمكنت جماعة الإخوان المسلمين من السيطرة على مدينة حماة. لكن القوات السورية استعادت المدينة بعد 27 يومًا، منهية بذلك نفوذ جماعة الإخوان المسلمين داخل سوريا، مع فرار أعضائها إلى المنفى.
ومع ذلك، فقد صعدت الجماعة على مسرح الأحداث في عام 2011 خلال الربيع العربي، وتمكنت من إعادة تأسيس نفسها في عدة مناطق من الدولة. وبدأت حربٌ أهليةٌ مضنية، ولم تبدأ كفة الحرب تميل لصالح النظام حتى منتصف عام 2019، حيث بدأت شعبية الجماعة في التراجع. ومع ذلك، تحاول تركيا وقطر -من خلال نفوذهما على المعارضة السورية المسلحة- تأمين دور للجماعة في أي حكومة سورية مستقبلية. لكن من غير المرجح أن يتحقق هذا الاحتمال لأن بشار الأسد يسيطر على قرابة 90% من أراضي الدولة.
تشرذم في الأردن
في الأردن، قرر الملك حسين -بعد توليه السلطة في عام 1952- استمالة جماعة الإخوان المسلمين إلى صفه. وفي محاولة لتعزيز شرعية حكمه، بدأ علاقة تعاون استمرت لعقود. وبحلول عام 1989، كانت جماعة الإخوان المسلمين لاعبًا مهمًا في النظام السياسي الأردني. ومع ذلك، أدَّى النفوذ المتزايد لحركة حماس على الإخوان الأردنيين، واعتراضهم على تغيير الملك للقواعد الانتخابية في عام 1993 إلى حدوث خلاف بين أنصار الملك وأعضاء الإخوان المسلمين الذين سعوا إلى إقامة دولة إسلامية.
ومع تولى الملك عبد الله الثاني السلطة في عام 1999، كانت التوترات بين الجانبين شديدة. وفي السنة الأولى من ولايته كملك، أمر عبد الله بإغلاق مكاتب حماس في الأردن. ثم تفاقمت التوترات بين الجانبين بشكل خاص بعد تفجيرات فنادق في عمان في نوفمبر 2005 -التي أعلن تنظيم القاعدة مسؤوليته عنها- التي أسفرت عن مقتل عشرات الأشخاص.
وفي حين أن الأردن كان بمنأى إلى حد كبير عن التمرد المستوحى من الربيع العربي، إلا أنه قد شهد احتجاجات كبيرة في عام 2012 دعَت إلى إصلاحات، حيث طالبت جماعة الإخوان المسلمين على وجه التحديد بتطبيق نظام ملكي دستوري. ورد الملك عبد الله بتنفيذ إصلاحات متواضعة. وفي وقتٍ لاحق، تبنى استراتيجية جديدة تهدف إلى تفتيت الجماعة: فمن جهة، حظر فرعًا واحدًا، مشيراً إلى علاقة هذا الفرع الوثيقة مع جماعة الإخوان المسلمين في مصر، ومن جهةٍ أخرى، أقام علاقات جيدة مع فرع آخر من الجماعة. ونتيجة لذلك، انقسمت جماعة الإخوان المسلمين إلى أربع مجموعات مختلفة، ما قلَّل من قدرتها على التأثير على السياسة الأردنية.
ترامب يعطي حماس دفعة في فلسطين
وبحلول عام 2017، عندما أصبح دونالد ترامب رئيسًا للولايات المتحدة، كانت حركة حماس قد فقدت الكثير من النفوذ في فلسطين. غير أن قرار ترامب نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس المحتلة مكّن الجماعة من الاحتفاظ بشعبيتها؛ لأن العديد من الفلسطينيين يعتقدون أن هذه الخطوة تمثل نهاية عملية السلام، وأن المقاومة المسلحة هي الخيار الوحيد المتبقي.
مواقف لا تحظى بشعبية في العراق
عارض الحزب الإسلامي العراقي في العراق -التابع لجماعة الإخوان المسلمين- المقاومة المسلحة للاحتلال الأمريكي، وشارك في مجلس الحكم العراقي الذي فرضته الولايات المتحدة، والذي كان يتعاون بنشاط مع إيران. ولهذا السبب اعتبرها العديد من السنة العراقيين دُمية في يد قوات الاحتلال. بالإضافة إلى ذلك، قطعت قطر دعمها المالي للجماعة إلى حد كبير، بعد أن قطعت السعودية والإمارات والبحرين ومصر علاقاتها مع قطر في يونيو 2017 بسبب دعمها للجماعات المتطرفة. وقد أدَّى ذلك إلى تقليص موارد الجماعة المالية وتآكل شعبيتها بشدة، كما يتضح من أدائها الضعيف في انتخابات مايو 2018.
فشل الانطلاق في لبنان
لم تنجح جماعة الإخوان المسلمين أبدًا في ترسيخ جذورها في المجتمع اللبناني، وهو ما يمكن أن يُعزى إلى التركيبة السكانية والسياسة الطائفية في الدولة. وفي حين أن معارضة لبنان لنظام الأسد قد وضعتها على مسار تصادمي مع “حزب الله”، فإن ذلك لم يترجم إلى دعم الإخوان المسلمين، التي جاء أداؤها سيئًا للغاية في انتخابات عام 2018.
حائط صد في الخليج
بالانتقال إلى الخليج، أشار عبيد إلى أن جماعة الإخوان المسلمين ما زال لها وجود في دول الخليج العربية، إلا أنها لن تكون قادرة على الوصول إلى السلطة والنفوذ، كما فعلت في بلدان أخرى. وعزا ذلك إلى حقيقة أن الغالبية العظمى من مواطني الخليج يؤمنون بالفعل بالمعتقدات الإسلامية المحافظة، ويعيشون في بيئة إسلامية، تعمل بدورها كحائط صد ضد محاولات جماعة الإخوان المسلمين التسلل إلى الدول الخليجية.
انعدام ثقة عميق في أوروبا
أعلنت جماعة الإخوان المسلمين تخليها رسميًا عن العنف في فترة السبعينيات، لكن إعلانها ينطوي على العديد من الثغرات. على سبيلِ المثال، أجازتِ الجماعة للمسلمين استخدام العنف للدفاع عن أنفسهم إذا شعروا بأنهم يتعرضون للهجوم. ولهذا السبب لا تثق مؤسسات الاستخبارات الأوروبية بالإخوان المسلمين. وقد أصدر “المكتب الاتحادي لحماية الدستور”، وكالة الاستخبارات الألمانية، تقريرًا في عام 2005 قال فيه إن الجماعة يمكن أن تشكل أرضية خصبة لمزيد من التطرف في ألمانيا. وفي بلجيكا، تعتقد وكالات الاستخبارات أن الجماعة لديها هيكلًا تنظيميًّا سريًّا، فميا تعتقد وكالات الاستخبارات في هولندا أن الجماعة ستمهد الطريق للإسلام المتشدد.
ورغم الدعم المالي الكبير -لا سيما من قطر- أخفقت جماعة الإخوان المسلمين في حشد الدعم في المجتمعات الإسلامية الغربية. ويمكن أن يُعزى فشلها أيضًا إلى رفض الاندماج في المجتمع الغربي، ودعمها المستمر للأنشطة الإرهابية، سواء في الدول المضيفة لها أو في الدول الإسلامية في الخارج.
الخلاصة
يختتم عبيد كتابه بالقول إن “فرص الإخوان في الحصول على السلطة والاحتفاظ بها في الشرق الأوسط قد تقلَّصت إلى الصفر تقريبًا”. وقد تعزَّزت توقعاته أكثر بإعلان إدارة ترامب في أبريل 2018 أنها تفكر في تصنيف جماعة الإخوان المسلمين كمنظمة إرهابية أجنبية. ومن شأن هذه التصنيف أن يحد من قدرة الجماعة على تقديم نفسها كقوة ديمقراطية في المجتمعات العربية والغربية.
يُعد كتاب عبيد أحد الكتب ذات المصداقية بشأن جماعة الإخوان المسلمين؛ فهو يقدم سردًا محايدًا لصعود الجماعة في مختلف الدول العربية، وعلاقاتها مع الجماعات المتطرفة الأخرى، وكيفية تعاونها معها واستخدامها، وكيف استخدمت الدعم الخارجي -خاصة من قطر وتركيا- لتوسيع نفوذها.
يستشهد المؤلف بمصادر استخباراتية غربية لإثبات صلات جماعة الإخوان المسلمين بجماعاتٍ إرهابية أخرى، سواء تكتيكيًا أو عملياتيًا. كما يقدِّم عبيد استنتاجًا مهمًا يخالف العديد من الكتب التي تناولت الإخوان المسلمين. وبدلًا من أن يعزو فشل جماعة الإخوان المسلمين في بعض الدول العربية إلى قمع الحكومات لها، يوضح عبيد أن السبب الرئيس لفشلها هو تراجع شعبيتها في أوساط الجماهير العربية.